اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 27 مارس 2016

زكية جورج في الميزان التاريخي - دراسة

بقلم
 وسام الشالجي


1-   نشأتها

    زكية جورج مطربة سورية الاصل عراقية الاداء والموهبة . ولدت (فاطمة) وهو الاسم الاصلي لهذه الفنانة في عام 1902 في مدينة حلب السورية وعشقت الفن من صغرها . لا يعرف الكثير عن عائلتها وبداية حياتها في مسقط رأسها لكنه يرجح بان تكون من عائلة قريبة من الاوساط الفنية والا ما كان لها بان تعشق الفن وتقرر ان تحترفه فيما بعد .


   وفي عام 1920 حين بلغت الثامنة عشر قررت فاطمة مع اختها علية بان تهاجرا الى الموصل في العراق للعمل كراقصتين في ملاهي تلك المدينة , ولما كان العمل كراقصة أو مغنية في العراق آنذاك أمراً غير مقبول بالنسبة لفتاة مسلمة ، فقد غيرت فاطمة أسمها من فاطمة محمد إلى زكية جورج . عملت زكية لعدة سنوات كراقصة في الموصل ثم قررت ان تنتقل الى بغداد حيث ميدان الشهرة اوسع وفرص النجاح والتطور اكثر توفرا . عملت أولاً كراقصة في أحد ملاهي بغداد العادية ، ثم انتقلت للعمل في ملهى صالح بطاط عام 1926 وكانت هذه اول خطوة لها في عالم النجومية . ومن حسن الصدف ان زكية جورج قابلت لاحقا الأخوين صالح وداود الكويتي اللذين كانا يعملان في مجال الموسيقى والغناء وفي بداية حياتهما الفنية ايضا . طلب الاخوان من زكية بان تغني لهما فأعجبا بحلاوة صوتها واقنعاها بترك الرقص فبدأت بعدها عهداً جديداً في فن الغناء استمر لأكثر من عشرين عاماً .

   كانت زكية جورج وبعد حوالي عقد من العيش في العراق قد اتقنت اللهجة العراقية , كما كانت تتمتع بجمال الصوت الحلبي الممتاز مع دقة نطق تمتزج بحلاوة اللسان البغدادي لهذا لم يكن من الصعب عليها ابدا بان تغني بهذه اللهجة وان تقدم فيها اجمل الاغاني التي نالت شهرة واسعة . وفوق هذا كله كانت زكية جورج رائعة الجمال وفي مقتبل العمر مما ادى الى ان يهيم بها الكثيرون حبا , وعلى رأسهم الشاعران أكرم أحمد وكمال نصرت اللذان كتبا لها قصائد غنائية بديعة عززت من مكانتها بين المطربات السائدات في ذلك الوقت .

2-   زكية جورج المغنية

   بعد لقاء زكية جورج بالملحن الكبير صالح الكويتي في أواخر العشرينات تغير مجرى حياتها فتدربت على يده واحترفت الغناء حتى اصبحت من اهم مطربات عصرها . وبنفس الوقت فأن صالح الكويتي أبّدع هو الاخر بعد هذا اللقاء وانتج اجمل الالحان والموسيقى الراقية التي بقيت خالدة في الذاكرة العراقية حتى يومنا هذا . ثم ان الابداع بلغ قمته حين اكتمل جمال صوت زكية وحُسن ادائها مع موسيقى الكويتي ومع ما قدمه لها شعراء ذلك الزمان مثل الشاعر والكاتب عبد الكريم العلاف , مما خلق ثلاثي قل نظيره كان من نتاجاته أعمال تعتبر من روائع الغناء العراقي مثل اغنية: خدري الجاي خدري , كلبي خلص والروح , يامن تعب يامن شكة وغيرها .

