يعتبر اليوم الاول من كل عام دراسي ، خصوصا حين كنا بالمرحلة الابتدائية
من اجمل الايام ، ففيه نلتقي باصحابنا الذين فارقناهم خلال العطلة الصيفية ، وفيه
نشعر باننا كبرنا سنة واصبحنا بمرحلة أعلى أكثر تقدما وأكثر احتراما . يبدأ ذلك
اليوم عادة بتوزيع الطلبة على الشعب الدراسية ثم توزيع الشعب على الصفوف وتحديد
مكان جلوس كل طالب بالصف . من يقوم بهذه المهام هو عادة مرشد الصف , والذي كان هذا
ربما هو الواجب الرئيسي الوحيد الذي يقوم به خلال السنة الدراسية , اذ من النادر
ان نجده يفعل اي شيء بعدها بما يخص صفه المقرر . لا ادري لماذا كنت دائما احرص على
ان اكون بشعبة (ب) ، حيث كنت اراها اجمل الشعب فهي تختلف عن (أ) التي قبلها والتي
تضم عادة الطلبة المدللين والشطار جدا والذين يوصفون بالمعقدين ، ولا هي مثل (ج)
التي بعدها حيث تمتليء بالطلبة الكسالى والراسبون وذوي الاعمار الاعلى ممن هم في
مرحلتهم . كان مثل هذا التقسيم يتكرر في اغلب المدارس وكأنه (عرف) يجري اتباعه بين
جميع المدارس . وفي الصف كنت احرص على الجلوس في الصف الوسطي واختار ايضا رحلة تقع
في وسطه تقريبا ، حيث لا اكون بالامام في المكان الذي أول ما تقع عليه انظار
المعلم او المدرس حين يسأل اي سؤال ، وفي نفس الوقت ليس بالأخر حيث يجلس الطلبة
الطوال القامة والاقل ذكاءا والكثيري الحركة قياسا بغيرهم . كان هذا التوجه
دليل على وسطيتي التي رافقتني طوال حياتي والتي دفعتني لان احرص دائما على اتباع
مبدأ ( خير الامور أوسطها) . لا انكر بان هذا السلوك جعلني بصراحة من غير
المتفوقين كثيرا ، لكنه لم يحرمني من التميز الذي اتصفت به في كل مراحل حياتي .
كانت رحلات الجلوس في المدارس الابتدائية التي داومت بها خشبية كبيرة تتسع لطالبين
، وكثيرا ما كانت مشعفرة تمزق الملابس . وكانت جامات شبابيك الصف مكسرة لا
تحرص المدرسة على تصليحها لان الطلاب على الاغلب يعاودون كسرها مما يجعلنا نموت من
البرد بالشتاء .
ومن اهم الفعاليات التي تحصل باليوم الاول هو توزيع الكتب والقرطاسية
على الطلبة ، حيث كنا نؤخذ عادة الى قاعة المدرسة حيث نجد الكتب والقرطاسية وقد
وضعت بمجموعات مصفوفة حسب المرحلة . كنا نستلم رزمة الكتب المقررة للمرحلة الني
نحن فيها والتي تكون على الاغلب جديدة تفوح منها رائحة الورق الجديد ، وكم كنا
نحرن اذا كان بعض نصيبنا هو من الكتب المستعملة . ومن الشائع ان يقوم الطلبة
الميسورين بتجليد كتبهم بجلاد سميك لدى احد محلات التجليد ، اما الطلبة العاديين
وكنت منهم فكنا نستعمل اغلفة تجليد عادية والتي كانت بوقتنا بالستينات طبقات كبيرة
من الورق الاسمر
. وحتى اشرطة اللصق التي كنا نستعملها بالتجليد كانت في حينها اشرطة
سمراء عليها لاصق جاف لايعمل الا بعد ترطيبه بألستنا . كما كنا نستلم ايضا رزمة
دفاتر بعضها ابو المئة ورقة وبعضها ابو الستين وقليل منها ابو التلاثين . كانت اغلفة
الدفاتر غير سميكة على وجهها صورة ومكان لكتابة الاسم والصف والمدرسة وعلى ظهرها
جدول الضرب ، وكنا نجلدها ايضا بالورق الاسمر . ومن الاشياء
التي كنا نستلمها ايضا شدة اقلام رصاص تحتوي ١٢ قلم ، مقطاطة عادة ما تكون من
النوع الرخيص تكسر اقلام الرصاص حين تستعمل للقط . مساحة بيضاء يسميها البعض محاية
، دفتر رسم ، مسطرة خشبية ، واخيرا علبة هندسة بالنسبة للمراحل المتقدمة . وحين نكمل عملية الاستلام نعود الى الصفوف حيث
نقوم فيما بيننا باستعراض ما استلمناه ونتحدث عن ما سنفعله من اجل المحافظة على
المواد الجديدة المستلمة . ويتم اكمال اليوم الاول من الدوام عادة بتقديم التوجيهات
والتعليمات التي تريد المدرسة من طلابها ان يعتمدوها .
