من منا من ابناء جيل الخمسينات والستينات لا
يتذكر الحمامات الحجرية , سواء المنزلية منها او العامة . انا عايشت كلا النوعان من
الحمامات , المنزلي الذي كان موجودا في بيت جدي والعام الذي كنت اذهب اليه بصحبة
خالي حين كنت بالكلية . يتكون الحمام الحجري من غرفة مغلقة ذات حيطان عادية على
الاغلب وأرضية سمنتية , في احد جوانبها قدر كبير مصنوع من الصفر مبني بالحائط
ومغطى بغطاء فيه فتحة صغيرة تقع فوقها حنفية ماء تستعمل لمليء القدر , بينما هناك
في اسفل القدر حنفية اخرى يصب منها الماء الساخن الى حوض حجري موضوع على الارض ,
ويوجد الى جانبها حنفية ماء بارد لمكاسرة الماء الساخن عند الحاجة . ويوجد طريقتان
لتسخين قدر الماء في الحمامات الحجرية , الاولى يتم فيها تسخين قدر الماء بواسطة
الخشب الذي يدفع من الخارج من خلال فتحة تؤدي الى اسفل القدر ويشعل بعد ترطيبه
بالنفط الابيض , والثانية بواسطة بريمز للتسخين توجه ناره الى قاعدة القدر من خلال
نفس الفتحة الخارجية مرتبط بانبوب صاعد الى الاعلى حيث يوجد خزان للنفط فيه صمام
ينظم انسكاب النفط منه بشكل يتلائم مع شدة الشعلة الموجهة الى اسفل القدر . وفي
كلا الطريقتان يصعد الدخان الى الاعلى من خلال مدخنة تقع فوهتها على احد جوانب سطح
الدار حيث تخرج منها الادخنة السوداء . وفي الحالتين تمتد الحرارة لتسخن ارضية
الحمام لتجعله ساخنا بحيث يتبخر الماء حالا كلما انسكب على الارضية ليصبح الحمام
برمته وكأنه حمام بخاري . وقد تسخن الارضية الى درجة يصعب معها المشيء المباشر
عليها فتستعمل بمثل هذه الحالة القباقيب الخشبية لانها الوحيدة الصالحة للاستعمال
مع الحرارة والماء الساخن . وتستعمل ايضا للجلوس تختة خشبية مكانها قبالة حوض
الماء الموضوع على الارض . طبعا لا تشعل الحمامات الحجرية الا ايام الشتاء الباردة
, وعلى الاغلب تهيأ للاستعمال ايام الجمع حيث الجميع بالمنزل ويأخذون بالتناوب على
دخول الحمام والغسل فيه . يملأ الحوض من الحنفيات بالماء حسب درجة السخونة التي
يريدها المستحم , ولسكب الماء على الجسم تستعمل طاسة صغيرة من الفافون , بينما
تستعمل لتنظيف الجسم (ليفة) استحمام مصنوعة من الالياف تدهن بالصابون قبل
الاستعمال او توضع الصابونة بداخلها ثم ترطب بالماء فتملأها الرغوة . وكان الجسم
يفرك بهذه الليفة بقوة وبعنف حتى ان لونه يتغير من شدة الفرك . وعادة ما يبدأ
المستحم بغسل شعره بصابون الرقي او بالشامبو لمرة او مرتين , ثم يأخذ فوم او فومين
لغسل الجسم بالليفة يستعمل فيها الصابون العادي . اما الاقدام فتجلف من الاسفل بحجارة سوداء تشبه حجر المسن تزيل كل الجلد الميت لتصبح القدمان بعدها بيضاء كالثلج . والاستحمام بالحمام الحجري من
امتع الممارسات خصوصا في أيام الشتاء الباردة حيث يستمتع الانسان باوقات ساخنة
يتعرق فيها فتنفتح كل مسامات الجسم وتزول كل الترسبات الدهنية , وبسبب الفرك
بالليفة وحرارة الحمام يخرج المرء من الحمام وقد صار لونه ابيضا مائلا الى الحمرة
.
اما الحمامات العامة فهي تعمل بنفس المبدأ
باختلاف بسيط هو ان قاعة الغسل تكون كبيرة يوجد بوسطها قبة مسطحة ساخنة للاستلقاء
عليها . ويزود عادة الزبون بوزرة لتغطية اعضائه الداخلية , لكن بعض الناس لا
يستعملونها ولا يكترثون من الظهور امام الاخرين وهم عراة بالكامل . وفي اركان
القاعة توجد احواض الغسل موضوعة على الارض وامامها تختات الجلوس ويجري الغسل تماما
كطريقة الغسل بالمنزل , وبكلمة اخرى تشبه الحمامات العامة تقريبا الحمامات
المنزلية في كل شيء الا بشيء واحد هو ان الغسل هنا يكون مشتركا وامام الاخرين .
ولمن يحب الخصوصية يوجد في الحمامات العامة غرف صغيرة تعطى لمن يحب ان يغتسل بشكل
خاص وبمعزل عن الاخرين وهي تشبه تقريبا الحمام المنزلي . وعند الخروج من الحمام
العام يتم استعمال المناشف التي تعطى للزبون او المناشف الخاصة التي يجلبها الزبون
معه . يخرج الزبون من الحمام الى قاعة جلوس دافئة يستريح فيها قليلا من الاجواء
الساخنة والبخارية التي كان فيها , ويقدم للزبائن في هذه القاعة شاي الدارسين الذي
هو لا يقدم تقريبا الا بالحمامات العامة او الشاي العادي اذا كان لا يحب شاي
الدارسين . ان الغسل بالحمام العام لا يخلو من متعة خاصة , وقد ذهبت اليه لمرات
عديدة اثناء دراستي بالكلية عندما كنت ساكنا في بيت جدي , حيث كنا نذهب اليه انا
وخالي سعد وفي بعض الاحيان يرافقنا اخي الكبير عصام اذا كان موجودا بالبيت باجازة
من وحدته العسكرية . وكثيرا ما كنا نذهب الى حمام عام يقع بشارع الكفاح , وفي بعض
الاحيان كنا نذهب الى حمام سوق يقع بالاعظمية مقابل النزيزة . اما اجرة الغسل فهي
غير مرتفعة , اذ كانت في السبعينات لا تزيد عن 170 فلس . ومع اني لم امر بها , لكن من طقوس الماضي التي كانت سائدة هي ان العريس يجب ان يأخذ الى الحمام العام بصحبة اصحابه قبل الزفة لكي يغسل ويتنظف من ضمن التحضيرات الضرورية لليلة الزفاف .
وبعد ان كبرنا
عشنا في بيوت مختلفة وتغير الحال وصارت حماماتنا غربية الطراز فيها البانيو أو
الدوش (الشور) , وصار الماء الساخن يأتي مباشرة من الكيزرات ولم تعد هناك حاجة الى
تختات خشبية او طاسات الفافون . ولم تعد الحمامات تسخن قبل الغسل الا اذا كان يوجد
فيها مدافيء كهربائية , وصار الحمام يتدفأ فقط من البخار الصاعد من الماء الساخن
المستعمل عند الغسل . وحتى الليف صارت اسفنجية تداعب بشرة الجسم بنعومة من غير فرك
ولا قوة تستعمل . وبالرغم من كل هذا التطور بقيت في نفوسنا رغبة وحنين للحمامات
الحجرية القديمة واشتياق للاجواء البخارية والدفيء الموجود فيها لكن هذه هي حكمة
الله , فكل شيء الى زوال والى تغير ولا يبقى شيء على حاله ابدا .
وسام الشالجي
17 نيسان 2016