بقلم
وسام الشالجي
وسام الشالجي
(1)
سحب المزلاج
سحب المزلاج
دخل الرئيس (النقيب) عبد الستار العبوسي ومعه
بعض الضباط والجنود الى الغرفة الخلفية في قصر الرحاب المجاورة للمطبخ , وحين
اجتاز باب الغرفة أصابه الذهول وارتعدت فرائصه وارتجفت يداه التي تحمل احداهما الغدارة
. نعم لقد ذهل وانصعق حين وقعت عيناه على افراد العائلة المالكة وعلى رأسهم الملك
فيصل الثاني وهم جالسين امامه . اخذت الصعقة تسري في جميع اركان جسمه الى درجة سمرته
بالارض , خصوصا حين رأى الامير عبد الاله
فراحت الافكار تتخاطر في رأسه والتساؤلات تتوارد في ذهنه
- هل هو في حلم ام حقيقة ؟
هل هو فعلا في حضرة ملك العراق واركان اسرته , وبمثل هذا الوضع ؟
أهذا الذي امامه هو الامير عبد الاله مرة اخرى بعد كل هذه السنين ؟
أهذا هو الوصي الذي حلم بقتله قبل احد عشر عاما ؟
هل هو فعلا في حضرة ملك العراق واركان اسرته , وبمثل هذا الوضع ؟
أهذا الذي امامه هو الامير عبد الاله مرة اخرى بعد كل هذه السنين ؟
أهذا هو الوصي الذي حلم بقتله قبل احد عشر عاما ؟
وفي لحظة خاطفة عادت به ذاكرته الى خريف عام
1947 ورأى نفسه وهو يقف في باب الاعدادية المركزية في الميدان التي ازدانت يومها بالزينة بمناسبة
افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الامة حين أخذ يهتف
- يسقط الاستعمار , يسقط الانكليز , يسقط عبد الاله , يسقط نوري السعيد
- يسقط الاستعمار , يسقط الانكليز , يسقط عبد الاله , يسقط نوري السعيد
تذكر كيف ظل يردد تلك الهتافات في المدرسة , وما
هي الا هنينة حتى تجمع حوله عدة عشرات من الطلاب وحملوه على الاكتاف وقد اخذهم
الحماس خارجين به من باب المدرسة ومنعطفين الى اليمين ثم الى اليسار سالكين الشارع
المؤدي الى شارع الرشيد وهم يهتفون معه
- يسقط الاستعمار , يسقط الانكليز , يسقط عبد الاله , يسقط نوري السعيد
- يسقط الاستعمار , يسقط الانكليز , يسقط عبد الاله , يسقط نوري السعيد
اخذت الذكريات تتوارد بعبد الستار وعيناه
ملتصقتان بعبد الاله , الذي اخذ هو الاخر بدوره يتفرس في وجه هذا الضابط مستغربا
من عمق النظرة التي ارسلها اليه . تذكر عبد الستار كيف انطلقت تلك المظاهرة , وكيف
كان استاذ (علاء الدين) يركض خلفهم ويصرخ بأعلى صوته طالبا منهم العودة للمدرسة . عادت
صيحات ذلك الاستاذ ترن بأذنه وهو يصيح
- طلاب أرجعوا ؟ الى أين انتم ذاهبون ؟ هيا .. ارجعوا الى المدرسة ؟
طلاب ماذا تفعلون ؟ هل جننتم .. عودوا الى المدرسة حالا ؟
وكأنه يسمعها الان وليس قبل احد عشر عاما . لقد كانوا فعلا مجانين وصدقوا انفسهم حين ظنوا انهم يمكن ان يعترضوا موكب الوصي على العرش وهو ذاهب الى قاعة البرلمان لافتتاح اول جلسة له بعد الانتخابات . تذكر عبد الستار كيف وصلوا الى المنطقة المقابلة لكهوة خليل قرب الحيدرخانة حيث توقفوا حين اصبحوا بمواجهة موكب الوصي الذي كان جالسا بلباسه الرسمي في عربة المراسم التي تجرها الخيول تتقدمه كوكبة من رجال الحرس الملكي على صهوة خيولهم وهم يطلبون من المتظاهرين فسح المجال لهم ليمر الموكب . ثم تذكر كيف انتابته في تلك اللحظة فكرة جنونية دفعته لان ينطلق بكل اقدام ليرمي بنفسه على عبد الاله ويحاول سحبه من بدلته , وكيف تقدم نحوه الضباط المحيطون بالعربة وجروه ليحيلوا بينه وبين الوصي وألقوا به بعيدا . تذكر عبد الستار كيف كان يتمنى في تلك اللحظة لو انه كان يحمل اي قطعة سلاح , حتى ولو كانت سكيناً لكي يقوم بقتل الامير الفاسق وعميل الاستعمار عبد الاله ويخلص الشعب منه ومن ظلمه . ثم راح يتذكر كيف ان الخوف في لحظتها اخذ منه مأخذا شديدا بعد ان سقط على الارض حين ظن ان بنادق الحرس ستتوجه كلها نحوه لترديه قتيلا مما جعله ينهض ويركض بسرعة قبل ان يناله الرصاص او يقبض عليه ويعتقل سالكا اقرب دربونة ليختفي في احد بيوتها حتى انتهاء مسيرة الموكب . لقد كانت لحظة جنونية فعلا كادت ان تؤدي به وتجهز على كل احلامه في ان يتخرج بعد عدة اشهر من الثانوية وينخرط بالكلية العسكرية التي طالما تمنى في ان يكون احد تلاميذها . ثم تذكر كيف طمطم استاذ علاء الدين الموضوع كله واحتواه ولم تسجل ضد اي طالب في المدرسة شكوى او تهمة التظاهر او الاعتداء على الوصي او عرقلة موكبه . كل هذا مر بعبد الستار كأنه شريط سينمائي وهو متجمد في مكانه وعيناه متسمرة بوجه عبد الاله . ثم عاد يتسائل مع نفسه
- طلاب أرجعوا ؟ الى أين انتم ذاهبون ؟ هيا .. ارجعوا الى المدرسة ؟
طلاب ماذا تفعلون ؟ هل جننتم .. عودوا الى المدرسة حالا ؟
وكأنه يسمعها الان وليس قبل احد عشر عاما . لقد كانوا فعلا مجانين وصدقوا انفسهم حين ظنوا انهم يمكن ان يعترضوا موكب الوصي على العرش وهو ذاهب الى قاعة البرلمان لافتتاح اول جلسة له بعد الانتخابات . تذكر عبد الستار كيف وصلوا الى المنطقة المقابلة لكهوة خليل قرب الحيدرخانة حيث توقفوا حين اصبحوا بمواجهة موكب الوصي الذي كان جالسا بلباسه الرسمي في عربة المراسم التي تجرها الخيول تتقدمه كوكبة من رجال الحرس الملكي على صهوة خيولهم وهم يطلبون من المتظاهرين فسح المجال لهم ليمر الموكب . ثم تذكر كيف انتابته في تلك اللحظة فكرة جنونية دفعته لان ينطلق بكل اقدام ليرمي بنفسه على عبد الاله ويحاول سحبه من بدلته , وكيف تقدم نحوه الضباط المحيطون بالعربة وجروه ليحيلوا بينه وبين الوصي وألقوا به بعيدا . تذكر عبد الستار كيف كان يتمنى في تلك اللحظة لو انه كان يحمل اي قطعة سلاح , حتى ولو كانت سكيناً لكي يقوم بقتل الامير الفاسق وعميل الاستعمار عبد الاله ويخلص الشعب منه ومن ظلمه . ثم راح يتذكر كيف ان الخوف في لحظتها اخذ منه مأخذا شديدا بعد ان سقط على الارض حين ظن ان بنادق الحرس ستتوجه كلها نحوه لترديه قتيلا مما جعله ينهض ويركض بسرعة قبل ان يناله الرصاص او يقبض عليه ويعتقل سالكا اقرب دربونة ليختفي في احد بيوتها حتى انتهاء مسيرة الموكب . لقد كانت لحظة جنونية فعلا كادت ان تؤدي به وتجهز على كل احلامه في ان يتخرج بعد عدة اشهر من الثانوية وينخرط بالكلية العسكرية التي طالما تمنى في ان يكون احد تلاميذها . ثم تذكر كيف طمطم استاذ علاء الدين الموضوع كله واحتواه ولم تسجل ضد اي طالب في المدرسة شكوى او تهمة التظاهر او الاعتداء على الوصي او عرقلة موكبه . كل هذا مر بعبد الستار كأنه شريط سينمائي وهو متجمد في مكانه وعيناه متسمرة بوجه عبد الاله . ثم عاد يتسائل مع نفسه
- أهي نفس اللحظة من جديد ؟
أهي نفس الفرصة قد توفرت له مرة أخرى بعد ان عجزر عن تنفيذها قبل 11 سنة ؟
هل هو على موعد قدري مع هذا الرجل بالذات .. عبد الاله ؟
هل هو المختار الذي هيأه القدر ليكون يد الشعب في الخلاص من هذا المجرم ومن معه ؟
هل جلبه القدر الى هنا من وحدته في معسكر الوشاش بمصادفة قدرية لكي يصير قائد هذه الحملة , وربما قائد للثورة كلها ؟
كانت هذه الأفكار تتراقص بذهن عبد الستار حتى تاه بسببها في غيبوبة لم يفيقه منه الا صيحات زميله الرئيس مصطفى عبد الله وهو يصرخ بالجالسين
- اطلعوا ... ؟
هيا اطلعوا بره يا خونة ؟
صاح الرئيس مصطفى بهذه الكلمات للجالسين بالغرفة فاذا بصوت هاديء رقيق يجيبه
- لماذا العصبية يا أخي ؟
ثم لماذا توجه سلاحك نحونا ؟
هل ترى أحد منا يحمل سلاحا ؟
أهي نفس الفرصة قد توفرت له مرة أخرى بعد ان عجزر عن تنفيذها قبل 11 سنة ؟
هل هو على موعد قدري مع هذا الرجل بالذات .. عبد الاله ؟
هل هو المختار الذي هيأه القدر ليكون يد الشعب في الخلاص من هذا المجرم ومن معه ؟
هل جلبه القدر الى هنا من وحدته في معسكر الوشاش بمصادفة قدرية لكي يصير قائد هذه الحملة , وربما قائد للثورة كلها ؟