   ذاعت اغاني زكية جورج في كل الاوساط العراقية وحتى خارج العراق وقد سهل بهذا وجود شركات تسجيل الاسطوانات في العراق وبقية العالم العربي مما ساعد في انتشار اعمالها الرائعة . وكانت اغانيها تتردد في وقتها في الملاهي والمقاهي فدخلت في اعماق الناس حتى البسطاء منهم . وكانت زكية جورج تتمتع بجرأة كبيرة في اختياراتها الفنية وطريقة ممارستها لحريتها وحياتها الشخصية ، بل وحتى في ادائها لبعض اغانيها . فمثلاً واثناء غنائها لأغنية (خدري الجاي خدري) كان تترنم بالكلمات وتغير كلمة (جاي) بـ (العرك) في بعض الاحيان لأن الجاي كان حديث العهد على ذائقة العراقيين وقتها بينما كان أصحاب الكيف ورواد الملاهي محتاجين لان يترنمون والتغني بالمشروب الروحي (العرك) وجلساته والتي طالما اقترنت بالعشق والهوى والطرب .


3-   هل تعتبر زكية جورج مغنية عراقية

   عرفنا بان الفنانة زكية جورج (فاطمة) قد ولدت في مدينة حلب بسوريا مما يعني بانها سورية الاصل . وفي عام 1920 هاجرت الى بغداد - العراق مع شقيقتها (علية) للعمل كراقصتين في ملاهي الموصل ثم بغداد . ان دافع الهجرة كان المجيء الى مدينة تزدهر بها الحياة الفنية وتعج بالاضواء التي تجلب الشهرة كبغداد , وهذا يعني بان الفتاتين لم تمارسا العمل الفني على مستوى الاحتراف العام في مسقط رأسهما في حلب قبل مجيئهما الى بغداد , لكن هذا لا يمنع ان تكونا قد رقصتا في البيوت على المستوى الخاص مما جعلهما تكتشفان موهبتهما القابلة للاستثمار . كان الرقص هو العمل الاول للفنانة زكية جورج في الموصل ثم بغداد , وقد مارست هذا العمل لعدة سنوات لحين احترافه بشكل رسمي في ملهى صالح بطاط عام 1926 . الا انه وبعد لقائها بالاخوين صالح وداود الكويتي واعجاب صالح الكويتي بصوتها فقد تحولت من الرقص الى الغناء . ان هذا سيجعل امامنا حقيقة اخرى لابد من توثيقها هي انه لا يوجد اي اغنية لزكية جورج قبل ذلك الوقت , وهذا سيجعلها مطربة عراقية اصيلة في جانب امتهان واحتراف الطرب .

   وفي عام 1936 تأسست دار الاذاعة العراقية وكان اول صوت نسوي عراقي ينطلق من سماعات تلك الاذاعة الى الأثير هو حصرا صوت الفنانة زكية جورج . تعتبر هذه هي الشهادة الثانية على عراقية هذا الصوت صناعة واحتضانا . من جانب اخر علينا ان لا ننسى بان الكلمات التي صدحت بها هذه الفنانة هي كلمات عراقية اصيلة , وكثيرا ما كانت باللهجة البغدادية الاصيلة ومن نظم شعراء عراقيين مثل عبد الكريم العلاف وكمال نصرت وكرم احمد . كما ان الالحان التي غنت عليها هي الحان عراقية وبغدادية اصيلة معظمها من تأليف الموسيقار المبدع صالح الكويتي . ان هذه العوامل تجعل برمتها من الفنانة زكية جورج مغنية عراقية بأمتياز حتى وان كانت من اصول غير عراقية , وهناك حالات فنية مشابهة عديدة لمثل هذه الحالة . كما ان الفنانة زكية جورج اعتزلت الغناء والعمل الفني عند مغادرتها للعراق عام 1955 وعودتها الى مسقط رأسها في حلب - سوريا , وهذا يؤشر لدينا بانه لا توجد أي اغاني غير عراقية لزكية جورج . مما يؤكد هذه المعلومة هو انها ظلت لفترة تعيش بما ادخرته من اموال , وحين قاربت على النفاذ عملت في احد معامل الغزل والنسيج حتى وفاتها في عام 1966 . يمكن مما جاء اعلاه الاستنتاج بان الفنانة (زكية جورج) هي فنانة عراقية اصيلة بالرغم من كونها سورية الاصل والمولد , وان كل فنها الذي اجادت به في حياتها الفنية هو فن عراقي أصيل بجميع مفرداته .



