اخر المواضيع في المدونة

السبت، 22 نوفمبر 2014

خواطر بالاسود والابيض - حلاوة ايام زمان


في ايام قديمة خلت اصبحت سحيقة بذاكرتنا كانت الحياة جميلة والايام بسومة وكل ما يجري ويحدث فيها رائعا . في صغرنا لم يكن كل ما حولنا جميلا فحسب , بل ان احساسنا بطعم الحياة الجديدة التي انبعثت فينا كان لذيذا يغني مع سمفونية الحياة الرائعة التي تعزف في كل ركن من اجسادنا . كانت الحيوية تتدفق فينا , فمشينا لم يكن مشيا بل كان تأرجحا , وجلوسنا لم يكن جلوسا بل كان تكورا , وحبل مخيلتنا لم يكن قصيرا بل كان ممتدا . كنا نرى الحياة وكأنها لم توجد الا من اجلنا , وان مفرداتها لم تصنع الا من اجل اسعادنا . اما ما كان يجري حولنا فكان مليئا بالايام الجميلة ذات المناسبات المختلفة التي لكل واحدة منها طعما ومذاقا خاصا بها . فتارة تأتي (المحية) بالعابها النارية من صعادات ومفرقعات ومشاعل الشمس و(البوتاز) وانواع الزينة الخاصة بها . وتارة اخرى يأتي يوم زكريا فتتحول الاسواق كلها فجأة لبيع لوازمها ومفرداتها . كانت العوائل تشتري الشموع والطبول (الدنابك) والتنك , حيث يشترى للولد تنكة بـ (بلبول) وللفتاة تنكة سادة , ثم يوضع في بعضها الشموع وفي بعضها الاخر الياسمين . وعند المغرب تشعل الشموع وتنصب الصواني بحلوياتها اللذيذة من مسقول ولقم وكرزات وزبيب وحامض حلو وصحون الزردة والحليب التي كنت لا اطيق طعمها . . وحتى بألعاب زمان فكان تغيرها وتنوعها مع المواسم جميلا وممتعا , ففي بعض الاحيان تجد كل الاولاد يلعبون الدعبل , وفجأة ترى الكل قد اصبحوا يلعبون الخرز . وما هي الا هنينة حتى ترى كل الاولاد قد اصبحوا طيارين يطيرون بطياراتهم الورقية ويتبارون فيمن يبلغ مديات اعلى بطائرته او يقطع طائرات الاولاد المنافسين بخيط طائرته المعفر بالشريس والزجاج المطحون لكي يصبح حادا . ومن بين كل المناسبات التي تمر علينا كان لرمضان طعما خاصا به . فقبل مجيئه يستعد له كل من في البيت نفسيا ومعنويا و(تسوقيا) . وحين يهل علينا يكون اجمل شيء فيه هو سحور اليوم الاول حيث نستيقظ ونحن في منتهى السعادة و(الاشتلال) لنجلس على المائدة ونأكل بفرح غامر وسعادة طافحة وجبة السحور الذي جرى اعدادها من المساء . ثم يلي ذلك رحلة الصيام بجوعها وعطشها وساعاتها الطوال لتنتهي عن المساء بوجبة فطور هي من اجمل والذ ما يكون . كنا نجلس على المائدة قبل الافطار بنصف ساعة وعيننا لا تفارق عقارب الساعة واسماعنا موجهة نحو الراديو بانتظار مدفع الافطار . وحين يطلق المدفع نهجم على شوربة العدس لكي ننهيه بسرعة , وكم كان يزعجني كثرة ما يصب لي منها لاني كنت اتوق لتناول الطعام الذي افتقدته لساعات طوال بدل من شرب الكثير من الشوربة . كانت المائدة عادة ما تكون حافلة باصناف الطعام الشهية من كبة الحلب والتشريب الابيض والكباب المشوي والمخلمة والزلاطة والطرشي والخضرة واشياء كثيرة . اكثر شيء كان يجذبني هو كبة الحلب الذي كنت اضع في فمي منها الواحدة تلو الاخرى حتى يأتيني تنبيه يقول لي (هناك حصص لكل واحد فلا تأكل اكثر من حصتك ودع لغيرك حصته) . وبعد خمس او ستة ايام يدب الملل والتثاقل في نفوسنا , فالجلوس على السحور يصبح ثقيلا فنبدأ بالتهرب منه , والصيام نفسه يصبح متعبا فنتظاهر بالصيام ونحن بالواقع لسنا كذلك . وما هي الا ايام قصيرة حتى يكتشف امرنا حين نضبط ونحن نأكل خلسة بينما نحن ندعي الصيام فيقال لنا (يلا ميخالف , بعدكم صغار عود من تكبرون لازم تصومون كل رمضان) . وبعد ان نخلص من هذه المحنة وتمر ايام رمضان متتابعة نبدأ بالتهيؤ للعيد , فهذا يتصور الحذاء الذي يتمناه , وذاك يتخبل القاط الذي يريده . لم يكن الاهل يبخلون عنا بشيء فكل ما نتمناه يشترى لنا وكل ما نتخيله يجلب لنا . وفي يوم العرفاة , ولا ادري لماذا يسمى عرفاة حتى مع عيد الفطر , نأخذ الى الحلاق الذي كنا نتصور بانه لا يجوز لنا ان ندخل العيد الا بعد ان يضع لمساته على رؤوسنا , وفي الحقيقة هي لم تكن لمسات بل اشبه بالحراثة لان المزين لم يكن يهدأ له بال مالم يصلبخ رؤوسنا بماكناته اليديوية . وحين نعود للبيت علينا ان ندخل الحمام قبل ارتداء ملابس العرفاة التي هي على الاغلب بجامة بازة مقلمة . كنا نبقى طول ذلك اليوم نردد ترديدة (باجر عيد ونعيد و.... بلحيت سعيد) , ولا اعرف من اين أتت هذه الترديدة ولماذا تقال . وحين يسمعنا الاهل نردد هذه الترديدة يوبخوننا ويقولون لنا (عيب كلش قولوا : باجر عيد ونعيد ونبوس أيد السيد) . وعند الليل نضع كرسي بجانب السرير  وعليه الحذاء والقاط لكي نرتديهما حال استيقاظنا من النوم . نقضي تلك الليلة وكل واحد فينا يعد مبالغ العيديات التي سيجمعها وانواع الالعاب التي سيذهب اليها وبيوت الاقرباء التي سيزورها لحصد المزيد من العيديات . كان كل شيء بسيطا ومنسابا بتوافق بديع ومتناغم مع طفولتنا . لم يعكر صفو بالنا او يتعب ادمغتنا افكار سيئة بل كانت مشاعر المحبة طافحة في كل تصرفاتنا . لم يخطر على بالنا قط بان من يجلس الى جانبنا على الرحلة المدرسية هو من مذهب اخر , او ان لنا صديقا دينه مغاير لديننا . كان كل ما نقرأه في المدرسة يمجد تاريخنا ويزرع الوطنية في نفوسنا ويعزز من ايماناتنا . لم تهتز فكرة ما في عقولنا , ولم تسقط شخصية من نظرنا , ولم نتعلم ان نكره احد من معيتنا . طوبى لحياتنا تلك التي صنعها لنا ابائنا , ووا أسفاه على الحياة التي يعيشها من اتى بعدنا وخربها لهم شياطينيوا هذا العصر وظلاميونهم .









 


وسام الشالجي

22 نوفمبر 2014