قطار العمر

قطار العمر

هكذا هي الأيام تضعنا فجأة في قطار طويل مملوء بالركاب ثم تدق بناقوسها العظيم دقة كبرى معلنة لحظة الأنطلاق لتمضي بنا برحلة طويلة تتنقل بنا من محطة إلى أخرى .. وما أكثر المحطات التي نمر بها وفي نفس الوقت ما أقلها .. ينزلنا القطار في محطات مليئة بالأفراح تارة وفي محطات تعج بالأحزان تارة أخرى .. تتوالى علينا الأيام مسرعة ويمضي بنا قطار العمر دون توقف فتأخذ الحياة أعمارنا عنوة لتحقق سنتها الثابتة في هذا الكون عازفة سميفونيتها الابدية التي لا تكل ابدا من تكرارها باستمرار ..

كثيرة وعديدة هي المحطات التي مر بها قطارنا .. وكم من محطة توقفنا فيها وعشنا أسعد اللحظات لنسطر في كتابنا ذكريات جميلة حفرت في قلوبنا وتركت في أعماقنا أجمل المعاني والعبر .. فمن مرحلة الطفولة البريئة إلى مرحلة المراهقة الجميلة فمرحلة الشباب البديعة .. ثم مرحلة الرجولة فالكهوله لننتهي بمرحلة الشيخوخة التي طالما دعونا لمن نحب بان يبلغوها بالرغم من كل مساوئها .. وكم من مرة توقفنا لبرهة في محطات رائعة احببنا الوقوف عندها طويلا إلا أن قطارنا أبى ذلك فكان يأخذنا بخلاف رغبتنا ويمضي بنا الى محطات اخرى .. وكم تمنينا ان نعود الى تلك المحطات الجميلة ثانية ولو للحظات كي نحيا أوقاتها السارة مرة اخرى لكن هيهات ان يحدث ذلك ..

وكم تألمنا لان البعض توقف في منتصف الطريق أو في أوله او ربما بعد الإنطلاق مباشرة حين سمع هاتفا من بين النجوم يناديه فترجل من القطار مسرعا ومضى من غير عودة .. لكننا عدنا وأمنا بالقضاء والقدر واقتنعنا بان كل إنسان لا يأخذ الا حظه من الدنيا .. اما اصحابنا الذين لم يستمروا معنا ونزلوا مسرعين في المحطات الاولى فهم لم يفعلوا الا ما ارتأته عين الله البصيره .. فصبرنا على من فارقناهم مبكرا ومضينا مع قطارنا السائر بعزم واصرار .. وكم من اصحابنا من هبط في احدى المحطات واستقل قطارا أخرا ولم يعد الينا ابدا فانقطعت صلتنا به وغابت عنا اخباره .

وكم منا من تغير اثناء الرحلة حسب المحطات التي ترجل فيها ونوع الزاد الذي حمله منها .. فمنا من حسن شكله وابيض وجهه لانه رأى الدنيا بمنظار المحب المتفائل فتفتحت اساريره وابتسمت الدنيا بوجهه .. ومنا من قبح مظهره واسود لونه لان الكره والحقد ملأ قلبه فساءت حياته وعتمت ايامه وغابت الفرحة من قاموسه ..

وكم من محطة توقفنا فيها لكن لم ينلنا منها الا الألم والحزن الذي ترك فينا جراحات نزفت طويلا ولم يخفت  ألمها بسهولة .. لكنها لم توقفنا ولم تهد من عزيمتنا بل جعلتنا اكثر قدرة على المضي حتى نهاية الطريق وهنا تتجلى حكمة المولى ومقدرته .. فمن يريد الورد لابد ان يصبر على لسع الأشواك وما أجمل أن يحظى المرء بوردة جميلة حتى وان أنزلت من يداه بعض الدماء .. فكيف بنا أن نعلم دون ان نتعلم .. وكيف بنا ان نصح دون أن نتغلب على الجراح ونتحمل كل ألامها .. وكيف بنا ان نقوى ويشتد ساعدنا دون ان نلاوي الصعاب وننسى متاعبها .. وكيف بنا ان نمتلك العزيمة مالم نكره الجمود ونتغلب على الملل فيزول اليأس من حياتنا .. وكيف بنا ان نتألق من غير ان تتطهر انفسنا من مشاعر السوء ونغسل عقولنا بقطرات الدموع لتذهب عنها احاسيس الكره ويزول منها داء الغيرة والحسد فيملأ الحب كل حياتنا ..

وأذ يمضي بنا قطارنا الى وجهته النهائية حيث لا مناص من الترجل ونزول من بقي فيه من الركاب في محطتهم الأخيره ليس هناك ما يقال سوى .. ما أسعد من أستغل تلك الرحلة بعمل أشياء مفيدة ونافعة له ولغيره ... وما اعظم فرحة من حقق الكثير مما تمناه في حياته .. وما اروع من ملأت حياته الرغبة بالعطاء وصار شجرة مثمرة يقطف منها الاخرون .. وما اجمل من كان وفيا وتواصلت نفسه مع من يحب وحتى مع من لم يحب .. واذ تنتهي رحلتنا يعود القطار ليبدأ رحلة جديدة مع اناس جدد سالكا دروبا مختلفة ومارا بمحطات جديدة لتتواصل رحلة الحياة السائرة الى امام دون توقف وبلا انتظار .

وسام الشالجي

10 مايس (مايو) 2015