كانت هذه الأفكار تتراقص بذهن عبد الستار حتى تاه بسببها في غيبوبة لم يفيقه منه الا صيحات زميله الرئيس مصطفى عبد الله وهو يصرخ بالجالسين
- اطلعوا ... ؟
هيا اطلعوا بره يا خونة ؟
صاح الرئيس مصطفى بهذه الكلمات للجالسين بالغرفة فاذا بصوت هاديء رقيق يجيبه
- لماذا العصبية يا أخي ؟
ثم لماذا توجه سلاحك نحونا ؟
هل ترى أحد منا يحمل سلاحا ؟
جلبت هذه الكلمات انتباه الرئيس عبد
الستار فالتفت نحو مصدرها فاذا هي منطلقة من فم الملك الشاب الذي كان جالسا وسط
المجموعة . كانت هذه اول مرة يرى فيها الملك فيصل الثاني بوجهه الصبوح والذي كان يرتدي قميص ابيض ذو كمين قصيرين وبنطلون رصاصي اللون
وينتعل حذاء خفيف . لم تثر بساطة مظهر الملك الشاب ولا هدوئه اية مشاعر في قلب عبد
الستار لان ما يحمله من حقد وكره نحوه ونحو اسرته وكل النظام قد جعل قلبه من صخر , وهو
الان لا يحمل اية عاطفة انسانية ولا ذرة من الرحمة ولا يفرق في رغبته بالأنتقام بين رجل او امرأة , كبير بالسن او صغير
فكلهم بنظره مجرمين يجب القضاء عليهم . كانت لصيحة النقيب مصطفى اثر كبير على عبد
الستار مما جعله يستعيد وعيه من جديد وتتيقظ في دواخله مشاعر الغضب وحب الانتقام
التي اشتعلت في نفسه قبل ساعتين حين سمع من الراديو بيانات الثورة ونداءات العقيد
عبد السلام عارف وجعلته يهب بجنوده من معسكر الوشاش الى قصر الرحاب , فما كان منه
غير ان يصيح بالجمع الجالس هو ايضا بأعلى صوته
- يللا قوموا ... الم تسمعوا الأوامر ؟
هيا أطلعوا بره يا كلاب ؟
جنود .... هيا طلعوهم بره ؟
تقدم الجنود الذين جاءوا مع الرئيس عبد الستار والرئيس مصطفى الى داخل الغرفة وحاولوا سحب الجالسين من مقاعهدهم , وهنا تدخل العقيد طه البامرني أمر الحرس الملكي وقال
- انتظروا ؟ سيدي .... على كيفك وياهم ؟ سيقومون هم حتما من تلقاء انفسهم
التفت عبد الستار الى طه البامرني وتطلع بكتفه ملقيا نظرة على رتبة (العقيد) التي يحملها ومستغربا كيف يناديه بكلمة (سيدي) وهو الاعلى منه رتبة مما جعل مشاعر الانتشاء تسري في جميع اركان جسمه وكانه قد حقق نصر كبير في معركة جبارة خاضها للتو وهاهو خصمه يستسلم له , فما كان منه الا ان يصيح به
- اسكت ؟ لا تتدخل انت فهذا الأمر اصبح لا يعنيك والا سيكون مصيرك مثل مصيرهم ؟ ألم تستسلم لنا قبل قليل واعلنت بانك وكل جنودك قد انضممتم للثورة ؟
فاجيء هذا الكلام من في الغرفة لانهم لم يعلموا به , والتفت الملك نحو خاله عبد الاله ثم التفت الاثنان بعدها نحو طه البامرني وهما مستغربان مما يسمعان وكأنهما يتسائلان "كيف ينضم هذا الوغد الى هؤلاء المهاجمين وهو المكلف بحراسة الملك والقصر ومن فيه ؟" . ادرك عبد الستار ما جال برأسهيما فقال لهما
- لماذا تستغربون ؟
أي نعم ... رئيس حرسكم الملكي صار معنا ولم يبقى احد معكم ؟
ثم صاح من جديد بهم
- يللا .. أطلعوا بره يا كلاب ؟
قام الجميع من مقاعهدهم وخرجوا من الغرفة وتوجهوا نحو المطبخ المجاور حيث خرجوا من بابه الخلفي الى الخارج . وقبل ان يخرجوا قال عبد الستار لمصطفى عبد الله
- خذهم الى الخارج لنرى ماذا سنفعل بهم وانا ساذهب وافتش بقية غرف القصر
- حاضر
- يللا قوموا ... الم تسمعوا الأوامر ؟
هيا أطلعوا بره يا كلاب ؟
جنود .... هيا طلعوهم بره ؟
تقدم الجنود الذين جاءوا مع الرئيس عبد الستار والرئيس مصطفى الى داخل الغرفة وحاولوا سحب الجالسين من مقاعهدهم , وهنا تدخل العقيد طه البامرني أمر الحرس الملكي وقال
- انتظروا ؟ سيدي .... على كيفك وياهم ؟ سيقومون هم حتما من تلقاء انفسهم
التفت عبد الستار الى طه البامرني وتطلع بكتفه ملقيا نظرة على رتبة (العقيد) التي يحملها ومستغربا كيف يناديه بكلمة (سيدي) وهو الاعلى منه رتبة مما جعل مشاعر الانتشاء تسري في جميع اركان جسمه وكانه قد حقق نصر كبير في معركة جبارة خاضها للتو وهاهو خصمه يستسلم له , فما كان منه الا ان يصيح به
- اسكت ؟ لا تتدخل انت فهذا الأمر اصبح لا يعنيك والا سيكون مصيرك مثل مصيرهم ؟ ألم تستسلم لنا قبل قليل واعلنت بانك وكل جنودك قد انضممتم للثورة ؟
فاجيء هذا الكلام من في الغرفة لانهم لم يعلموا به , والتفت الملك نحو خاله عبد الاله ثم التفت الاثنان بعدها نحو طه البامرني وهما مستغربان مما يسمعان وكأنهما يتسائلان "كيف ينضم هذا الوغد الى هؤلاء المهاجمين وهو المكلف بحراسة الملك والقصر ومن فيه ؟" . ادرك عبد الستار ما جال برأسهيما فقال لهما
- لماذا تستغربون ؟
أي نعم ... رئيس حرسكم الملكي صار معنا ولم يبقى احد معكم ؟
ثم صاح من جديد بهم
- يللا .. أطلعوا بره يا كلاب ؟
قام الجميع من مقاعهدهم وخرجوا من الغرفة وتوجهوا نحو المطبخ المجاور حيث خرجوا من بابه الخلفي الى الخارج . وقبل ان يخرجوا قال عبد الستار لمصطفى عبد الله
- خذهم الى الخارج لنرى ماذا سنفعل بهم وانا ساذهب وافتش بقية غرف القصر
- حاضر
كانت الساعة قد شارفت على الثامنة صباحا حين خرجت الاسرة المالكة من الباب الخلفي للمطبخ . كانت مشاعر الرعب والخوف من المصير الذي ينتظرهم قد اخذت تدب في اجسادهم , خصوصا بعدما سمعوه في الغرفة التي كانوا متجمعين فيها . الوحيد الذي كان يحاول بان يظهر وهو متمالك لنفسه هو الملك فيصل الثاني . كان وقع الخطوات على درجات الباب الخلفي الثلاث خافتا يكاد لا يسمع صوتها , لكن كان هناك صوت يعكر الصمت الرهيب الذي التف حول الجميع هو صوت نحيب الاميرة عابدية وانينها الذي كان يقطع اوصال كل من كان يسمعه . كانت تولول وتقول
- يا ألهي ... ما هاذا الذي يحصل لنا ؟ الى اين تأخذوننا ؟
ولا يجيب على تساؤلاتها غير صراخ مصطفى عبد الله
- الى مصيركم الذي تستحقوه يا خونة ... يا كلاب
تقدم الركب الملكي الملك فيصل الثاني يسبقه اثنان من ضباط الحرس الملكي اللذان استهجنا عمل قائدهم الجبان طه البامرني ولم يرتضيا لنفسيهما بان يشتركا بالخيانة وترك من يرأسهم في مثل هذا الموقف . وما ان هبط الملك من على تلك العتبات حتى تقدمت خلفه بسرعة الملكة العجوز نفيسة مقتربة من حفيدها فيصل ثم اخذت تمشي خلفه واضعة المصحف الذي جلبته من غرفتها فوق رأسه وهي تنفخ عليه وتتلفت يمينا ويسارا وتقول بصوت عال لمن يحيط بهم من الضباط والجنود
- لاتقتلوه ؟
هذا ملككم ... هذا حفيد نبيكم ... لا تقتلوه ؟
تقدم الركب ببطأ وكأنه مسير جنائزي والملك فيصل يحاول بعناء ان يرسم ابتسامة مصطنعة على فمه رافعا يده للمهاجمين محييا اياهم بالتحية العسكرية التي اعتاد بان يرفعها للعساكر حين يلقاهم . كان خائفا الى اقصى درجة وقلبه يدق بشدة لانه سمع باذنه ورأى بعينه قبل قليل ماهية قلوب الرجال الذين هاجموا القصر مما جعله يتوجس فيهم كل الشر بعد ان رأى مظاهر الكره والحقد التي تنبعث من وجوههم , ومع ذلك ظل ايمانه بربه كبيرا مسلما امره الى الله . ظل الرتل يسير بخطى متثاقلة والملكة تتمتم بكلمات اصبحت غير مفهومة لكنها كما يبدوا كانت تتلوا بعض الآيات من القرآن الكريم , بينما صوت النحيب الاتي من وسطه من الاميرة عابدية يرتفع لوهلة وينخفض لوهلة اخرى . كان المسير صامتا لا يعكره الا الصيحات الهستيرية الأتية من مصطفى عبد الله لتزيد من توتر الموقف وترفع من هيجان الضباط والجنود المهاجمين وترفع من درجة ارتباك الموقف . وطوال مسيرهم لم يتوقف الرئيس مصطفى عن رفع عقيرته بالصراخ
- أطلعوا يا سفلة ؟ أطلعوا يا خونة ؟
امشوا يا مجرمين ؟ أمشوا يا عبيد ؟
قال مصطفى كلمته الاخيرة لانها اول كلمة خطرت على ذهنه حين رأى في مؤخرة الركب عبد اسود قد انضم الى الموكب هو احد الخدم الذي أبى في ان يترك سادته في مثل هذا الموقف الصعب , وكأنه أراد ان يعيد قصة الدور الذي لعبه العبد الاسود (جون) الذي استشهد مع الامام الحسين في واقعة الطف بكربلاء .
