اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 8 مايو 2016

خواطر بالاسود والابيض - مناسبة زكريا ايام زمان


بمناسبة حلول مناسبة زكريا قررت ان اكتب خاطرتي هذا اليوم عن هذه المناسبة الجميلة . حين انتقلت للعيش في بيت جدي بعد قبولي بكلية العلوم وسفر اهلي الى الكويت اصبحت اعيش بقوة الكثير من المناسبات الاجتماعية والدينية ومن بينها مناسبة يوم زكريا . قد لا ابالغ اذا قلت بان هذه المناسبة كانت تحيا في بيت جدي باهتمام بالغ يفوق اي مناسبة اخرى , وكانت الطقوس التي تجري خلالها لا يرقى الى قدرها اي مناسبة مماثلة تقام في اي بيت اخر من بيوت المعارف والاقرباء . فقبل عدة ايام من حلول هذه المناسبة كان افراد العائلة في بيت جدي يتوجهون الى الشورجة لشراء الشموع والكرزات والحلويات والتنك والدنابك والدفوف وغيرها من لوازم هذه المناسبة . وبعد ان يتم تهيئة كل المستلزمات نتطلع الى اليوم الذي تحل به هذه المناسبة والذي هو اول احد من شهر شعبان الذي يسبق شهر رمضان المبارك . وعند حلول ذلك اليوم نبدأ من الصباح بالاعداد للمناسبة التي تجري طقوسها عند المغيب حيث نقوم بنصب الشموع الكبيرة في قواعد خاصة هي على الاغلب سندانات من الحديقة . كانت اكبر شمعة والتي يبلغ طولها بطولي تقريبا مخصصة لخالي الكبير الدكتور ناجي بصفته الشخص الاكبر في عائلة بيت جدي وبنفس الوقت المسؤول عن اعالة الاسرة . وما بعد تلك الشمعة العملاقة يتم تخصيص شموع اصغر لبقية افراد الاسرة حيث يتناسب كبر وطول الشمعة حسب عمر الشخص واهميته في الاسرة , وكانت حصتي انا شمعة صغيرة لاني كنت الاصغر بين افراد الاسرة . كانت الشموع الكبيرة توضع خارج البيت بصف طويل بالحديقة بينما توضع الشموع الصغيرة بصينية كبيرة تنصب داخل صالة البيت (الهول) . واذكر بان الصينية الكبيرة كانت صينية ضخمة منقوش عليها (وقف الحاج رزوقي) الذي هو جدي من امي والذي كان قد توفي حتى قبل ان أولد . وحول الصينية الكبيرة كانت تنصب عدة صواني صغيرة بها شموع اغلبها من الكافور وتزين جميع الصواني بتنك فيها اغصان واوراق الياس الذي كنا نقطعها من الحديقة . ومن الطريف ان التنك ايضا كانت تخصص لافراد الاسرة حيث تخصص للذكر تنكة بها (بلبول) بينما تخصص للانثى تنكة سادة . وحول الشموع والتنك توضع مواعين الكرزات والحلويات من لقم وجكليت وحامض حلو ومن السما , وطبعا على رأسها مواعين تحوي على الزردة والحليب الذي كنت لا احبه ولا اتقرب منه .
وعند حلول المغيب تبدأ المراسيم باشعال الشموع حيث يقوم كل شخص باشعال شمعته الخاصة بينما تشعل شموع الغائبين من اقرب الناس اليهم . بعدها تبدأ مجاميع الزوار والاقرباء بالتوافد على البيت افواجا افواجا لشهرة تلك المناسبة ومعرفة الجميع بمدى اهتمام اسرة بيت جدي في احياءها بحيث يقرر اغلب من نعرفهم بان لا يفوتوا حضورها عندنا ابدا . وكان كل شخص يأتي الى البيت يشعل شمعة كافور خاصة به حتى تصبح الوضعية عبارة عن ملحمة شمعية . طبعا كان الحرص يتخذ الى اقصى درجة حتى لا تتحول المناسبة الى حريجية يمكن ان تسبب كارثة . وكنت انا بتلك الفترة