وضعت العنوان اعلاه لخاطرتي هذه لاني وجدته
انسب عنوان يتفق مع الموضوع الذي سأرويه والذي يتمحور حول اختياري لتخصصي المهني وقصة
تحول خدمتى الالزامية بالجيش من جندي مكلف الى ضابط احتياط وما تبع ذلك من احداث غريبة في وقائعها . كنت في الماضي
اؤمن بان مستقبل الانسان ووقائع حياته تتحدد بناء على القرارات والخيارات التي
يتخذها , وان الاقدار الخارجة عن الارادة لا تحصل الا نادرا نتيجة لتوافق ظروف
معينة في لحظة ما . لم يكن عندي شك في هذا ابدا ,
لكني بمرور الوقت وجدت بان هذا الامر غير صحيح دائما وان الكثير من
الخيارات تتحول الى قدريات تصنع مستقبل الانسان وما ينتظره في هذه الحياة . وحتى
الخيارات , فان المرء يجد نفسه في بعض الاحيان يتخذ قرارات مخالفة لما في نفسه
وكأن هناك قوة توجهه نحو خيار ما . ولكي اجعل الامر كثر وضوحا ساورد هنا قصة اختياري
لتخصصي المهني وكذلك قبولي بكلية الاحتياط الذي تبع ذلك والتي تجسد تماما هذه
الحقيقة لانها مجموعة من القدريات والخيارات التي اختلطت ببعضها وكانت نتائجها مصيرية
فيما بعد .
حين كنت بالدراسة الثانوية كان اكثر درس
يستهويني هو الفيزياء , وكم كنت اتمنى ان اصبح عالما متمكنا بهذا الأختصاص . وعند
تخرجي من الثانوية كانت اعلى درجة عندي هي في الفيزياء واقل درجة هي بالكيمياء . ومع
ان مجموعي كان يسمح لي بالتقدم الى كليات الطب والهندسة في محافظات اخرى لكني
اخترت بان ابقى في بغداد فكان نصيبي هو القبول بكلية العلوم بجامعة بغداد . لم
استاء من قبولي بهذه الكلية لاني فكرت بانه سيوفر لي فرصة التخصص بعلم الفيزياء
الذي احببته لسنوات قبلها . كان التخصص يبدأ في السنة الثانية , وكان تسلسل
الاقسام يبدأ أعلاها بقسم الكيمياء ثم تليه الاقسام الاخرى . كان مجموعي عاليا في
الصف الاول ويسمح لي بالتقدم الى اي قسم اريده , لكني وجدت اغلب الطلبة يفضلون قسم
الكيمياء لان مستقبله المهني افضل من بقية الاقسام فما كان مني غير ان اتقدم اليه
مخالفا لسبب لا اعرفه رغبتي , وبالفعل انتظمت بهذا القسم . وبعد تخرجي من الكلية
جرى تسويقي انا وبقية زملائي الكيمياويين من دورتي للخدمة العسكرية الالزامية بصفة
جنود مكلفين في مدرسة الصنف الكيمياوي . وبعد حوالي شهر من التحاقنا عرض علينا
اختيار اكمال الخدمة كجنود او الالتحاق بكلية الاحتياط لنصبح ضباطا بالجيش . كان
هذا الامر متداولا بيننا قبلها بفترة وكنت قد قررت في حينها وعن قناعة تامة بان
اصبح ضابط بدل البقاء كجندي , لذلك سارعت للتسجيل في قوائم الراغبين بينما لم
يختار مثل هذا الأمر الكثير من زملائي ظنا منهم بان الخدمة بالجيش كضابط ربما ستتحول
الى تطويع قسري وهو مالم يكن يرغبوه . ومن بين من لم يختارا ذلك صديقان مقربان مني
هما (خليل حامد وفريد ألياس) , وانا اذكرهما هنا بالذات لانهما جزء اساسي من هذه
القصة كما سيظهر لاحقا . ظللت انتظر ارسالنا لاكمال متطلبات القبول بكلية الاحتياط
من فحص طبي ولياقة بدنية ومقابلة , لكن بعد عدة ايام جمعنا مرة ثانية وابلغنا
بقرار جديد تقرر بموجبه الغاء التخيير واخضاع جميع الجنود من دورتي للتقديم يتم
بعدها اختيار عدد محدد منهم , مع استثناء من كان لديه تخلف في احدى سنوات الدراسة بالكلية
من التقديم (اي من لم يوقعوا دفاتر خدمتهم في احدى سنوات الدراسة) . كنت انا من
بين المتخلفين لذلك حذف أسمي من قوائم المتقدمين بينما ادرج صديقاي خليل وفريد
فيها بالرغم من كونهما غير راغبان بهذا ابدا . ذهب الصديقان للفحص وهما ممتعضان
جدا , خصوصا فريد الذي كان مصرا بان لا يصبح ضابط لاسباب خاصة به , وقد فعل كل ما
بوسعه لالغاء ترشيحه لكن دون جدوى . وحين كنت أراهما في المعسكر يذهبان للفحص كل
صباح وهما ممتعضان أضحك على سخرية القدر الذي الغى ترشيحي وانا راغب بذلك , بينما