بالرغم من حلاوة اليوم الاول للدوام الا انه لم يكن جميلا دائما بالنسبة لي لانه كان في اغلب الاحيان يأتي وانا بمدرسة جديدة . قضيت دراستي الابتدائية باربع مدارس لكثرة ما كنا نتنقل بالسكن من
مكان لاخر ، لذلك لم احظى باصدقاء دائميون من تلك المرحلة ابدا ، بل اكاد لا اتذكر
اي واحد من تلك المرحلة سوى بعض الوجوه التي صارت كالاشباح بمخيلتي . وبسبب كثرة
التنقل وعدم وجود اصدقاء نما في داخلي شعور من الضيق من المدرسة , ولم اكن اتردد من عمل اي شيء للتهرب منها . ومن
شيطناتي في هذا المضمار والتي اريد توثيقها هنا هي اني داومت بالصف الخامس ابتدائي
بمدرسة جديدة بمنطقة الطويسة بالبصرة اسمها مدرسة عتبة بن غزوان . جرى اليوم الاول من
دوامي بتلك المدرسة بالضبط كما وصفته اعلاه , لكني حين عدت الى البيت أخبرت اهلي
بانه يوجد حملة تعمير لبناية المدرسة وانهم طلبوا منا عدم المجيء الا بعد اسبوع .
صدق اهلي هذه الكذبة واصبحت ابقى بالبيت كل يوم بينما يذهب اخوتي الى المدرسة .
وبعد اسبوع داومت من جديد فأرسل علي المدير ليسألني عن سبب غيابي فكذبت عليه كذبة
جديدة حيث ادعيت بان عمي قد توفي ببغداد مما اضطرنا للسفر الى هناك . صدقني المدير
واخذ من خاطري وطلب مني الانتظام بالدوام وعدم الغياب بعدها فوعدته بذلك . حين
اتذكر مثل هذه الافعال الان اتعجب من جرأتي في الاقدام عليها ، واتعجب ايضا من
البساطة والبراءة وحسن النية التي تجعل مثل هذه الشيطنات تمر بسهولة .
كان العام الدراسي يبدأ بالستينات في اواسط ايلول , كما كان الشتاء
يبدأ سريعا بذلك الوقت واتذكر جيدا بأن الدنيا كانت تبرد بمجرد بدأ شهر تشرين
الاول (اكتوبر) . وكنا نذهب الى المدرسة ونعود منها بانفسنا وهذا رسخ فينا شعور
الاعتماد على النفس بشكل مبكر . كما كان المطر كثيرا ويأتي مبكرا لذلك كان من بين
الاشياء التي يحرص الاهل على شرائها لنا قبل الدوام هي الجزم المطاطية لان الشوارع
التي نسلكها كانت تمتليء بالطين بعد المطر . ولمقاومة البرد وزيادة المناعة ضد
الامراض كان يوزع علينا يوميا في الدوام كبسول (دهن السمك) حيث يطلب منا فتح
افواهنا يقوم بعدها المعلم بوضع كبسولة في فم كل واحد منا ويأمرنا ببلعها . وكم
كان بعض الطلبة يغشون وعدم بلعها لاني كنت اراها بعد ذلك مرمية بالارض ومفقوعة بعد
ان داستها الاقدام . كما كان في وقتنا يوجد تغذية مدرسية تتكون من حليب يحضر بخلط الباودر
مع الماء في قدور كبيرة والذي يدار لنا باقداح معدنية كنا نجلبها من البيت , ثم
يعطى لنا معه صمونة وبيضة مسلوقة . ومع ذلك كنا نفضل عليه الشراء من العربانات
المتوقفة في باب المدرسة والتي تبيع الدوندرمة واللبلبي او الشلغم والداطلي
والحلويات المحضرة بالبيوت وغيرها من المأكولات الغير صحية .
حقا كانت ايام جميلة تبعث بالنفس النشوة حين يتم استذكارها الان بعد
كل هذا العمر الذي مضى .
وسام الشالجي
10 اذار (مارس) 2016