لا ازال بمشاعر وعقلية المراهقة لذلك كنت افرح بمثل هذه المناسبات للغاية لانها ستكون مناسبة للقاء بنات الاقرباء والاصدقاء من شقراوات وسمراوات واسعد بتبادل الاحاديث معهن مما يظفي على المناسبة بنظري حلاوة ما بعدها حلاوة . وبعد ان يتم اشعال الشموع وحضور عدد لا بأس به من الزوار يبدأ الغناء الذي يستهل بالدق على الدنابك والدفوف نبدأها طبعا بأغنية (يا زكريا عودي عليه ... كل سنة وكل عام وانصب صينية) . ومما اذكره عن هذه المناسبة ان جدتي صبرية رحمها الله (أم والدتي) كانت تتضايق من مثل هذه المناسبة لانها بسبب عمرها كانت تكره الضجيج والازدحام لذلك كانت تجلس في موضعها بالهول معبسة وقد ظهرت عليها علائم الضيق والضجر غير مبالية باظهراها امام الجميع , بل انها كانت كثيرا ما كانت تردد مع نفسها كلمات تنم عن تضايقها من الوضعية وشدة الازدحام الحاصل , غير ان اغلب الحاضرين كانوا لا يبالون بمواقفها لانهم يعرفون طبعها ويقدرون سنها . واذكر في احدى مناسبات يوم زكريا ان خالي المخرج المرحوم فاروق القيسي كان موجودا بوقتها واخذ يدق على الدنبك ويغني احدى الاغنيات التي تنسجم مع المناسبة بصوت عالي . اخذت علائم الضيق تتصاعد عند جدتي وراحت تردد مع نفسها كلمات (بس كافي .. اسكت فاروق ... كافي فاروق) وبصوت اخذ يتصاعد تدريجيا حتى اصبح مسموعا من قبل الكل وبشكل اخذ يؤثر على صوت وغناء خالي فاذا به يغضب بشدة وينهض من مقعده ويرفع الدنبك ويضربه بالارض فتطايرت اجزائه في كل انحاء الهول صائحا (ها ... هيجي تريدين) . تشنج الموقف فجأة وخيم الوجوم وارتبك الجميع بسبب هذا التصرف فما كان من خالي الاصغر سعد غير ان يطلق ضحكة عالية وهو يقول (هاي خوش حركة ويا الاغنية) محولا الموقف برمته الى اشبه بطرفة فاخذ كل الحاضرين يضحكون ومر الموقف بسلام .
وعند ساعة متأخرة من الليل وانطفاء معظم الشموع الصغيرة , وبعد الكثير من الغناء وتبادل الاحاديث الجميلة وتبادل النظرات والغمزات بيني وبين البنات الحاضرات يأخذ الجميع بالمغادرة لتنتهي هذه المناسبة الجميلة والسعيدة . وبعد يوم متعب وجميل كنا نأوي الى اسرتنا تاركين الشموع الكبيرة بالحديقة وهي مشتعلة دون ان نخشى شيئا لانها موضوعة بشكل امين . وعند حلول الصباح كنت اسارع بالخروج الى حديقة الدار لاستطلع الموقف وغالبا ما كنت ارى معظم الشموع قد انطفأت باستثناء الشمعة العملاقة المخصصة لخالي ناجي حيث تكون على الاغلب لازالت مشتعلة لكنها في اواخرها .
والان , وبعد كل هذا الزمن الذي مر كم احن الى تلك المناسبات وتلك الايام التي ذهبت ولن تعود ابدا حيث الاصالة والجمال والروعة بكل شيء . ومن حسن الحظ اني ورثت من اسرة بيت جدي الاهتمام بهذه المناسبة وقد شاركتني زوجتي الحبيبة مثل هذا الاهتمام فدأبنا على احيائها في منزلي كل عام . وحتى بعد ان غادرنا العراق الى بلاد الغربة لم نتوقف انا وهي عن احيائها كل عام مهما كان الحال , وان شاء الله نستمر بهذا طيلة اعمارنا بأذن الله . وهذه صور لبعض صواني زكريا مع صورتي قرب الشموع في بيتي هذا العام .







وسام الشالجي

8 مايس (مايو) 2016