4-   هل الفنانة زكية جورج مسلمة الديانة ام اعتنقت المسيحية بعد ادعائها بانها مسيحية



   للاجابة على هذا السؤال يتعين علينا ان ننظر للموضوع بدقة من كافة جوانبه . تقول المعلومات بان الفنانة زكية جورج مسلمة وان اسمها الاصلي (فاطمة) وانها جاءت من مدينة حلب السورية . اولا , تعتبر مدينة حلب تاريخيا ثاني مدينة في الشرق الأوسط بعد بيروت من حيث عدد المسيحيين ، إلى جانب انتشار عدد كبير من الأماكن المقدسة المسيحية فيها والمهمة في تاريخ المسيحية. وفي اواخر عهد الدولة العثمانية كان للمسيحيين أدوارًا هامة وأساسية في النهضة العربية إذ كون المسيحيون في العصر الحديث النخبة المثقفة والطبقة البرجوازية مما جعل مساهمتهم في النهضة الاقتصادية ذات أثر كبير على نحو ما جعلهم أصحاب أثر كبير في النهضة الثقافية العربية . تدفع هذه الحقيقة الى الاعتقاد بان زكية جورج وقبل هجرتها الى العراق كانت متأثرة الى حد كبير بالثقافة المسيحية في حلب بصورة خاصة , وفي سوريا بصورة عامة والانفتاح الذي كانت تعيشه هذه الجالية قياسا بحالات الانغلاق الفكري والحضاري التي يعيشها المسلمون هناك . وحين هاجرت زكية جورج الى العراق وامتهانها للرقص كحرفة فلابد بانها فكرت كثيرا بالتناقض الذي يمكن ان تكون عليه اجتماعيا ودينيا اذا قدمت نفسها كمسلة لجمهورها في الوقت الذي كانت تمتهن حرفة هي محرمة بنظر الدين الاسلامي . ان ادعاء زكية جورج بانها مسيحية من سوريا واستبدال اسمها الاصلي فاطمة باسم زكية جورج يدفع الى الاعتقاد بان هذا قد جاء عن اعتناق وليس عن ادعاء فحسب . وما يمكن ان يعزز هذه الحقيقة انها وخلال حياتها الفنية في العراق التي زادت عن ثلاثة عقود لم يظهر عليها اي جانب يمكن ان يشير من قريب او بعيد بانها مسلمة سواء بالاصل او بالسلوك .

   بين الكاتب عبد الكريم العلاف في كتابه (قيان بغداد في العصر العباسي والعثماني الاخير) بان هناك راقصات ومغنيات كثيرات كن مسلمات واسمائهن اسماء مسلمة صريحة . ان هذا يدفع الى التساؤل عن الضرورات التي دفعت بفاطمة لان تعلن بانها مسيحية واسمها زكية جورج طالما لم يكن هناك اي مانع رسمي او ديني , وحتى اجتماعي لكونها من بلد أخر لأن تبقى مسلمة حتى وان كانت تمارس الرقص والغناء . لابد بانها اغتنمت فرصة مجيئها الى العراق لكي (تعتنق) المسيحية التي احبتها في بلدها قبل ان تأتي الى العراق , خصوصا وانها ستخلص من القيود الاجتماعية والدينية التي كان يمكن ان تتعرض لها فيما لو اقدمت على مثل هذه الخطوة وهي في سوريا وليس في العراق .  

