اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 3 أبريل 2016

خواطر بالاسود والابيض - اتق شر من احسنت اليه

مبدأ (أتق شر من احسنت أليه) مبدأ قديم وقد حدثت لي حادثة بحياتي جسدته تماما امامي بحيث صار عندي من المسلمات . سافرت عام 1982 الى انكلترة لاكمال دراستي العليا بعد ان حصلت على قبول للدارسة على النفقة الخاصة من جلمعة اسكس . وكنت قبلها قد كافحت وجاهدت جهاد المستميت لفتح ملف دراسي لي بدائرة البعثات للحصول على موافقة سفر للدراسة لان السفر كان قد منع على العراقيين بسبب الحرب , علاوة على كوني ضابط احتياط مرشح للسحب الى الجيش في اية دقيقة . لا اريد ان اخوض في تفاصيل حصولي على الموافقات اللازمة لان هذا هو ليس جوهر موضوع خاطرتي هذه , وهو يستحق خاطرة منفصلة لوحده . التحقت بالجامعة وسجلت فيها كطالب ماجستير بقسم الكيمياء , وكان في الجامعة حوالي 25 طالب عراقي معظمهم مبعوثين من الدولة باستثناء اثنين يدرسان على نفقتهما الخاصة اصبحت ثالثهما . كانت تكاليف الدراسة في حينها باهضة اذ تبلغ 3600 باون استرليني بالسنة للطالب الاجنبي , بينما كانت تبلغ حوالي 900 باون للطالب البريطاني . ومن الاشياء التي استغربت لها بمجرد تسجيلي هو اني اكتشفت بان هناك تنظيم حزبي عراقي بالجامعة وان معظم الطلاب كانوا منتمين لهذا التنظيم . ومما استغربت له ايضا اني وجدت الطلاب العراقيين يراقبون ويتجسسون على بعضهم البعض في كل شيء , وكان كل ما يجري بين الطلبة العراقيين بالجامعة من نشاطات وتحركات خصوصا علاقاتهم بالاجانب يبلغ الى التنظيم الحزبي او السفارة العراقية في لندن من خلال تقارير منتظمة ترفع لهذا الغرض .

شعرت بهذه الاجواء بعد التحاقي بالجامعة ولقائي بالطلبة العراقيين فيها , ولا أجافي الحقيقة ان قلت بأني نفسي صرت مباشرة احد المقصودين بهذه المراقبة لكوني طالب جديد بالجامعة يدرس على نفقته الخاصة وجئت في ظروف واحوال معقدة يمر بها البلد في حينها . لم اهتم بهذا ابدا وحافظت على علاقتي بكل الطلبة العراقيين بشكل حسن ومتساوي , لكن علاقني توطدت بعد فترة بطالب عراقي يدرس معي بنفس القسم ويداوم بنفس المختبر سأسميه هنا (س) لاني لا اريد ان اذكر اسمه لاني اخذت عهدا على نفسي بان لا اذكر اسماء من تسببوا بالأساءة لي . كان (س) مثلي يدرس على نفقته الخاصة ويرافق زوجته المبعوثة من قبل الدولة , وقد تطورت العلاقة بيننا لتصبح علاقة عائلية وصرت مع عائلتي نتزاور معهم باستمرار . كان (س) منتميا للتنظيم الحزبي وقد فاتحني بعد مدة لكي انتمي انا ايضا فأعتذرت منه وقلت له باني اريد التفرغ للدراسة خصوصا وانها تكلفني مبالغ كبيرة .

وفي تلك الاثناء اصدرت الحكومة العراقية قرارا يمنع بموجبه العراقيين من الدراسة بالخارج على نفقة اية جهة غير عراقية , ومن يثبت عليه ذلك يحال الى المحاكم المختصة وتصادر امواله المنقولة وغير المنقولة . كان هذا القرار اشبه بمبدأ (لا ترحم ولا تريد لرحمة الله ان تنزل) , اي ان الحكومة بدلا من ان تساعد الطلبة الدارسين بالخارج على نفقتهم صارت تمنع عليهم الاستفادة من اي جهة يمكن ان تغطي تكاليف دراستهم . وقد أوعزت الحكومة لكل اجهزتها بالخارج للتقصي عن اي طالب عراقي يدرس على نفقة جهة اجنبية لتطبيق القرار عليه . صار هذا الامر الشغل الشاغل للطلبة العراقيين فراحوا يراقبون كل طالب نفقة خاصة لاكتشاف فيما اذا كان يدرس على نفقة جهة خارجية لكي يسارعوا بالابلاغ عنه . اصبحنا نحن الطلبة الثلاثة الذين ندرس على نفقتنا بجامعة اسكس موضع مراقبة وتقصي مستمرين لملاحظة اي علامة او مؤشر يوحي باننا مستفيدين من منحة اجنبية لتغطية تكاليف دراستنا . ومن بين ثلاثتنا كانت الشكوك تحوم بالذات حول (س) الذي كان قد اكمل ثلاث سنوات دراسية ودخل بالرابعة . وكنت كلما جمعتني جلسة بطالب عراقي اسمع منه بان هناك شكوك كبيرة بان لدى (س) زمالة دراسية اجنبية والا من اين له كل هذه الاموال التي دفعها , غير ان الجميع كانوا يقرون بان لا دليل لديهم على ذلك .