وصل الركب بعد دقائق الى الساحة
الامامية للقصر حيث كان يوجد امامهم منطقة مزروعة بشجيرات قصيرة تتوسطها شجرة توت
ضخمة وعلى يمينهم صفوف طولية من اشجار الياس تأتي بعدها صفوف من اشجار عالية وبعض
النخيل . كانت هناك مدرعة متوقفة فوق المنطقة المزروعة قرب شجرة التوت يعلوها رشاشة
متوسطة يجلس خلفها جندي , وقد توقف امامها مجموعة من الجنود والضباط المهاجمين
سرعان ما انضم اليهم الضباط والجنود الذي رافقوا الرتل الملكي الأتي من باب القصر
الخلفي . وعند وصولهم تلك البقعة صاح بهم الرئيس مصطفى
- هيا ... توقفوا هنا وانتظروا ؟
توقف الجمع الملكي بشكل نسق مواجه للمهاجمين وقد عاد ترتيب وقوفهم ليصبح اولهم من اليسار الملك فيصل , الاميرة هيام زوجة الامير عبد الأله , الامير عبد الاله , الملكة نفيسة , الاميرة عابدية , الطفل اليتيم جعفر , الخادمة رازقية , الطباخ التركي , الخادم الاسود , ثم الضابطين من الحرس الملكي اللذين رافقا الموكب بالاضافة الى جندي من الحرس ايضا . وبعد توقفهم تقدم نحوهم المهاجمين واحاطوا بهم بشكل نصف حلقة فاصبح الصفان يتقابلان وجها لوجه , صف مدني اعزل من السلاح يقابله صف عسكري من المهاجمين يتوسطه الرئيس مصطفى عبد الله وحوله عدد من الضباط والجنود , وكانوا جميعا موجهين اسلحتهم نحو الرتل المدني الواقف امامهم . كانت العيون تتبادل النظرات ويخيم على الجميع هدوء وصمت مخيف , والكل في حالة ترقب لا يدرون ماذا سيحصل منتظرين الرجل الذي اصبح بغفلة من الزمن سيد هذا الموقف كله . مرت لحظات رهيبة كان كل واحد من الواقفين فيها يشعر بان شيئا جللا على وشك ان يحدث .
من جهة اخرى , كان الرئيس عبد الستار قد صعد بسرعة درجات السلم المؤدي الى الغرف العلوية من القصر حيث غرف نوم افراد العائلة المالكة وهو يفكر بالوضع الذي اصبح فيه بينما الافكار المختلفة تتوارد في ذهنه بأشكال متباينة , بعضها افكار لذيذة متهادنة تبعث فيه مشاعر النشوة والفخر والانتصار , ليتبعها لوهلة اخرى افكار سوداوية مظلمة تتصارع مع التي قبلها في رأسه . و بين هذه وتلك كان يقول لنفسه
- هيا ... توقفوا هنا وانتظروا ؟
توقف الجمع الملكي بشكل نسق مواجه للمهاجمين وقد عاد ترتيب وقوفهم ليصبح اولهم من اليسار الملك فيصل , الاميرة هيام زوجة الامير عبد الأله , الامير عبد الاله , الملكة نفيسة , الاميرة عابدية , الطفل اليتيم جعفر , الخادمة رازقية , الطباخ التركي , الخادم الاسود , ثم الضابطين من الحرس الملكي اللذين رافقا الموكب بالاضافة الى جندي من الحرس ايضا . وبعد توقفهم تقدم نحوهم المهاجمين واحاطوا بهم بشكل نصف حلقة فاصبح الصفان يتقابلان وجها لوجه , صف مدني اعزل من السلاح يقابله صف عسكري من المهاجمين يتوسطه الرئيس مصطفى عبد الله وحوله عدد من الضباط والجنود , وكانوا جميعا موجهين اسلحتهم نحو الرتل المدني الواقف امامهم . كانت العيون تتبادل النظرات ويخيم على الجميع هدوء وصمت مخيف , والكل في حالة ترقب لا يدرون ماذا سيحصل منتظرين الرجل الذي اصبح بغفلة من الزمن سيد هذا الموقف كله . مرت لحظات رهيبة كان كل واحد من الواقفين فيها يشعر بان شيئا جللا على وشك ان يحدث .
من جهة اخرى , كان الرئيس عبد الستار قد صعد بسرعة درجات السلم المؤدي الى الغرف العلوية من القصر حيث غرف نوم افراد العائلة المالكة وهو يفكر بالوضع الذي اصبح فيه بينما الافكار المختلفة تتوارد في ذهنه بأشكال متباينة , بعضها افكار لذيذة متهادنة تبعث فيه مشاعر النشوة والفخر والانتصار , ليتبعها لوهلة اخرى افكار سوداوية مظلمة تتصارع مع التي قبلها في رأسه . و بين هذه وتلك كان يقول لنفسه
- ما
اسهل ما جرى حتى اللحظة ؟ انا اشعر بان كل شيء على وشك الانتهاء وساكون انا الرجل
الذي حقق للثورة الانتصار . نعم , ساكون انا الرجل الذي حقق المعجزة وليس احد غيري
. ماذا فعل هؤلاء الذين خططوا لهذه الحركة غير الصراخ من الراديو ؟ ماذا كان يمكن
ان يحدث لولا ان تقدمت انا بجنودي الى هنا ؟ وها أنا اقترب من النصر الكامل وليس هناك
من كلمة في هذا القصر غير كلمتي .
كانت هذه الافكار تتراقص بعقل عبد الستار وهو يقفز على درجات السلم منتقلا الى الطابق الاعلى . وحين دخل اول غرفة صادفته ادرك فور دخولها بانها غرفة الملك فيصل الثاني من طبيعة ما موجود فيها . اخذ يتبحر فيها يمينا ويسارا بينما اخذ نوع جديد من الخواطر ينساب في رأسه الذي اصبح مثقلا ومتشتتا بزحمة ما يمر به من افكار
- اهذه غرفة الملك ؟ أهنا ينام اكبر وأعلى رجل في الدولة ؟ مالذي يقف الان بيني وبين ان أصبح انا الملك بدلا عنه وتصبح هذه غرفتي وهذا القصر قصري ؟ اذا كانوا قد استسلموا لي واصبحوا تحت رحمتي , وحتى قائد حرسهم الملكي استسلم وانهار واخذ يقول لي (سيدي) فما الذي يمنع كل الشعب في ان يقول لي ايضا (جلالة الملك المفدى , او سيدي الرئيس) .
اخذ يدور في داخل غرفة الملك وفتح دولاب ملابسه فوجد عدة بدلات لفتت انتباهه من بينها بدلة المراسم الرسمية . مد يده نحوها واخذ يتلمسها ويتلمس ما معلق فيها , ثم اخذ يقلب بدلات الملك الاخرى وقارنها بخشونة الملابس التي يرتديها مما زاد من مشاعر الكره والحسد المشتعلة في نفسه . اخذ يتلفت يمينا ويسارا باحثا عن اي شيء ثمين يمكن ان يدسه في جيبه مستغلا هذه البرهة القصيرة التي اصبح فيها فجأة السيد المطاع في هذا القصر لكنه لم يجد شيئا . خرج من غرفة الملك ودخل الغرفة التالية واحس بانها غرفة لامرأة ربما تكون خالة الملك او جدته . بحث مرة اخرى يمينا ويسارا ونظر في الدواليب فرأى بعض الجواهر الثمينة فامتدت اليها يده ليسرق بعضها , لكنه استدرك وقال لنفسه
- مالي اطمع بهذه الاشياء الصغيرة وهناك دولة يمكن ان تصبح كلها بيدي لو سارت الامور كما أشتهي . دعني اترك هذه التوافه واركز على الجمل بما حمل الذي ينتظرني
خرج عبد الستار من الغرفة وفتش الغرف الاخرى , ثم الغرفة الاخيرة التي كانت كما استنتج غرفة الامير عبد الاله . لم تكن الغرفة تختلف كثيرا عن غرفة الملك , وبينما هو يمشي في ارجائها وقعت عيناه على المرأة الموجودة في وسط الغرفة . نظر الى نفسه فلم يرى ضابطا يرتدي بزة عسكرية بل رأى رجلا يرتدي بدلة المراسم الملوكية الرسمية وعلى صدره النياشين والاوسمة . ثم رأى نفسه يركب ذات العربة التي كان يركبها عبد الاله حين رأه لاول مرة قبل 11 سنة ومواكب الحرس تسير من حوله . ورأى نفسه وهو يرفع بيده الصولجان ليحي الجماهير التي تلتف حول موكبه وتهتف بحياته . كانت لحظات لذيذة ملئت نفسه بالغبطة ومشاعر الفخر والزهو . وبينما هو في غمرة هذه الافكار اخذت صورة الملك تتبدد من المرأة ليحل محلها صورة رجل قبيح قصير يرتدي قميص عسكري وسخ وبنطلون قصير بشع وبيده رشاشة فانتابته مشاعر الغضب من الحال الذي هو فيه وقال لنفسه
- ما هذا الحال الذي انا فيه ؟ هيا ... هناك الكثير الذي يجب ان افعله لكي اغير هذه الصورة القبيحة
عاد عبد الستار الى رشده واخذ يفكر بواقعية من جديد وقرر ان يأخذ الملك وعبد الاله واسرته الى الاذاعة حيث عبد السلام عارف ويترك مصيرهم بيد قادة الثورة , ولابد بانهم سينعموا عليه بمنصب عالي بعد ان حقق لهم ما يريدوه وضمن لهم انتصار الثورة . خرج من غرفة عبد الاله بسرعة وأتجه نحو السلم , وقبل ان ينزل تذكر مشهدا سبق ان مر به حين كان في الخامسة عشر من عمره حين مر من باب وزارة الدفاع ورأى جثة صلاح الدين الصباغ معلقة في المشنقة اثر تنفيذ حكم الاعدام به . ارتعد عبد الستار حين تذكر ذلك المشهد واخذ يتسائل مع نفسه حين كانت قدماه تهم بالنزول على درجات السلم
- ترى ماذا سيفعل قادة الثورة بالاسرة المالكة بعد ان أخذهم اليهم ؟ هل سيسجنوهم ام سيسفروهم ؟ وماذا اذا تدخل الانكليز واعادوهم للحكم مرة اخرى كما فعلوا عام 1941 ؟ عندها ماذا سيكون مصيري ؟ هل سأعدم كما اعدم الصباغ ؟ لا لا لن يحدث مثل هذا فالأمر مختلفا الأن ؟ لكن من يضمن لي بان هذا لن يحدث ؟ وبماذا سينفعني قادة الثورة او المنصب الذي ساناله ان تدخل الانكليز وقضوا على الثورة ؟ طبعا هم سيفرون بجلدهم كما فر قادة ثورة عام 1941 , لكن هل ستتاح لي الفرصة بان افر انا ايضا ؟ وحتى لو فررت فمن سيضمن لي بان الدول الاخرى لن تقبض علي وتسلمني الى الانكليز كما حصل مع العقداء الاربعة ؟ ليس هناك ضمانات ابدا غير تلك التي يمكن ان اصنعها انا بنفسي ؟ نعم الضمانات التي اريدها متاحة بيدي الان ولن يجعلها الزمن متاحة لي مرة اخرى . لن ينفعني لا عبد السلام عارف ولا عبد الكريم قاسم ولا بطيخ , علي ان افعل ما اراه صحيحا . علي ان اتخلص من الشرذمة الموجودة تحت وأنهي الى الابد أي أمل في ان يعودوا للحكم , وانا متأكد بان حتى الافندية قادة الثورة سيشكروني على هذا .