5-   هل تعتبر الفنانة زكية جورج فنانة مجدةة ام كلاسيكية


   يجب ان نعرف اولا بان اكتشاف زكية جورج كمغنية يعود للاخوين صالح وداود الكويتي , وبالذات للفنان صالح الكويتي الذي اعجب بصوتها واقنعها بان تمتهن الغناء بدلا من الرقص الذي كانت تمارسه . وبما ان الفنانين صالح وداود الكويتي كانا فنانان مجددان من خلال ادخالهما لألات حديثة على الاغنية العراقية وتوظيف المقامات السائدة في حينها لخلق اغنية عصرية تتميز بالعذوبة والجمالية فلابد ان ندرك بان الفنانة زكية جورج التي اصدعت بالحانهما ستكون مطربة مجددة بطبيعة الحال . لو نظرنا الى الاغنية العراقية الى ما قبل عشرينات القرن الماضي لوجدنا بان افضل ما فيها كان محصورا بالمقام العراقي الكلاسيكي الذي كان سائدا لعشرات السنين , اضافة الى الحان عثمان الموصلي التي تنضوي تحت اطار موسيقى القرن التاسع عشر , اضافة الى الاغنية الريفية التقليدية . لكن بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة نشأت طبقة جديدة من المثقفين والسياسيين والضباط ورجال الاعمال واصحاب المهن وصارت هي التي تسير الامور بالبلد . ونتيجة لهذا التغيير نشأت هوة كبيرة بين اذواق افراد هذه الطبقة المتسمة بالحداثة وبين ما موجود من فنون موسيقية وغنائية سائدة على الساحة التي يتسيدها المقام العراقي كما أشرنا . لهذا وجدنا بان ظهور صالح وداود الكويتي قد جاء في مرحلة التغيير الحاسمة وقد استطاعا ان يملئا الفراغ الذي تكون بأغاني وموسيقى جديدة ذات نكهة مميزة تعبر عن مشاعر شباب تلك الطبقة الجديدة  .

   وكأحد نواتج هذان العملاقان نجد ان المطربة زكية جورج كانت عنوانا من عناوين التجديد في الاغنية البغدادية الاصيلة فاستطاعت بنبرات صوتها وعذوبة الحان الكويتيان ان تنتج مجموعة من احلى اغاني ذلك الزمن الجميل . ومن الصدف ان يكون ما جرى بالعراق يشابه الى حد كبير ما جرى في مصر الكنانة من حركة تجديد فنية وبنفس الوقت تقريبا تمثلت بظهور مجموعة من اجمل الاصوات على رأسها صوت أم كلثوم , ومجموعة من ابدع الملحنين يتقدمهم الموسيقار محمد عبد الوهاب , ولو كانت رعاية الفن بالعراق وأذواق وخلفيات عموم المواطنين الذين يتذوقونه تشابه ما كان موجودا بمصر لما استبعدنا ظهور عبقريات فنية لاتقل شأنا عن ما كان يظهر في مصر . طبعا ما كنا ننتظر في ظل ظروف العراق التي تختلف الى حد كبير عن ظروف مصر من صالح الكويتي بان يكون بمستوى محمد عبد الوهاب , ولا من زكية جورج لان تكون بمستوى أم كلثوم , لكن الحراك الذي اوجدهما ووضعهما على الطريق كان متماثلا ومتشابها الى حد كبير . كان يمكن لصالح الكويتي بوجود دعم مشابه لما لقيه محمد عبد الوهاب من النخبة المتقدمة بالبلد بان يكون بدرجة ليس بعيدة جدا عنه . كما كان يمكن لزكية جورج مع قليل من الرعاية والاحتضان من صانعي النجوم لو وجدوا لان تصبح هي الاخرى بدرجة ليست بعيدة عن ام كلثوم , خصوصا وانهما كانتا تحملان نفس النبرات الصوتية تقريبا في مقتبل عمرهما . لكن هذا لم يحدث , وما كان يمكن لان يحدث مع الفروقات الموجودة بين المجتمعين المصري والعراقي , وخلو العراق من طبقة ارستقراطية ترعى الفن والفنون ومن صانعي النجوم . ان من الملاحظ بان كل فنان عربي يبحث عن النجومية يصوب وجهته في مرحلة مبكرة من حياته نحو مصر الكنانة لعلمهم بان مصنع النجوم الحقيقي يكمن هناك , ولو قدر لزكية جورج ان تدرك هذا وتذهب الى مصر بدلا من العراق لكان لها ربما شأنا اخرا ومستقبل مختلف . نخلص للقول بان الفنانة زكية جورج هي فنانة مجددة ادخلت أساليب جديدة من الغناء على الاغنية البغدادية بشكل خاص والاغنية العراقية بشكل عام . كما انها كانت منبع أشعاعا اقتبسته منها معظم فنانات ذلك العصر مثل سليمة باشا مراد وعفيفة أسكندر وغيرهن .