انتهت السنة الاولى من دراستي ودخلت بالسنة الثانية , وفي يوم من الايام جمعتني الصدفة بجلسة ليلية بمسؤول التنظيم الحزبي في كافتيريا الجامعة . وبعد تداول الاحاديث بيننا قال لي بانهم حصلوا على دليل بأن لدى (س) منحة دراسية من الجامعة وان التنظيم والسفارة قد ابلغا بذلك . استغربت لهذا الخبر , فما كان مني غير ان ابلغ (س) باليوم التالي بتفاصيل هذا الحديث الذي سمعته وطلبت منه ان يتدارك الامر خوفا عليه وعلى مستقبله . امتعض (س) كثيرا من هذه الانباء لانه منتمي للتنظيم الذي يريد مسؤوله الايقاع به . تم احتواء الامر في حينها ولم يحصل اي شيئ يعكر دراسة (س) بالجامعة . وقبل ان انهي سنتي الثانية فاتحني استاذي المشرف وقال لي بانه مهتم جدا بكوني ادرس على نفقتي الخاصة وانه يريد تدبير امر لمساعدتي في تحمل نفقات الدراسة للسنة القادمة من خلال الاستفادة من منحة (ORS) والتي هي منحة خاصة تقدمها الحكومة البريطانية لبعض الطلبة الاجانب يتم بموجبها تخفيض اجور دراسة الطالب لتساوي اجور الطالب البريطاني وطلب مني مليء بعض الاوراق لهذا الغرض . قمت بتوقيع الاوراق وانا فرح جدا لان الاجور التي سادفعها ستنخفض كثيرا مما سيرفع عن كاهلي الكثير من الثقل . لم افكر ابدا بان هذا الامر يخالف قرار الحكومة الذي مر ذكره لاني لن استلم اي اموال او نفقات بل مجرد تخفيض باجور الدراسة . وبعد مدة فاجئني أستاذي وأبلغني بان الموافقة قد حصلت بشمولي بمنحة الـ (ORS) واني لن ادفع مستقبلا اكثر من 900 باون بالسنة اسوة بالطلبة البريطانيين . فرحت كثيرا بهذا الخبر لكني لم ابلغ احدا به خوفا من ان يساء فهمه , لكن بعد ايام نشر هذا الخبر في الصحف المحلية في المدينة التي اسكن بها بعنوان (طالب عراقي يحصل على منحة (ORS)  من الحكومة البريطانية) . قامت الدنيا بالطلبة العراقيين بالجامعة ولم تقعد , واخذ الجميع يتكلمون باني قد خالفت قرارات الحكومة بحصولي على هذه المنحة . لم اهتم بالاقاويل لاني كنت واثقا من اني لم اخالف اي قرار حكومي وان الامر لا يتعدى تخفيض أجور الدراسة .

كانت التحويلات المالية تأتيني من العراق بصورة منتظمة لكني فوجئت بتوقفها فجأة فراجعت السفارة فقالوا لي بان ملفي الدراسي قد اغلق واني ساتعرض للمحاسبة حين ارجع للعراق لاني خالفت قرار الحكومة بحصولي على منحة دراسية اجنبية . قابلت الملحق الثقافي وافهمته باني لم احصل على منحة اجنبية وان الامر يقتصر على تخفيض اجور الدراسة فقال لي بان تقارير قد وردت للسفارة من نفس جامعتي تؤكد هذا الأمر وان بغداد قد ابلغت بذلك فصدر قرار بغلق ملفي الدراسي , وان الامر سيتبعه مصادرة اموالي المنقولة وغير المنقولة . ضحكت وقلت للملحق (انا لا املك ببغداد سوى قنفة وسرير , فهل ستصادر هذه الاشياء؟) . ضحك الملحق وقال لي بان علي ان اثبت باني غير مستفيد من اي منحة دراسية اجنبية لكي يعاد فتح ملفي الدراسي وتستأنف تحويلاتي المالية . عدت الى الجامعة وقابلت مسؤول التنظيم الحزبي لحل هذه المشكلة ففوجئت منه بابلاغي بان (س) هو الذي رفع تلك التقارير وانه حتى ارفقها بنسخ من الجرائد المحلية التي نشرت الخبر , وان الامر لن يمكن تسويته الا برفضي تلك المنحة وحصولي على وثيقة رسمية بذلك . سبب هذا الخبر صدمة كبيرة بالنسبة لي لاني لم اكن اتوقع بان يحصل هذا من الشخص الذي يفترض بانه صديقي الاول بالجامعة واني نفسي كنت قد وقفت معه سابقا بمثل هذا الامر . في اليوم التالي التقيت بـ (س) في المختبر وعاتبته على موقفه فقال لي بانه كان محرجا وان مسؤول التنظيم ضغط عليه وطلب منه رفع التقرير مما اضطره لاتخاذ هذا الموقف . لم اصدق قوله وقلت له (لا تكذب , انت فعلت هذا من نفسك لكي تبعد الشبهات عنك نهائيا من خلال الايقاع بي واستغليت الفرصة وسارعت للابلاغ عني) .

توقفت علاقتي بـ (س) بعدها وابلغت استاذي باني سأعتذر عن قبول المنحة لان تحويلاتي قد توقفت فقال لي (اترك التحويلات وسأحاول ايجاد منافذ اخرى يمكن ان تساعدك في حياتك الدراسية) , لكني اصريت على الاعتذار فما كان منه غير ان يقول لي (حسنا , افعل ما تريده لكن هذا غباء ما بعده غباء) . وبعد مدة اعيد فتح ملفي الدراسي واستأنفت التحويلات وأستأنفت دراستي . وهذه بعض صوري بأنكلترة اثناء دراستي .








وسام الشالجي

4 نيسان (ابريل) 2016