قرر عبد الستار في لحظتها ان يقتل جميع افراد العائلة المالكة وان يبيدها باجمعها لان هذه هي الضمانة الوحيدة في ان لا يتكرر مشهد حركة 1941 ويكون هو احد ضحايا ما يمكن ان يحدث . توجه نحو بوابة القصر الرئيسية , وقبل ان يجتاز بوابة القصر سحب الاقسام وحشر اطلاقة في حجرة غدارته لتكون جاهزة للرمي . لم يدري عبد الستار في لحظتها انه بقراره الذي نوى عليه والاقسام التي سحبها سحب في الواقع مزلاج بوابة الجحيم ليفتح على نفسه وعلى العراق وشعبه النار التي ستحرق البلد باخضره ويابسه لعقود قادمة .
كانت هذه الافكار تتراقص بعقل عبد الستار وهو يقفز على درجات السلم منتقلا الى الطابق الاعلى . وحين دخل اول غرفة صادفته ادرك فور دخولها بانها غرفة الملك فيصل الثاني من طبيعة ما موجود فيها . اخذ يتبحر فيها يمينا ويسارا بينما اخذ نوع جديد من الخواطر ينساب في رأسه الذي اصبح مثقلا ومتشتتا بزحمة ما يمر به من افكار
- اهذه غرفة الملك ؟ أهنا ينام اكبر وأعلى رجل في الدولة ؟ مالذي يقف الان بيني وبين ان أصبح انا الملك بدلا عنه وتصبح هذه غرفتي وهذا القصر قصري ؟ اذا كانوا قد استسلموا لي واصبحوا تحت رحمتي , وحتى قائد حرسهم الملكي استسلم وانهار واخذ يقول لي (سيدي) فما الذي يمنع كل الشعب في ان يقول لي ايضا (جلالة الملك المفدى , او سيدي الرئيس) .
اخذ يدور في داخل غرفة الملك وفتح دولاب ملابسه فوجد عدة بدلات لفتت انتباهه من بينها بدلة المراسم الرسمية . مد يده نحوها واخذ يتلمسها ويتلمس ما معلق فيها , ثم اخذ يقلب بدلات الملك الاخرى وقارنها بخشونة الملابس التي يرتديها مما زاد من مشاعر الكره والحسد المشتعلة في نفسه . اخذ يتلفت يمينا ويسارا باحثا عن اي شيء ثمين يمكن ان يدسه في جيبه مستغلا هذه البرهة القصيرة التي اصبح فيها فجأة السيد المطاع في هذا القصر لكنه لم يجد شيئا . خرج من غرفة الملك ودخل الغرفة التالية واحس بانها غرفة لامرأة ربما تكون خالة الملك او جدته . بحث مرة اخرى يمينا ويسارا ونظر في الدواليب فرأى بعض الجواهر الثمينة فامتدت اليها يده ليسرق بعضها , لكنه استدرك وقال لنفسه
- مالي اطمع بهذه الاشياء الصغيرة وهناك دولة يمكن ان تصبح كلها بيدي لو سارت الامور كما أشتهي . دعني اترك هذه التوافه واركز على الجمل بما حمل الذي ينتظرني
خرج عبد الستار من الغرفة وفتش الغرف الاخرى , ثم الغرفة الاخيرة التي كانت كما استنتج غرفة الامير عبد الاله . لم تكن الغرفة تختلف كثيرا عن غرفة الملك , وبينما هو يمشي في ارجائها وقعت عيناه على المرأة الموجودة في وسط الغرفة . نظر الى نفسه فلم يرى ضابطا يرتدي بزة عسكرية بل رأى رجلا يرتدي بدلة المراسم الملوكية الرسمية وعلى صدره النياشين والاوسمة . ثم رأى نفسه يركب ذات العربة التي كان يركبها عبد الاله حين رأه لاول مرة قبل 11 سنة ومواكب الحرس تسير من حوله . ورأى نفسه وهو يرفع بيده الصولجان ليحي الجماهير التي تلتف حول موكبه وتهتف بحياته . كانت لحظات لذيذة ملئت نفسه بالغبطة ومشاعر الفخر والزهو . وبينما هو في غمرة هذه الافكار اخذت صورة الملك تتبدد من المرأة ليحل محلها صورة رجل قبيح قصير يرتدي قميص عسكري وسخ وبنطلون قصير بشع وبيده رشاشة فانتابته مشاعر الغضب من الحال الذي هو فيه وقال لنفسه
- ما هذا الحال الذي انا فيه ؟ هيا ... هناك الكثير الذي يجب ان افعله لكي اغير هذه الصورة القبيحة
عاد عبد الستار الى رشده واخذ يفكر بواقعية من جديد وقرر ان يأخذ الملك وعبد الاله واسرته الى الاذاعة حيث عبد السلام عارف ويترك مصيرهم بيد قادة الثورة , ولابد بانهم سينعموا عليه بمنصب عالي بعد ان حقق لهم ما يريدوه وضمن لهم انتصار الثورة . خرج من غرفة عبد الاله بسرعة وأتجه نحو السلم , وقبل ان ينزل تذكر مشهدا سبق ان مر به حين كان في الخامسة عشر من عمره حين مر من باب وزارة الدفاع ورأى جثة صلاح الدين الصباغ معلقة في المشنقة اثر تنفيذ حكم الاعدام به . ارتعد عبد الستار حين تذكر ذلك المشهد واخذ يتسائل مع نفسه حين كانت قدماه تهم بالنزول على درجات السلم
- ترى ماذا سيفعل قادة الثورة بالاسرة المالكة بعد ان أخذهم اليهم ؟ هل سيسجنوهم ام سيسفروهم ؟ وماذا اذا تدخل الانكليز واعادوهم للحكم مرة اخرى كما فعلوا عام 1941 ؟ عندها ماذا سيكون مصيري ؟ هل سأعدم كما اعدم الصباغ ؟ لا لا لن يحدث مثل هذا فالأمر مختلفا الأن ؟ لكن من يضمن لي بان هذا لن يحدث ؟ وبماذا سينفعني قادة الثورة او المنصب الذي ساناله ان تدخل الانكليز وقضوا على الثورة ؟ طبعا هم سيفرون بجلدهم كما فر قادة ثورة عام 1941 , لكن هل ستتاح لي الفرصة بان افر انا ايضا ؟ وحتى لو فررت فمن سيضمن لي بان الدول الاخرى لن تقبض علي وتسلمني الى الانكليز كما حصل مع العقداء الاربعة ؟ ليس هناك ضمانات ابدا غير تلك التي يمكن ان اصنعها انا بنفسي ؟ نعم الضمانات التي اريدها متاحة بيدي الان ولن يجعلها الزمن متاحة لي مرة اخرى . لن ينفعني لا عبد السلام عارف ولا عبد الكريم قاسم ولا بطيخ , علي ان افعل ما اراه صحيحا . علي ان اتخلص من الشرذمة الموجودة تحت وأنهي الى الابد أي أمل في ان يعودوا للحكم , وانا متأكد بان حتى الافندية قادة الثورة سيشكروني على هذا .
قرر عبد الستار في لحظتها ان يقتل جميع افراد العائلة المالكة وان يبيدها باجمعها لان هذه هي الضمانة الوحيدة في ان لا يتكرر مشهد حركة 1941 ويكون هو احد ضحايا ما يمكن ان يحدث . توجه نحو بوابة القصر الرئيسية , وقبل ان يجتاز بوابة القصر سحب الاقسام وحشر اطلاقة في حجرة غدارته لتكون جاهزة للرمي . لم يدري عبد الستار في لحظتها انه بقراره الذي نوى عليه والاقسام التي سحبها سحب في الواقع مزلاج بوابة الجحيم ليفتح على نفسه وعلى العراق وشعبه النار التي ستحرق البلد باخضره ويابسه لعقود قادمة .
(2)
حمام الدم
حمام الدم
خرج عبد الستار من البوابة الرئيسية
لقصر الرحاب ونظر الى يمينه فرأى الجمع الملكي متوقفا بشكل نسق في الجهة اليمنى من
النافورة الامامية الموجودة في الباحة الامامية القصر , وبالمقابل منهم يقف معظم
افراد القوة التي هاجمت القصر . هبط درجات السلم واسرع في خطاه وقد احس بانه في سباق
مع الزمن لان كل شيء يمكن ان ينقلب
عليه في اي لحظة , فقد يحدث فجأة ما ليس بالحسبان وتنعكس الاية تماما وتنقلب
الامور كلها ضده . نعم , اي شيء يمكن ان يحدث فجأة , كأن يكون تدخل قوة
موالية للنظام على حين غرة , او ان جزء من الحرس الملكي قد يعيد النظر بموقفه
ويستأنف القتال مع القوة المهاجة , او ربما طائرة عسكرية من القوة الجوية الملكية
يمكن ان تغير على الموقع وتقلب الموازين رأسا على عقب , لذلك كان العزم يشتد في
نفسه على تنفيذ ما قرره وتصفية الموقف وحسمه باسرع وقت ممكن . لم يكن امامه بعد ان
خطر على باله ما حصل عام 1941 غير تصفية العائلة المالكة برمتها . كان يتقدم نحو
الجمع الواقف وفي نفس الوقت يرفع غدارته لتصبح في وضع الرمي بينما كان اصبعه على
الزناد . ما هي الا عشر خطوات او اكثر قليلا حتى اصبح في منطقة تسمح له بالرمي فقرر
ان يبدأ بأطلاق النار . كان الحقد والكره والخوف قد اعماه وأنساه وهو الضابط في
مدرسة المشاة ومن يعلم الاخرين اصول الرمي , بان اول مبدأ من مباديء اطلاق النار على
الخصم هو ان لا يجري الرمي على العدو من جهتين متقابلتين . لم يخطر على بال هذا
الارعن بان اطلاقه للنار يمكن ان يصيب بعض افراد القوة التي كانت معه , بل لم يخطر
على باله بان تلك القوة لو اطلقت النار هي ايضا فانها يمكن ان تصيبه هو وترديه
قتيلا . لم يشعر احد من الواقفين ضمن النسق الملكي بان احد ما يتقدم نحوهم من الخلف
وانه ربما سيبدأ بعد قليل باطلاق النار عليهم , لذلك لم يلتفت احد منهم نحوه . وبعد ان
اصبح عبد الستار جاهزا للرمي بدأ بالاطلاق مبتدئا بالملك ومتقدما في رشقة متصلة الى
الجهة البعيدة من الواقفين . كان يطلق النار ويده ترتجف وترتعش وكأنه يطلق النار
لاول مرة بحياته مما جعل الغدارة تتأرجح في يده صعودا الى الاعلى وهبوطا الى
الاسفل بما يدلل على انه كان في حالة ارتباك شديد وغير مسيطر على اعصابه . اصابت اطلاقتين
رأس ورقبة الملك فيصل , وقبل ان يلتفت ليرى ماذا يحصل خلفه خارت قواه وسقط على يمينه
ليقع في حضن الاميرة هيام التي سقطت هي الاخرى على الارض بعد ان اصابتها رصاصة في
فخذها . ما ان سمع الجنود والضباط الواقفين صوت اطلاق النار حتى فتحوا جميعهم
النار نحو الجمع الواقف امامهم . كان عبد الستار قد استنفذ برشقته الاولى نصف
محتوى غدارته من الاطلاقات الثمانية والعشرين , عاد بعدها باطلاق الرشقة الثانية مبتدأ بالعكس من الجهة البعيدة متقدما الى بداية النسق الملكي , وحين وصل بالرمي الى الامير
عبد الاله افرغ كافة ما بقى من محتويات الغدارة بجسده وكأنه يريد ان يحقق ما كانت
نفسه تصبوا اليه قبل احد عشر عاما . وكان الامير عبد الاله قد تلقى الرصاصات من
الخلف من غدارة عبد الستار , ومن الامام من القوة المهاجمة جعلته يطلق صيحة هائلة شقت عنان السماء
- أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه
ثم سقط على ظهره الى الخلف فانهال الجميع عليه بالذات بنارهم مفرغين به مافيهم من حقد وكره نحوه .
- أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ أ ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه
ثم سقط على ظهره الى الخلف فانهال الجميع عليه بالذات بنارهم مفرغين به مافيهم من حقد وكره نحوه .
توقف اطلاق النار بعد ان سقط الجمع
الملكي واخذ المهاجمون ينظرون الى اجساد ضحاياهم الغارقة بدمها وهي ترتجف لافظة
انفاسها الاخيرة . وبعد توقف اطلاق النار
اقترب عبد الستار ونظر الى الجثث وهو يصيح
- جنود ... توقفوا عن اطلاق النار ؟
هل قتلوا ؟ ... هل ماتو ؟
جنود تأكدوا بانهم قد ماتوا ؟
كان الملك وعبد الاله والملكة نفيسة والاميرة عابدية والطباخ التركي والعبد الاسود وجندي من الحرس الملكي قد ماتوا فعلا , اما الاميرة هيام والخادمة فقد اصيبتا بجروح بينما استطاع الضابطان من الحرس الملكي ان يفلتا من النيران لقربهما من الحديقة الجانبية . وبينما كان الجميع ينظر الى الجثث التي تناثرت امامهم للتأكد من موتهم كانت هناك صيحات تأتي من جهة المهاجمين انفسهم من هنا وهناك
- اخ ......... أخ , يا ألهي
- أ أ أ خ خ خ يابه
توجهت الانظار نحو مصادر الاصوات فاذا بالرئيس مصطفى عبد الله ساقطا بالارض والدماء تنساب من صدره , وعلى الجانب ضابط اخر من المهاجمين يتلوى من الالم نتيجة اصابته في بطنه . كانت الرصاصات التي اصابت المهاجمين مصدرها الرئيس عبد الستار لانه هو الوحيد الذي كان يطلق النار من الامام . ادرك عبد الستار بان نيرانه هي التي اصابت زملائه فصاح ببعض الجنود
- جنود ... هيا اجلبوا سيارة بسرعة لنقل الرئيس مصطفى والرئيس ثابت الى المستشفى
كانت هناك سيارة جيب عائدة المهاجمين تقف جانبا جلبت بسرعة ووضع فيها الضابطان وانطلقت بهما بسرعة الى المستشفى . وبينما كان الجميع منشغلون زحفت الاميرة هيام والخادمة رازقية الى منطقة اشجار الياس واختبئتا تحتها حتى لا ينكشف أمرهما بانهما لازالتا على قيد الحياة .
وبعد برهة هدأ الموقف تقدم ضابط برتبة ملازم اول كان ضمن القوة التي هاجمت القصر اولا وليس ممن أتوا لاحقا اليه وقال للرئيس عبد الستار
- سيدي .. ماذا نفعل بجثث العائلة المالكة ؟
- لا ادري
- سيدي ماذا تقصد ؟ الم يخبروك ماذا تفعل بجثثهم ؟
- من يخبرني ؟ من تقصد ؟
- من اصدر لك الاوامر بقتلهم ؟
- ليس هناك أحد اصدر لي امرا بقتلهم ؟
- سيدي ماذا تعني ؟ هل قمنا بقتلهم من دون أوامر ؟
ارتبك عبد الستار حين سمع هذا الكلام من الضابط فقال له
- هم مجرمون ويستحقون القتل , وكان قادة الثورة سيقتلوهم على كل حال ونحن نفذنا ما سيقومون به لاحقا
- لكن ليس بهذه الطريقة يا سيدي
- وماذا يفرق ؟
- يفرق اننا اصبحنا قتلة ومجرمين
- انتبه لكلامك يا ضابط , هل كنت تظن انك أت الى هنا بنزهة , ألم تتوقع بان تقتلهم ؟
- نعم يا يا سيدي هذا صحيح , لكن الاوامر التي كانت معنا حين اتينا هي في ان نعتقل العائلة المالكة وان لا نقتلهم الا اذا قاوموا الاعتقال او دفاعا عن النفس
- هل هذه كانت الاوامر التي معكم ؟
- نعم سيدي
- ومالذي اختلف ؟
- الذي اختلف سيدي هو انهم قد استسلموا لنا ولم يطلقوا علينا طلقة واحدة فلماذا قتلناهم ؟ كنا قد اعتقدنا بان الاوامر صدرت اليك حين كنت داخل القصر بتصفية العائلة المالكة
- وكيف تصدر الاوامر لي وانا حتى لا املك جهاز اتصال
- لا اعرف يا سيدي , لكننا ظننا هذا حين رأيناك تطلق عليهم النار فور خروجك من القصر
- لا توجد اوامر صدرت لي , وانا اطلقت عليهم النار من نفسي
- ماذا تقول يا سيدي ؟ هذه جريمة , ماذا سنقول اذا جرى تحقيق بالموضوع ؟
- حسنا لنقل بانهم اطلقوا النار علينا
- وكيف يا سيدي وهم ليس معهم حتى قطعة سلاح واحدة ؟
- هه , لنقول بان النار أتتنا من القصر ؟
- من اين ؟ وجميع من في القصر كانوا هنا
- لا اعرف , علينا ان نقول هذا وانتهى
- سيدي , اعذرني لكني مضطر لان ابلغ العقيد الركن عبد السلام بكل ما جرى حتى لا اتحمل مسؤولية
زاد ارتباك الرئيس عبد الستار واخذ يتلعثم بالكلام فقال
- ولماذا عليك ان تخبره
- سيدي انا عسكري والتزم بالاوامر الصادرة الي من قائدي ولا اتصرف من كيفي
- حسنا , قم بما تراه ضروريا ؟
- حاضر سيدي , ولكن ماذا سنفعل الان بالجثث ؟
- اذهب الى سرية الحرس الملكي بالخلف واجلب سيارات لرفع الجثث فيها وليأخذوها الى مستشفى الرشيد العسكري او الى الطب العدلي , ثم اطلب من الجنود بغسل المنطقة بسرعة لازالة الدماء التي تملأ المكان
- حسنا سيدي
- جنود ... توقفوا عن اطلاق النار ؟
هل قتلوا ؟ ... هل ماتو ؟
جنود تأكدوا بانهم قد ماتوا ؟
كان الملك وعبد الاله والملكة نفيسة والاميرة عابدية والطباخ التركي والعبد الاسود وجندي من الحرس الملكي قد ماتوا فعلا , اما الاميرة هيام والخادمة فقد اصيبتا بجروح بينما استطاع الضابطان من الحرس الملكي ان يفلتا من النيران لقربهما من الحديقة الجانبية . وبينما كان الجميع ينظر الى الجثث التي تناثرت امامهم للتأكد من موتهم كانت هناك صيحات تأتي من جهة المهاجمين انفسهم من هنا وهناك
- اخ ......... أخ , يا ألهي
- أ أ أ خ خ خ يابه
توجهت الانظار نحو مصادر الاصوات فاذا بالرئيس مصطفى عبد الله ساقطا بالارض والدماء تنساب من صدره , وعلى الجانب ضابط اخر من المهاجمين يتلوى من الالم نتيجة اصابته في بطنه . كانت الرصاصات التي اصابت المهاجمين مصدرها الرئيس عبد الستار لانه هو الوحيد الذي كان يطلق النار من الامام . ادرك عبد الستار بان نيرانه هي التي اصابت زملائه فصاح ببعض الجنود
- جنود ... هيا اجلبوا سيارة بسرعة لنقل الرئيس مصطفى والرئيس ثابت الى المستشفى
كانت هناك سيارة جيب عائدة المهاجمين تقف جانبا جلبت بسرعة ووضع فيها الضابطان وانطلقت بهما بسرعة الى المستشفى . وبينما كان الجميع منشغلون زحفت الاميرة هيام والخادمة رازقية الى منطقة اشجار الياس واختبئتا تحتها حتى لا ينكشف أمرهما بانهما لازالتا على قيد الحياة .