6-   ما مدى العلاقة بين الفنانة زكية جورج والفنان صالح الكويتي


   بالرغم من ان الفترة بين مجيء زكية جورج الى العراق والتقائها بالفنان صالح الكويتي تبلغ حوالي العشر سنوات , لكن كما يبدوا فان الحب جمعهما من اول لقاء . ليس هناك معلومات دقيقة عن ظروف هذا اللقاء ومكانه وزمانه بالضبط , لكن ترك زكية جورج لمهنة الرقص وبدأها بالغناء من الحان الكويتي يدلل على ان تأثير هذا اللقاء كان كبيرا جدا عليها . ما من شك بان زكية جورج كانت رائعة الجمال , وكانت قد نضجت تماما في تلك الفترة وتكاملت شخصيتها وبرزت معالم أنوثتها لتصبح طاغية يمكن ان تؤثر في أي من الرجال الذين يلتقون بها , وحتما بالرجال الرومانسيين الذين تفيض حياتهم بالعاطفة مثل صالح الكويتي . بالتأكيد بان العلاقة بدأت كعلاقة عمل , لكنها كانت علاقة من نوع خاص حيث رأينا الكويتي يعمل كرادود (او كورس) خلف زكية جورج في معظم اغانيها التي ظهرت في بداية عهدها الفني بالغناء مما يدلل على مدى تأثيرها عليه . ومن الطبيعي ان نسلم بان دوام العلاقة التي بدأت بميل عاطفي ستتعزز وتقوى مع الايام , وهذا ما حدث فعلا . وبعد تطور هذه العلاقة لابد ان نتسائل سؤالا مهما وخطيرا هو : هل تزوج صالح الكويتي من زكية جورج ام لا ؟


   ان كل المعلومات التاريخية تشير الى ان الفنانين صالح الكويتي وزكية جورج ارتبطا بشكل ما واصبحا يعيشان معا في منزل واحد في اواسط عقد الثلاثينات وانهما ظلا على هذا الحال لفترة من الزمن . ومع ان هذا النوع من العلاقة التي يعيش فيها رجل مع امرأة بالرغم من عدم زواجه منها كان شائعا بذلك الزمان , خصوصا مع الفنانات حيث يقال عن فلان بانه (استكعد) فلانة , اي انه صار يعيش معها كزوجة بالرغم من عدم زواجه منها . غير ان يكون صالح الكويتي قد استكعد زكية جورج فهذا امر بعيد عن الاحتمال لسبب بسيط هو ان زكية جورج كانت فنانة طموحة وكانت راغبة بان تصنع لنفسها مستقبل فني بارز اسوة بمثيلاتها اللواتي ظهرن في ذلك الوقت في العراق ومصر , لذا فان من المستبعد بان تكون قد غامرت بسمعتها الشخصية التي كان يمكن ان تحط من مكانتها الفنية لو كانت فعلا امرأة (مستكعدة) من قبل الفنان صالح الكويتي . الاحتمال الثاني القابل للحدوث هو انهما كانا قد تزوجا زواجا سريا لم يعلنانه لاسباب تتعلق بصالح الكويتي اكثر علاقتها بزكية جورج . لقد كانت زكية جورج تعيش بالعراق من غير عائلة تخشى بانها قد لا توافق على زواجها من صالح الكويتي , الا صالح الكويتي كان يعيش مع اسرته التي لها أصول وفروع ممتدة يمينا ويسارا وهناك احتمال كبير بانها ما كانت لتوافق على زواجه من زكية جورج لسبب رئيسي هو انها ليست على دينه سواء ان كانت مسلمة او مسيحية . على هذا الاساس يمكن الخلاص الى ان زكية جورج قد تزوجت زواجا سريا من صالح الكويتي , وان هذا الزواج انتهى بعد فترة لاسباب قد يكون اهمها هو رفض صالح الكويتي اعلان هذا الزواج . ومما يدفع الى الميل الى هذه الحقيقة هو ان زكية جورج قد هجرت صالح الكويتي بسفرها الى البصرة ورفضها العودة اليه بالرغم من توسله اليها من خلال عدد من الوسطاء . لذلك وجدنا صالح الكويتي يتجه الى الزواج من ابنة عمه مباشرة بعد تلك الحادثة بعد ان يأس من عودة زكية جورج اليه  . 


