كان البغداديون ايام زمان (وربما لازال بعضهم الى
الان) ينامون صيفا على سطوح منازلهم تخلصا من حرارة الجو اللاهبة . فما ان يحل شهر
نيسان حتى ترى العوائل تنصب الاسرة على أسطح البيوت وتفرش عليها الافرشة وتبدأ
بالنوم عليها في الليل . وترافق هذه العادة بعض الطقوس التي كان الناس يمارسونها
مثل الصعود في وقت المغرب الى السطح لفرش الافرشة لتكون مهيأة للنوم لانهم عادة ما
يلفونها في الصباح عند الاستيقاظ . ومن الطقوس الاخرى التي كانت تجري مع هذه
العادة وضع (تًنكة) مملوءة بالماء على سياج السطح من المغرب لكي يضربها الهواء ويبرد
الماء فيها لكي تستعمل في اطفاء ظمأ العطشان أبان الليل , وكذلك وضع صينية فيها
بعض الرقي او البطيخ يجري تناوله قبل النوم . في الاشهر الاولى من الصيف يكون الجو
مساءا لطيفا وتكون نومة السطح من ابدع ما يكون , ونفس الشيء يحصل بالأشهر المتأخرة
من الصيف مثل ايلول وتشرين أول . لكن مع حلول منتصف الصيف في أشهر حزيران وتموز
وأب تصبح تلك النومة لا تطاق من شدة الحر . ومن الاساليب التي كان الناس
يستخدمونها للتغلب على ذلك الحر هي برش ارضية السطح بالماء عند الغروب لكي يصبح
المكان باردا بعض الشيء ساعة حلول موعد النوم وكذلك رش بخات من الماء على الافرشة
عند فرشها لكي تبرد ايضا , وهي اجراءات كان تجدي بعض الشيء لكنها لم تكن تحل
المشكلة بشكل كبير . كانت الاسرة التي توضع على السطوح على الاغلب حديدية (سيسم) ,
بينما كانت بعض البيوت تستعمل في بعض الاحيان أسرة مصنوعة من اعواد سعف النخيل .
وكان البق يكثر اثناء فصل الصيف ويزعج النائمين مما يدفعهم الى نصب (كًلة) فوق
اسرتهم , وهي قماش رقيق ذو فتحات مسامية تسمح بمرور الهواء بينما تمنع دخول البق .
ومن الازعاجات الاخرى بهذه النومة هي ذباب الصباح , حيث يهاجم النائمين بمجرد شروق
الشمس ويوكر على وجوههم ليوقظهم من نومتهم . ومن حسن الحظ ان الجو غالبا ما يكون
باردا عند الفجر مما يمكن المرء من تغطية وجهه ليتخلص من هذا الزائر البغيض .
واذكر ان احد بيوت اقربائي كان يقع في منطقة الكريعات حيث البساتين الكثيرة التي
يكثر بسببها البق والحرمز في تلك المنطقة , وقد نصب رب الاسرة بالسطح غرفة مغلفة
بشبكة من السيم الذي يستعمل بالشبابيك تخلصا من تلك الحشرات .
لمعظم الناس قصص وذكريات عن نومة السطح , واني
ايضا لي بعض الذكريات احب ان ارويها هنا . حين كنت ساكنا مع اهلي بالبصرة في
الستينات كان بيتنا كبقية بيوت شركة نفط البصرة مكيفا مركزيا بالايركوندشن , لذلك
لم نكن نحتاج للنوم بالسطح . لكن حين كنا نذهب الى بغداد بالعطلة الصيفية وننزل في
بيت جدي كنا ننام مثلهم بالسطح . كانت هذه النومة هي احدى التغييرات التي تطرأ على
حياتنا بهذه الفترة , وكنت اعشق هذه النومة لما اجد فيها من متعة بالغة , غير ان
ما كان ينغص هذه المتعة فعلا هو البق والذباب المزعج مما يجعل نومة السطح التي
احبها تطلع من خشمي . ما كان رائعا بنومة السطح هو ان النوم هناك جماعيا مما كان
يخلصني من وحشة النوم بمفردي في غرفتي لاني كنت في صغري كثير الخوف من الظلام ومن
النوم وحيدا . كما ان تلك النومة كانت تتيح لي الفرصة لتأمل السماء والاطلاع على
ما فيها من روعة . كنت افتقد رؤية منظر السماء والاطلاع على نجومها في حياتي
بالبصرة , لكن في بيت جدي ببغداد كان اللقاء بها والاطلاع على مناظرها هو موعد
يومي يحل كل ما أويت للنوم على السطح . اول لقاء لي مع السماء كان يحصل في القطار
بليلة السفر الى بغداد حيث كنت اترجل منه في كل محطة يتوقف فيها لاطلع على المحطة
وما فيها . ومن بين ما كنت انظر اليه السماء , وكم كان يذهلني منظرها وهي مرصعة
بملايين النجوم يتوسطها شريط ذو كثافة ضوئية عالية عرفت فيما بعد بأنه مجرة دررب
اللبانة وهي المجرة التي تنتمي اليها مجموعتنا الشمسية . كان هذا العدد الهائل من
النجوم يظهر بالسماء لان اغلب محطات القطار تقع في مناطق نائية حيث مستوى الاضاءة
قليل فتظهر معظم النجوم للعيان مهما كانت خافتة , اما في المدن فبسبب الاضاءة
العالية تختفي تلك النجوم ويصبح من الصعب رؤيتها بما في ذلك شريط درب اللبانة(او
درب التبانة) .