وبعد برهة هدأ الموقف تقدم ضابط برتبة ملازم اول كان ضمن القوة التي هاجمت القصر اولا وليس ممن أتوا لاحقا اليه وقال للرئيس عبد الستار
- سيدي .. ماذا نفعل بجثث العائلة المالكة ؟
- لا ادري
- سيدي ماذا تقصد ؟ الم يخبروك ماذا تفعل بجثثهم ؟
- من يخبرني ؟ من تقصد ؟
- من اصدر لك الاوامر بقتلهم ؟
- ليس هناك أحد اصدر لي امرا بقتلهم ؟
- سيدي ماذا تعني ؟ هل قمنا بقتلهم من دون أوامر ؟
ارتبك عبد الستار حين سمع هذا الكلام من الضابط فقال له
- هم مجرمون ويستحقون القتل , وكان قادة الثورة سيقتلوهم على كل حال ونحن نفذنا ما سيقومون به لاحقا
- لكن ليس بهذه الطريقة يا سيدي
- وماذا يفرق ؟
- يفرق اننا اصبحنا قتلة ومجرمين
- انتبه لكلامك يا ضابط , هل كنت تظن انك أت الى هنا بنزهة , ألم تتوقع بان تقتلهم ؟
- نعم يا يا سيدي هذا صحيح , لكن الاوامر التي كانت معنا حين اتينا هي في ان نعتقل العائلة المالكة وان لا نقتلهم الا اذا قاوموا الاعتقال او دفاعا عن النفس
- هل هذه كانت الاوامر التي معكم ؟
- نعم سيدي
- ومالذي اختلف ؟
- الذي اختلف سيدي هو انهم قد استسلموا لنا ولم يطلقوا علينا طلقة واحدة فلماذا قتلناهم ؟ كنا قد اعتقدنا بان الاوامر صدرت اليك حين كنت داخل القصر بتصفية العائلة المالكة
- وكيف تصدر الاوامر لي وانا حتى لا املك جهاز اتصال
- لا اعرف يا سيدي , لكننا ظننا هذا حين رأيناك تطلق عليهم النار فور خروجك من القصر
- لا توجد اوامر صدرت لي , وانا اطلقت عليهم النار من نفسي
- ماذا تقول يا سيدي ؟ هذه جريمة , ماذا سنقول اذا جرى تحقيق بالموضوع ؟
- حسنا لنقل بانهم اطلقوا النار علينا
- وكيف يا سيدي وهم ليس معهم حتى قطعة سلاح واحدة ؟
- هه , لنقول بان النار أتتنا من القصر ؟
- من اين ؟ وجميع من في القصر كانوا هنا
- لا اعرف , علينا ان نقول هذا وانتهى
- سيدي , اعذرني لكني مضطر لان ابلغ العقيد الركن عبد السلام بكل ما جرى حتى لا اتحمل مسؤولية
زاد ارتباك الرئيس عبد الستار واخذ يتلعثم بالكلام فقال
- ولماذا عليك ان تخبره
- سيدي انا عسكري والتزم بالاوامر الصادرة الي من قائدي ولا اتصرف من كيفي
- حسنا , قم بما تراه ضروريا ؟
- حاضر سيدي , ولكن ماذا سنفعل الان بالجثث ؟
- اذهب الى سرية الحرس الملكي بالخلف واجلب سيارات لرفع الجثث فيها وليأخذوها الى مستشفى الرشيد العسكري او الى الطب العدلي , ثم اطلب من الجنود بغسل المنطقة بسرعة لازالة الدماء التي تملأ المكان
- حسنا سيدي
مضى الضابط لتنفيذ الامر وهو يقول لنفسه
- يا ألهي .. ماهذا الذي حدث ؟ لقد حولنا هذا الوغد الذي لا اعرف من اين أتى الى مجرمين وقتلة , اللهم رحمتك وغفرانك على ما فعلنا
كان عبد الستار قد ادرك بعد هذه المناقشة جسامة ما ارتكبه وبشاعة الجريمة التي اقترفها لذا اخذ يصيح بمن يحيط به من الجنود في محاولة لتغيير الصورة
- جنود ... هيا ارفعوا الجثث من هنا بسرعة واجلبوا خراطيم المياه واغسلوا المنطقة من الدماء , لا اريد ان يبقى اي اثر لما جرى ؟
هرع الجنود لسحب خراطيم المياه من الحديقة , وفي هذه الاثناء جلبت سيارتان من ثكنة الحرس الملكي الموجودة بالخلف , وضع في الاولى وكانت سيارة فان خاصة بالتسوق اليومي للقصر جثث الملك فيصل والامير عبد الاله والملكة نفيسة والاميرة عابدية وانطلقت بسرعة الى خلف القصر حيث مقر سرية الحرس الملكي . اما السيارة الثانية وكانت سيارة زيل كبيرة فقد وضع فيها جثة العبد الاسود والطباخ والطفل جعفر وجندي الحرس الملكي , وقد تأخرت قليلا عن السيارة الاولى . اخذ الجنود يغسلون المنطقة من الدم الذي تجمد بعضه بالماء الذي اخذ ينشره على كل اجزاء الساحة الامامية لقصر الرحاب ليصبغها بلون قاني وليخضب جميع اجزائها بالدم البريء الذي اريق ظلما بلا مسوغ وبلا سبب وجيه . وفي تلك الاثناء خطرت على عبد الستار فكرة شريرة اراد بها ان يخفي معالم الجريمة التي اقترفها فصاح بالجنود بعد ان اتموا غسل المنطقة
- جنود .. افتحوا ابواب القصر ودعوا الجماهير المحتشدة بالخارج تدخل لتشارك بالثورة
ظن عبد الستار بانه بهذا العمل سيجعل الأمور تتشابك والحوادث تختلط وان كثرة الموجودين هنا سيزيل الشبهات عن ما قام به لان الحابل سيختلط بالنابل ولن يسأل حد عن تفاصيل ما جرى وسيصبح الكل متهمون . قام الجنود فعلا بادخال الموطنين الذين تقدموا راكضين الى وسط ساحة القصر الامامية , وحين وصلوا كان سيارة الزيل على وشك التحرك فاستطاع احد المتقدمين ان يدركها ويسحب جثة الطباخ التركي منها فقام بالركض بها وهو يجرها خلفه نحو بوابة القصرالخارجية خارجا بها الى الشارع العام . انضم الى هذا الرجل اشخاص اخرين واخذوا يسحلون معه الجثة في الشارع حتى من دون ان يعرفوا الى من تعود سوى انها أتية من القصر الملكي . كان هذا الحدث او غيث الشر الذي بدأ ينهمر بعد ان فتح بوابته الرئيس عبد الستار العبوسي .
- يا ألهي .. ماهذا الذي حدث ؟ لقد حولنا هذا الوغد الذي لا اعرف من اين أتى الى مجرمين وقتلة , اللهم رحمتك وغفرانك على ما فعلنا
كان عبد الستار قد ادرك بعد هذه المناقشة جسامة ما ارتكبه وبشاعة الجريمة التي اقترفها لذا اخذ يصيح بمن يحيط به من الجنود في محاولة لتغيير الصورة
- جنود ... هيا ارفعوا الجثث من هنا بسرعة واجلبوا خراطيم المياه واغسلوا المنطقة من الدماء , لا اريد ان يبقى اي اثر لما جرى ؟
هرع الجنود لسحب خراطيم المياه من الحديقة , وفي هذه الاثناء جلبت سيارتان من ثكنة الحرس الملكي الموجودة بالخلف , وضع في الاولى وكانت سيارة فان خاصة بالتسوق اليومي للقصر جثث الملك فيصل والامير عبد الاله والملكة نفيسة والاميرة عابدية وانطلقت بسرعة الى خلف القصر حيث مقر سرية الحرس الملكي . اما السيارة الثانية وكانت سيارة زيل كبيرة فقد وضع فيها جثة العبد الاسود والطباخ والطفل جعفر وجندي الحرس الملكي , وقد تأخرت قليلا عن السيارة الاولى . اخذ الجنود يغسلون المنطقة من الدم الذي تجمد بعضه بالماء الذي اخذ ينشره على كل اجزاء الساحة الامامية لقصر الرحاب ليصبغها بلون قاني وليخضب جميع اجزائها بالدم البريء الذي اريق ظلما بلا مسوغ وبلا سبب وجيه . وفي تلك الاثناء خطرت على عبد الستار فكرة شريرة اراد بها ان يخفي معالم الجريمة التي اقترفها فصاح بالجنود بعد ان اتموا غسل المنطقة
- جنود .. افتحوا ابواب القصر ودعوا الجماهير المحتشدة بالخارج تدخل لتشارك بالثورة
ظن عبد الستار بانه بهذا العمل سيجعل الأمور تتشابك والحوادث تختلط وان كثرة الموجودين هنا سيزيل الشبهات عن ما قام به لان الحابل سيختلط بالنابل ولن يسأل حد عن تفاصيل ما جرى وسيصبح الكل متهمون . قام الجنود فعلا بادخال الموطنين الذين تقدموا راكضين الى وسط ساحة القصر الامامية , وحين وصلوا كان سيارة الزيل على وشك التحرك فاستطاع احد المتقدمين ان يدركها ويسحب جثة الطباخ التركي منها فقام بالركض بها وهو يجرها خلفه نحو بوابة القصرالخارجية خارجا بها الى الشارع العام . انضم الى هذا الرجل اشخاص اخرين واخذوا يسحلون معه الجثة في الشارع حتى من دون ان يعرفوا الى من تعود سوى انها أتية من القصر الملكي . كان هذا الحدث او غيث الشر الذي بدأ ينهمر بعد ان فتح بوابته الرئيس عبد الستار العبوسي .
(3)
الليالي المريرة
الليالي المريرة
قام الضابط الملازم الاول من القوة الاصلية
المهاجمة بالاتصال بقائده العقيد الركن عبد السلام عارف من جهاز الاتصال الموجود في
المدرعة التي معهم وقال له
- سيدي اسمح لي بان اهنئك فقد تم تنفيذ الواجب الذي كلفنا به بالكامل
- عمل رائع وعظيم , وهل اعتقلتم العائلة المالكة جميعهم
- نعم سيدي , لكن في الواقع فقد تم قتلهم جميعا
- صحيح ؟ كيف .. ولماذا ؟ هل قاوموكم ؟ هل قتلوا احد منكم ؟
- كلا سيدي .. لقد استسلموا لنا جميعهم
- اذن لماذا قتلتموهم ؟
- لقد قام بهذا الامر سيدي ضابط من مدرسة المشاة اسمه الرئيس عبد الستار العبوسي وكان قد انضم الينا بعد سماعه لندائاتكم من الراديو . نحن ساندناه بما فعل لاننا كنا نظن بانه يحمل امر بذلك منكم شخصيا
- انا لا اعرفه ولم اصدر له اي أمر بذلك . على كل , مبروك على نجاحكم بالمهمة . اكمل السيطرة على القصر وانتظر الاوامر واخبر هذا الضابط بان يأتيني الى الاذاعة فورا ؟
- أمرك سيدي
هرع هذا الضابط الى الرئيس عبد الستار وقال له
- سيدي الرئيس عبد الستار , العقيد الركن عبد السلام عارف يطلب حضورك لمقابلته في الأذاعة فورا
- لماذا ؟
- لا اعرف سيدي , لكنه طلب مني ان ابلغك بذلك
- وهل اخبرته بتفاصيل ما جرى ؟
- نعم سيدي لقد اخبرته , فهو قائدي المباشر وانا مجبر بان ابلغه بتفاصيل كل ما حدث . لا تشغل بالك سيدي لاني متأكد بانه يريد ان يشكرك ويهنئك على ما حصل كما هنأني شخصيا
- نعم , لابد وان يكون الامر كذلك , شكرا
- سيدي اسمح لي بان اهنئك فقد تم تنفيذ الواجب الذي كلفنا به بالكامل
- عمل رائع وعظيم , وهل اعتقلتم العائلة المالكة جميعهم
- نعم سيدي , لكن في الواقع فقد تم قتلهم جميعا
- صحيح ؟ كيف .. ولماذا ؟ هل قاوموكم ؟ هل قتلوا احد منكم ؟
- كلا سيدي .. لقد استسلموا لنا جميعهم
- اذن لماذا قتلتموهم ؟
- لقد قام بهذا الامر سيدي ضابط من مدرسة المشاة اسمه الرئيس عبد الستار العبوسي وكان قد انضم الينا بعد سماعه لندائاتكم من الراديو . نحن ساندناه بما فعل لاننا كنا نظن بانه يحمل امر بذلك منكم شخصيا
- انا لا اعرفه ولم اصدر له اي أمر بذلك . على كل , مبروك على نجاحكم بالمهمة . اكمل السيطرة على القصر وانتظر الاوامر واخبر هذا الضابط بان يأتيني الى الاذاعة فورا ؟
- أمرك سيدي
هرع هذا الضابط الى الرئيس عبد الستار وقال له
- سيدي الرئيس عبد الستار , العقيد الركن عبد السلام عارف يطلب حضورك لمقابلته في الأذاعة فورا
- لماذا ؟
- لا اعرف سيدي , لكنه طلب مني ان ابلغك بذلك
- وهل اخبرته بتفاصيل ما جرى ؟
- نعم سيدي لقد اخبرته , فهو قائدي المباشر وانا مجبر بان ابلغه بتفاصيل كل ما حدث . لا تشغل بالك سيدي لاني متأكد بانه يريد ان يشكرك ويهنئك على ما حصل كما هنأني شخصيا
- نعم , لابد وان يكون الامر كذلك , شكرا
بعد برهة استقل الرئيس عبد الستار العبوسي
احدى سيارات الجيب التابعة للحرس الملكي وانطلق بها الى الاذاعة . وبالطريق مر
بجانب الحشود تسحل جثة الطباخ التركي في الشارع المقابل لمعسكر الوشاش بمنظر يثير
التقزز . وصل الى دار الاذاعة بالصالحية وترجل من العجلة ودخل الى المقر فرأه يعج
بالضباط والجنود بعد ان اصبح مقرا لقيادة الثورة . سأل عن العقيد عبد
السلام عارف وطلب مقابلته فقيل له انه مشغول جدا وان عليه ان ينتظر الى ان يفرغ لكي يقابله . جلس
على احدى المصطبات في واحد من ممرات الاذاعة منتظرا ان يؤذن له المقابلة . كان العساكر
يتدفقون بالعشرات على دار الاذاعة , وبعد برهة رأى الزعيم الركن عبد الكريم قاسم
يدخل الاذاعة وهو محاط بشلة من الضباط والجنود فوقف وأدى له التحية العسكرية حين
مر من امامه . كان المكان يزداد اكتضاضا وازدحاما وكأن الدنيا كلها قد انتقلت الى
هنا . ظل ينتظر وينتظر ساعات دون نتيجة , وكان كلما رأى ضابطا يمر من قربه يخبره
بانه ينتظر لمقابلة العقيد عبد السلام لانه طلبه شخصيا فيقال له انتظر وسنخبره .