7-    حقيقة العلاقة بين زكية جورج والفريق بكر صدقي العسكري


   ذكر بعض المراقبون والمؤرخون الى ان الضابط العراقي الكبير الفريق بكر صدقي العسكري كان على علاقة بالفنانة الكبيرة زكية جورج وهذا قد جعلها ذات نفوذ كبير . اولا , يمكن القول بان الكثير من ذوي النفوذ والمكانة في المجتمع العراقي بذلك الزمان كانوا في الامسيات من مرتادي الملاهي , وان الكثير منهم كان لهم حياة خاصة في تلك الاوساط بعيدا عن حياتهم الاسرية والمهنية , ومن بين هؤلاء الفريق بكر صدقي العسكري . غير ان كل المعلومات التاريخية المتواردة من ذلك الزمن تشير الى ان علاقة غرامية سرية كانت موجودة بين الفريق العسكري والفنانة عفيفة اسكندر وليس اي فنانة اخرى . ان الخلط بين العلاقتين قد جاء حتما من التباسات تاريخية واخطاء غير مقصودة لان الفترة التي زعم بان لزكية جورج علاقة بالفريق العسكري كانت فيها مغمورة بعلاقة عاطفية (وربما حتى زوجية) مع الفنان صالح الكويتي . ان من المستحيل بان تكون مثل هذه العلاقة المزعومة قد حدثت فعلا والا ما كان صالح الكويتي قد احبها الى تلك الدرجة التي جعلته يؤلف لها اجمل الالحان لتنطلق من حنجرتها في ابدع الاغاني . ان هذا خطأ تاريخي غير صحيح ولابد ان لا يقع فيه اي متوهم او متتبع لحياة هذه الفنانة الكبيرة . 