فرض عليهما الترشيح وهما غير راغبان به ابدا . اكمل الاثنان الفحص الطبي والمقابلة
واخذا ينتظران نتيجة القبول . وقد صادف في تلك الاثناء ان فتحت دورة هندسية خاصة
في كلية الهندسة لخريجي كلية العلوم فقرر الاثنان ان يلتحقا بها لكي يتسرحا من
الجيش ويخلصا من ورطة التقديم الى كلية الاحتياط التي وقعا بها . وبالفعل تسرح
الصديقان خليل وفريد والتحقا بالدورة وبقيت انا بالمعسكر اكمل تدريبي الاساسي
كجندي مكلف . وبعد فترة صدر قرار جديد تقرر فيه شمول حتى المتخلفين الذين جرى
استثنائهم بالتقديم واخضاعهم هم ايضا للفحص والمقابلة ففرحت بذلك جدا لان الفرصة
تجددت امامي فاسرعت لاتمام متطلبات التقديم خصوصا وان الالتحاق بكلية الاحتياط لم
يتبقى عليه وقت طويل . اكملت كل المستلزمات المطلوبة بسرعة , وبعد مدة قصيرة ظهرت
نتائج القبول وكم كانت سعادتي كبيرة حين وجدت اسمي بين المقبولين . ومما اثار
دهشتي اني وجدت ايضا اسم صديقي خليل بين المقبولين بالرغم من انه كان متسرحا بوقتها
من الجيش . التحقت بكلية الاحتياط وانا فرح للغاية , ومما زاد بسعادتي هو اني وجدت
الاجواء مختلفة كليا ومعاملة التلاميد افضل بكثير من المعاملة التي لقيناها حين
كنا جنود مكلفين . وفي اول مرة نزلت فيها ابلغت صديقي خليل بقبوله ايضا ونصحته
بالانسحاب من الدورة الهندسية والالتحاق بكلية الاحتياط واعطيته فكرة عن الكلية والاحترام
والتقدير الذي وجدته فيها . ومع ان خليل لم يكن راغبا بذك سابقا الا انه غير رأيه
وسمع نصيحتي وانسحب من الدورة الهندسية وألتحق بكلية الاحتياط مثلي . وبعد ظهور
نتائج القبول بكلية الأحتياط شعر صديقي الاخر فريد بان خطر اخذه كضابط قد زال فترك
الدورة الهندسية هو ايضا والتحق من جديد بالخدمة العسكرية لاكمالها كجندي مكلف . بقينا
بكلية الاحتياط حوالي ستة اشهر ثم تخرجنا ونسبنا الى الصنف الكيمياوي بناء على
تخصصنا الدراسي . اما الفيزياويين فقد اعتبروا ضباط مشاة
ومن بينهم صديق لي اسمه (ازهر طالب) , وانا ايضا اذكره هنا بشكل مقصود لان مصيري
كان سيكون مثله لو اصبحت فيزياوي بذلك الوقت .
انتهت فترة الخدمة الالزامية وتسرح زملائنا
الجنود من الجيش بينما بقينا نحن الضباط بالخدمة لمدة أطول بعدهم , وكان بعضهم
يضحكون علينا ومن بينهم صديقي فريد لانهم رأوا الاحوال تثبت صواب اختيارهم وخطأ
خيارنا . ومع ذلك فقد تسرحنا نحن ايضا في نهاية المطاف والتحقنا جميعا بوظائف مدنية
.
لم تمضي سوى سنوات قليلة حتى اندلعت الحرب
العراقية الايرانية ودعي جميع زملائنا الجنود للخدمة بالجيش كجنود احتياط , كما
استدعي جميع ضباط دورتنا ايضا من جميع الصنوف باستثناء الضباط من الصنف الكيمياوي ,
لذلك لم نستدعى لا انا ولا صديقي خليل للخدمة لكوننا ضباط كيمياويين . استمرت تلك
الحرب ثمان سنوات سقط فيها الكثير من زملائنا الجنود كشهداء , ومن بينهم صديقنا
المرحوم الجندي الكيمياوي فريد الياس وصديقنا الضابط الفيزياوي أزهر طالب , بينما نجونا
انا وخليل من تلك الحرب ولم نلتحق
خلالها ولا حتى ليوم واحد .
يمكن ان
يرى بوضوح من هذه القصة كيف يتخذ الانسان في بعض الاحيان قرارات واختيارات تخالف
ما في نفسه , وكيف تتحول هذه الخيارات الى قدريات تحدد مصيره فيما بعد , وسأترك
للقاريء تأملها جيدا وملاحظة كيف يفعل القدر فعله , وبالمناسبة فان الكثير من
وقائع حياتي حصلت بشكل مشابه . من الاكيد بان الله سبحانه وتعالى هو وراء كل قرار
يتخذ وكل قدر يكتب لانه وحده الذي يقدر الامور ويسيرها بمشيئه وحكمته . وهذه صورة
لصديقي العزيزين خليل حامد والمرحوم فريد الياس , وصورة لأستعراض كردوس عسكري
يشابه العرض الذي قمنا به عند تخرجنا من كلية الاحتياط .
وسام الشالجي
17 شباط (فبراير) 2016