كانت الاخبار تتوارد الى الاذاعة عن ما يجري في انحاء بغداد والبلد , ومن بينها قيام
الجماهير بسحل جثة الامير عبد الاله بالشوارع وتعليق جثته امام بوابة وزارة الدفاع
مما كان يطمئنه بعض الشيء ويشعره بانه قام بعمل صحيح بقتل العائلة المالكة . وفي ساعة
متأخرة من بعد الظهر ادخلوه على عبد السلام عارف فدخل وأدى له التحية العسكرية وظل
واقفا عنده بالاستعداد
- اهلا , رئيس عبد الستار ؟
- اهلا بك سيدي
- مرحبا بك , لقد تم اخباري بما فعلت اليوم , عفارم عليك
- سيدي لم افعل الا واجبي الوطني
- نعم , هذا ما هو منتظر من كل ضابط وطني شريف مثلك
- اشكرك سيدي
- على كل , انا احببت ان اشكرك واهنئك على العمل الرائع الذي قمت به . يمكنك العودة الى وحدتك العسكرية وانتظر الاوامر وسنقوم بابلاغك لاحقا عن كل ما يستجد بشأنك
- حاضر سيدي
- وبالمناسبة , ارجوا منك ان تعد افادة كاملة تدون فيها كل ما حدث صباح اليوم فقد تم تشكيل مجلس تحقيقي للنظر بما جرى بقصر الرحاب والمصير الذي لحق بالعائة المالكة
- أمرك سيدي , لكن هل انا متهم بشيء ؟
- لا ابدا , لكن كما تعرف فان الموضوع يجب ان يسوى قانونا , وفي كل الاحوال انا اصدرت الاوامر باعتبار كل ما وقع كجزء من أحداث الثورة
- حاضر سيدي , سأعد الافادة التي تطلبونها كما ترون
- شكرا
خرج عبد الستار من غرفة العقيد عبد السلام عارف وقد اصيب بخيبة امل كبرى , فهاهو يدرك ضألة حجمه وصغر مكانته حين ظل ينتظر ساعات عديدة حتى سمح له بمقابلة احد قادة الثورة . فبعد ان كان يحلم في الصباح بالملوكية والرئاسة اذا به يطلب منه بان يعود لوحدته بعد كل ما فعله كأن شيئا لم يكن . ليس هذا فقط , بل سيحقق معه وسيسأل عن تفاصيل كل ما جرى في قصر الرحاب وكانه متهم . انها حقا سخرية سخيفة للقدر , فبعد ان قتل الملك وخاله الامير وكان السبب بنجاح الثورة كلها , هاهو يعود لبيته كما يفعل كل يوم .
- اهلا , رئيس عبد الستار ؟
- اهلا بك سيدي
- مرحبا بك , لقد تم اخباري بما فعلت اليوم , عفارم عليك
- سيدي لم افعل الا واجبي الوطني
- نعم , هذا ما هو منتظر من كل ضابط وطني شريف مثلك
- اشكرك سيدي
- على كل , انا احببت ان اشكرك واهنئك على العمل الرائع الذي قمت به . يمكنك العودة الى وحدتك العسكرية وانتظر الاوامر وسنقوم بابلاغك لاحقا عن كل ما يستجد بشأنك
- حاضر سيدي
- وبالمناسبة , ارجوا منك ان تعد افادة كاملة تدون فيها كل ما حدث صباح اليوم فقد تم تشكيل مجلس تحقيقي للنظر بما جرى بقصر الرحاب والمصير الذي لحق بالعائة المالكة
- أمرك سيدي , لكن هل انا متهم بشيء ؟
- لا ابدا , لكن كما تعرف فان الموضوع يجب ان يسوى قانونا , وفي كل الاحوال انا اصدرت الاوامر باعتبار كل ما وقع كجزء من أحداث الثورة
- حاضر سيدي , سأعد الافادة التي تطلبونها كما ترون
- شكرا
خرج عبد الستار من غرفة العقيد عبد السلام عارف وقد اصيب بخيبة امل كبرى , فهاهو يدرك ضألة حجمه وصغر مكانته حين ظل ينتظر ساعات عديدة حتى سمح له بمقابلة احد قادة الثورة . فبعد ان كان يحلم في الصباح بالملوكية والرئاسة اذا به يطلب منه بان يعود لوحدته بعد كل ما فعله كأن شيئا لم يكن . ليس هذا فقط , بل سيحقق معه وسيسأل عن تفاصيل كل ما جرى في قصر الرحاب وكانه متهم . انها حقا سخرية سخيفة للقدر , فبعد ان قتل الملك وخاله الامير وكان السبب بنجاح الثورة كلها , هاهو يعود لبيته كما يفعل كل يوم .
عاد عبد الستار الى بيته واستقبلته زوجته
وطلب منها ان تعد له طعام الغداء لانه لم يذق شيئا منذ الامس . جلس ليستريح قليلا
ثم بدأ يروي لزوجته تفاصيل كل ما حدث في ذلك اليوم , وكان يرتعد ويرتجف في بعض
الاحيان حين يخبرها بالتفاصيل الدقيقة , فما كان منها غير ان تهديء من روعه , ثم
طلبت منه ان يدخل اى الحمام ويغتسل بعد ان تعايش مع الموت والدماء طيلة ذلك اليوم . دخل
الى الحمام وفتح صنبور الدوش فلسعه سائل حار أخذ ينزل على جسده , نظر الى السائل
الذي ينزل عليه فصرخ صرخة شديدة من خوفه , فما كان ينزل عليه لم يكن ماء بل دم احمر
. رفع عينيه الى الاعلى فرأى الدوش يصب عليه بخات من الدماء من كل جانب فاخذ يصيح
ويصرخ فدخلت عليه زوجته وقالت له
- عبد الستار ؟ ماذا بك , لماذا تصرخ ؟
- دماء , دماء , الدماء تصب علي من كل جانب
- دماء ؟
- الا ترين الدوش يسكب علي الدماء ؟
- اي دماء فانا لا ارى شيئا
نظر الى الاعلى مرة اخرى فلم يجد غير ماء ينصب من الدوش , فقال لزوجته
- يا ألهي .. ماهذا الذي يحدث ؟ فقبل قليل كان الدم يسقط علي من كل مكان
- انت متعب يا عزيزي بسبب ما شاهدته اليوم , هيا اخرج وأسترح قليلا
خرج عبد الستار من الحمام وارتاح قليلا ثم تناول طعامه ثم فتح الراديو ليسمع الاخبار . مر المساء وحل الليل وحان وقت النوم وهو مستمر بالاستماع الى الراديو وينتقل من محطة الى اخرى . وفي ساعة متأخرة قالت له زوجته
- عبد الستار ؟ الا تنام ؟
- كلا سابقى أسمع الراديو قليلا
- حسنا سأصعد انا والاطفال الى السطح لننام
- حسنا , اصعدوا وسالحق بكم بعد قليل
ظل عبد الستار يسمع بيانات الثورة وردود الافعال وتحركات الدول وغير ذلك من الاخبار التي تنطلق من المذياع . وفي وقت متأخر من الليل اغلق الراديو وتوجه الى السطح لينام . صعد درجات السلم ثم فتح باب السطح فصرخ صرخة شديدة بأعلى صوته حال خروجه لانه شاهد جثث الملك والامير عبد الاله والملكة نفيسة والاميرة عابدية وهي مخضبة بالدم ترقد على الاسرة الموجودة بالسطح بدلا من زوجته واطفاله . استفاقت زوجته من نومها اثر صيحته وهرعت اليه وهي تقول
- عبد الستار ماذا جرى لك ؟ لماذا تصيح ؟
- هاهم امامي جميعا
- من هم ؟
- فيصل وعبد الاله والاخرين
- اين ؟
- على الاسرة , الا ترينهم ؟
- لا ارى شيئا . انك متعب يا عبد الستار واصبحت تتخيل . هيا تعال معي وسابقى قليلا معك على السرير
- عبد الستار ؟ ماذا بك , لماذا تصرخ ؟
- دماء , دماء , الدماء تصب علي من كل جانب
- دماء ؟
- الا ترين الدوش يسكب علي الدماء ؟
- اي دماء فانا لا ارى شيئا
نظر الى الاعلى مرة اخرى فلم يجد غير ماء ينصب من الدوش , فقال لزوجته
- يا ألهي .. ماهذا الذي يحدث ؟ فقبل قليل كان الدم يسقط علي من كل مكان
- انت متعب يا عزيزي بسبب ما شاهدته اليوم , هيا اخرج وأسترح قليلا
خرج عبد الستار من الحمام وارتاح قليلا ثم تناول طعامه ثم فتح الراديو ليسمع الاخبار . مر المساء وحل الليل وحان وقت النوم وهو مستمر بالاستماع الى الراديو وينتقل من محطة الى اخرى . وفي ساعة متأخرة قالت له زوجته
- عبد الستار ؟ الا تنام ؟
- كلا سابقى أسمع الراديو قليلا
- حسنا سأصعد انا والاطفال الى السطح لننام
- حسنا , اصعدوا وسالحق بكم بعد قليل
ظل عبد الستار يسمع بيانات الثورة وردود الافعال وتحركات الدول وغير ذلك من الاخبار التي تنطلق من المذياع . وفي وقت متأخر من الليل اغلق الراديو وتوجه الى السطح لينام . صعد درجات السلم ثم فتح باب السطح فصرخ صرخة شديدة بأعلى صوته حال خروجه لانه شاهد جثث الملك والامير عبد الاله والملكة نفيسة والاميرة عابدية وهي مخضبة بالدم ترقد على الاسرة الموجودة بالسطح بدلا من زوجته واطفاله . استفاقت زوجته من نومها اثر صيحته وهرعت اليه وهي تقول
- عبد الستار ماذا جرى لك ؟ لماذا تصيح ؟
- هاهم امامي جميعا
- من هم ؟
- فيصل وعبد الاله والاخرين
- اين ؟
- على الاسرة , الا ترينهم ؟
- لا ارى شيئا . انك متعب يا عبد الستار واصبحت تتخيل . هيا تعال معي وسابقى قليلا معك على السرير