8-   لماذا عادت الفنانة زكية جورج بالخمسينات الى سوريا

   في عام 1955 شدت زكية جورج الرحال وعادت الى مسقط رأسها في حلب بسوريا بعد حوالي 35 سنة قضتها بالعراق . وهنا يبرز سؤال مهم هو : لماذا عادت زكية جورج الى سوريا في ذلك الوقت مع ان اغلب عمرها الذي مضى كان بالعراق . من الضروري ان نعرف بان وراء هجرة اي انسان من وطن الى وطن اخر عوامل عديدة منها على سبيل المثال عوامل مادية ونفسية ومهنية وغيرها . وفي بداية عقد الخمسينات حصلت متغيرات كثيرة بما يخص زكية جورج وحياتها , اولها انها اصبحت بالخمسينات من عمرها وان جمالها وجاذبيتها قد أفلتا ولم تعد محط للانظار ومركز جذب للمقابل . ليس هذا فقط , بل حتى صوتها كان قد تغير قليلا ولم تعد فيه تلك النبرة الحلبية التي تطرب السامعين وتأسر احاسيس المحبين للغناء والاصوات الجميلة . كما ان تقدم الانسان بالعمر يأجج في داخله الحنين للماضي وللطفولة وايام المراهقة مما يدفعه في كثير من الاحيان الى ان يعود الى نفس البيئة التي نشأ فيها , وان يعيش ايامه الاخيرة في نفس الربوع التي ترعرع بها في صغره . وفي ذلك الوقت بدأت بالظهور اصوات شابة جديدة في ساحة الغناء العراقي مثل مائدة نزهت وهيفاء حسين واحلام وهبي وبدأ صناع الاغنية يتجهون اليها بدلا من البقاء اسرى للاصوات القديمة التي راح وقتها وزمانها . هناك عامل مهم أخر لا يقل اهمية عن كل ما مضى هو هجرة صالح الكويتي واخيه داود الى اسرائيل وانقطاع اي وسيلة للتواصل بينهما وبين زكية جورج . كنا قد اشرنا سابقا الى ان علاقة حب قوية كانت قد ربطت بين زكية جورج وصالح الكويتي في بداية عقد الثلاثينات , وان من المحتمل انهم تزوجا سرا وعاشا معا في بيت واحد لفترة من الزمن . ان بعض الدلائل تشير الى ان حب صالح الكويتي كان هو اول حب حقيقي في حياة زكية جورج , ويعرف الكثير من الناس مدى تأثير الحب الاول على حياة الانسان . وبالرغم من ان العلاقة بين الفنانين زكية وصالح قد انتهت , الا ان الشعور العاطفي في قلبيهما لم ينتهي ابدا وظل يؤثر عليهما طيلة العمر الذي امتد بهما . لذلك فان سفر صالح وبقاء زكية وحدها في بغداد جعل من حياتها بهذه المدينة موحشة وبلا طعم . كل هذه العوامل اجتمعت امام الفنانة زكية جورج مما جعلها تقرر ان تعتزل الفن وتشد الرحال عائدة الى مدينتها الاصلية حلب .



9- هل أدت الفنانة زكية جورج المقام العراقي في حياتها


   بالرغم من كون الفنانة زكية جورج هي أول مطربة غنت في دار الاذاعة العراقية بعد تأسيسها الا انها ظلت محصورة بنطاق الاغنية البغدادية ولم تخطوا نحو عتبة المقام العراقي . ومن الاكيد ان يسأل سائل عن الاسباب وراء هذا العزوف خصوصا وان اداء المقام العراقي كان على أوج نشاطه خلال العمر الفني للفنانة زكية جورج . اولا يجب ان نعرف بان المقام العراقي هو فن رجالي بطبيعته , وقد ظل على هذا الحال لعشرات وحتى مئات السنين . ومع ان بعض المطربات العراقيات حاولن ان يقتحمن هذا المضمارمثل صديقة الملاية وزهور حسين ومنيرة الهوزوز الا ان محاولاتهن ظلت صغيرة ومحدودة , ولم تترك اثرا يذكر على هذا النوع من الفنون . وفي العصر الذي تلا عصر الاربعينات والخمسينات اخذن بعض المطربات الجديدات من المقام العراقي بعض ابوذياته وبستاته لكي تقدم في اغانيهن , كما فعلت المطربة مائدة نزهت ووحيدة خليل . اما بالنسبة للفنانة زكية جورج فنحن نعرف بان مكتشفها هو الفنان صالح الكويتي وانها نتاج وحصيلة لفن وعبقرية هذا الفنان المبدع الذي درس مع اخيه داود المقام العراقي واستفادا منه كفرع من فروع الفن العراقي لكنهما لم يتخصصا به ويبدعا فيه ابدا بل كان الامر محصورا باقتباس بعض الجمل الموسيقية وبعض البستات منه . لذلك فان من الطبيعي ان لا نجد الفنانة زكية جورج تخوض في هذه المضمار لان اغلب اغانيها , خصوصا في الفترة الاولى من حياتها كانت من نتاج الفنان صالح الكويتي . من ناحية اخرى فان اداء المقام العراقي يحتاج الى نبرات صوتية قوية وحادة لم تكن موجودة في حنجرة زكية جورج , لذلك نجدها بعد ان عرفت قدر حنجرتها تبتعد عن اي محاولة لغناء المقام العراقي وظلت محصورة في اداء الاغنية البغدادية .

وسام الشالجي
27 أذار (مارس) 2016