كنت يوميا قبل النوم اطلع بتركيز واهتمام كبير
الى السماء وانظر الى النجوم وكم كنت اعدها واحدد مواقع النجوم البارزة فيها كل
ليلة , كما كنت كثير الاهتمام باسمائها والقصص التي تروى عنها . وفي بعض الليالي
كنت اسال اخي الكبير عصام عن النجوم اذا صادف ان يصعد للنوم بنفس الوقت الذي اصعد
فيه فيذكر لي بعض اسمائها ويقص لي بعض الحكايات التي تروى عنها . ومما كان يلفت
نظري بالسماء نجمتان متوهجتان تقع كل واحدة منهما في طرفي السماء , وقد سألت اخي
عنهما فقال لي بانهما نجمتي (قيس وليلى) . وعن هاتين النجمتين حدثني قائلا بانهما
تمثلان قيس وليلى لانهما وبعد فشل حبهما في الدنيا وماتا رفعهما الله الى السماء
بشكل نجمتين وضع كل واحدة منهما في احد طرفي السماء وجعلهما تتحركان بأتجاه بعضهما
البعض , وحين تصبحان على وشك التماس يفرقهما فتبدأن بالابتعاد من جديد حتى تصلان
الى طرفي السماء ثم تعاودا الكرة مرة اخرى , وهما على هذا الحال منذ ان صعدا الى
السماء . كما كان يروي لي قصة النجوم السبعة المسميات (بنات نعش) حيث يقول بان
رجلا كان يعيش مع بناته السبعة في منطقة نائية , وحين مات قامت البنات السبعة
بتكفينه ووضعه بنعش رفعه اربعة منهن وتوجهن لدفنه بينما سرن البنات الثلاث
المتبقيات خلف النعش لتشييعه الى موقع الدفن . وتقديرا لهؤلاء الفتيات الصالحات
رفعهن الله الى السماء كسبع نجمات عرفانا لبرهن بوالدهن ووضعهن بالسماء بنفس
الترتيب الذي كن عليه أثناء التشييع . انطبعت هذه القصة بذهني ولازلت لحد اليوم
استذكرها كلما رأيت بنات نعش بالسماء . والغريب اني قرأت قصة مختلفة تماما عن هذه
النجمات السبعة في أميركا حيث يسمين هناك بـ (دلة الشرب
Drinking Gourd) لأن شكلهن يشبه
تماما دلة شرب الماء . وقد ألفت عن هذه النجمات اغنية اسمها (اتبع دلة الماء
Follow The Drinking Gourd) كان يغنيها الزنوج الهاربين من العبودية في
أميركا لانها تقود من يتبعها نحو الشمال حيث كندا وحيث الحرية . ان ما دفعني
لكتابة هذه الخاطرة بموضوعها هذا هو ان قريبي رب الاسرة التي كانت تعيش بالكريعات
ببغداد والذي نصب بسطح داره غرفة السيم قد توفي قبل يومين ولديه ثلاث بنات نشرن
خبر نعيه . وما ان سمعت بهذا الخبر المحزن حتى تذكرت قصة بنات نعش فقررت ان اكتب
هذه الخاطرة مستذكرا نومة السطح ومنظر السماء ونجومها ومترحما على روحه بذات الوقت
. وهذه بعض صور
السطوح والاسرة المستعملة للنوم فيها , وبعض مناظر السماء ونجومها
.