نظر مرة اخرى فلم يرى غير اطفاله نائمين فهدأت نفسه . اضطجع على سريره وكل اوصاله ترتجف
, كان متأكدا بانه رأى الجثث امامه لكنه ايقن بعد ذلك بانه كان يتخيل لان كل شيء
عاد الى طبيعته . ظلت زوجته تمسد على رأسه وتقرأ له الايات القرأنية فارتاح قليلا ثم
نام . غفى غفوة عميقة بعد كل هذا التعب والارهاق الذي مر به في يومه . وبينما هو
نائم اخذ يحلم حلما غريبا ومخيفا في نفس الوقت . رأى نفسه على بوابة دهليز عميق
مظلم وقوة كبيرة تسحبه وتدخله اليه . اخذ يشعر وكأنه يطير داخل هذا النفق بينما تنساب
من حوله رياح ذات الوان مختلفة معظمها ملون بالوان الدماء . كان هناك وجه بعيد في
مؤخرة الدهليز يناديه ويكبر شيئا فشيئا كلما اقترب منه . كان الوجه يصيح
- ستــــــــــــــــــــــــار .... ســــــــــــــــــــتار
تعال الي يا ســــــتار ... اقترب مني يا سـتار
اتدري ماذا فعلت اليوم يا ســــــــــــــــــــتار
أتعلم ماذا اقترفت اليوم يا قــــــــــــــــــــاتل
لقد قتلت كل الناس بيدك يا ســــــــــــــــــتار
لقد فتحت ابواب الجحيم بيدك يا ســـــــــــتار
لن يرى العراق بعد اليوم الا الموت والدماء
لن يعرف البلد بعد الساعة أمـنا او استقرارا
ستـــــــــــــــــــــــــار .... ســـــــــــــــــــــتار
لن تعرف طعم الراحة بعد اليوم يا ســــــــتار
لن تذوق نوما هنيئا بعد اليوم يا ســـــــــــتار
ستبقى لعنتي تلاحقك وتلاحق من كان معك
شر ميتة ستموت انت ومن شاركك وسـاندك
ستبقى تراني وترى من قتلتهم حـــتى نلتقيك
ستــــــــــــــــــــــــار .... ســــــــــــــــــــتار
- ستــــــــــــــــــــــــار .... ســــــــــــــــــــتار
تعال الي يا ســــــتار ... اقترب مني يا سـتار
اتدري ماذا فعلت اليوم يا ســــــــــــــــــــتار
أتعلم ماذا اقترفت اليوم يا قــــــــــــــــــــاتل
لقد قتلت كل الناس بيدك يا ســــــــــــــــــتار
لقد فتحت ابواب الجحيم بيدك يا ســـــــــــتار
لن يرى العراق بعد اليوم الا الموت والدماء
لن يعرف البلد بعد الساعة أمـنا او استقرارا
ستـــــــــــــــــــــــــار .... ســـــــــــــــــــــتار
لن تعرف طعم الراحة بعد اليوم يا ســــــــتار
لن تذوق نوما هنيئا بعد اليوم يا ســـــــــــتار
ستبقى لعنتي تلاحقك وتلاحق من كان معك
شر ميتة ستموت انت ومن شاركك وسـاندك
ستبقى تراني وترى من قتلتهم حـــتى نلتقيك
ستــــــــــــــــــــــــار .... ســــــــــــــــــــتار
كان كلما اقترب من الوجه الذي يطير نحوه تتضح
معالمه اكثر واكثر حتى اصبح امامه مباشرة فاذا به وجه الملك فيصل كما رأه صباح ذلك
اليوم . وحين اصبح وجها لوجه معه قال للطيف
- اعفي عني يا فيصل , ارجوك اعفي عني فانا لم ادرك ما فعلت
- وهل استطيع ان اعفيك يا قاتل , وهل بيدي ان اغفر لك يا مجرم , وحتى ان عفيتك انا فماذا عن الاخرين الذين قتلتهم . ستبقى تراني حتى تموت وتأتي عندي , عندها سيقرر من بيده امرك ماذا سيحصل لك
ستــــــــــــــــــــــــار .... ســـــــــــــــــــــــــتار
- اعفي عني يا فيصل , ارجوك اعفي عني فانا لم ادرك ما فعلت
- وهل استطيع ان اعفيك يا قاتل , وهل بيدي ان اغفر لك يا مجرم , وحتى ان عفيتك انا فماذا عن الاخرين الذين قتلتهم . ستبقى تراني حتى تموت وتأتي عندي , عندها سيقرر من بيده امرك ماذا سيحصل لك
ستــــــــــــــــــــــــار .... ســـــــــــــــــــــــــتار
سابقى الاحقك حتى التقيك يا ســـــــــــــــــــتـار
ســتار .. ستبقى تتعذب حتى تأتي الينا يا سـتار
وبينما هو واقف دفعه الطيف الذي يحدثه الى حفرة عميقة بشكل بئر مملوءة بالدم فسقط فيها واخذ يكافح ويجاهد لكي يطفوا على سطحها وهو يصيح بقوة
وبينما هو واقف دفعه الطيف الذي يحدثه الى حفرة عميقة بشكل بئر مملوءة بالدم فسقط فيها واخذ يكافح ويجاهد لكي يطفوا على سطحها وهو يصيح بقوة
- النجدة , النجدة .. اما من مغيث يدركني , اما من معين
ينقذني ... النجدة ... النجدة
وبينما هو في حلمه هذا أحس بيد تهزه لتوقظه ,
فتح عيناه فاذا بزوجته تقول له
- عبد الستار , اصحى عبد الستار ؟ ما هذا الذي تقوله ؟ ما هذا الحلم الذي تحلمه
فانت تصيح وتستنجد
استيقظ عبد الستار وجلس وجسمه يختض ويرتعش وقال
لزوجته
- كنت احلم حلم رهيب , رأيت الملك فيصل وهو يتوعدني ثم
يرميني في بئر مملوء بالدماء مما جعلني بان اصيح واصيح
- يا ستار ياربي , ما هذا الذي يحصل لك . لقد حل الفجر , هيا قم وتوضأ وصلي قليلا
عسى الله ان ينزل السكينة على قلبك
- حسنا , نعم ربما اصبت
نزل الى الاسفل واتجه الى المغسلة ليتوضأ .
فتح صنبور الماء فاذا به يصب دما وليس ماء فصرخ مرة اخرى
- دم .. دم
نزلت زوجته راكضة وقالت له
- عبد الستار ماذا بك ؟
- دم .. دم
- اي دم ؟ وماذا تقول ؟
نظر الى المغسلة مرة اخرى فاذا هو ماء عادي ولي دم كما تصور . استغفر الله وتوضأ ثم فرش السجادة واخذ يصلي . وبينما هو يصلي انسابت الى اسماعه من راديو الجيران الذي فتحوه لسماع تلاوة الصباح من القرأن أية تقول
(من أجل ذلك كتبنا على بني اسرئيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد بالارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا)
نظر الى المغسلة مرة اخرى فاذا هو ماء عادي ولي دم كما تصور . استغفر الله وتوضأ ثم فرش السجادة واخذ يصلي . وبينما هو يصلي انسابت الى اسماعه من راديو الجيران الذي فتحوه لسماع تلاوة الصباح من القرأن أية تقول
(من أجل ذلك كتبنا على بني اسرئيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد بالارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا)
فاخذ يبكي كالمرأة وهو ساجد في صلاته .
مرت الايام والشهور والاحلام المزعجة والكوابيس لا تفارق قاتل العائلة المالكة عبد الستار العبوسي . كافأته الثورة بان عينته معاون للملحق العسكري في موسكو فسافر الى مقر عمله الجديد متأملا بان يخلص من الحال الذي هو فيه , لكن حتى وهو هناك لم تفارقه تلك الاحلام والرؤيا المريرة . وحين حصلت مجزرة الموصل في العراق بعد حوالي ستة اشهر من الثورة وتبعتها مجزرة كركوك كان عبد الستار يقول لنفسه (صدق الملك فيصل فيما يقوله لي في كل مرة اراه فيها , لقد فتحت ابواب جهنم بنفسي على هذا البلد ولن يهدأ له حال ولن يستقر بعد ما فعلته ابدا ) .
ظل عبد الستار على هذا الحال سنينا طويلة , وكانت الاحلام تأتيه باشكال مختلفة , وفي كل مرة كان يظهر له احد ضحاياه ممن قتلهم بغدارته صبيحة ذلك اليوم الدامي . وفي احدى الليالي , وبعد حوالي اثنا عشر عاما من ذلك اليوم المشؤوم جاءه حلم شديد في وقعه عليه بشره فيه طيف الملك فيصل بانه بات قريبا جدا من الموعد المنتظر وان لقائه بضحاياه اصبح وشيكا , وان ليس هناك من راد لهذا الموعد او مؤجل له ابدا . وفي صباح اليوم التالي , واثناء جلوسه في غرفته بمقر وحدته العسكرية بالبصرة انتابته كأبة شديدة ورأى اطياف جميع ضحاياه يدخلون عليه دفعة واحدة ويحيطون به من كل جانب ويقولون له (الان ستأتي معنا يا عبد الستار فقد حلت الساعة) . ومن غير وعي سحب مسدسه وأطلق رصاصة منه على رأسه ليسقط على الارض والدماء تتدفق من رأسه . قامت الاطياف التي تحيطه بسحبه من جثته وانطلقت مرتفعة به الى السماء , حيث لا عدالة غير عدالة السماء ولا حكم غير حكم الخالق .
-
تمت -
وسام الشالجي
30 نوفمبر 2014