اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 7 فبراير 2016

خواطر بالاسود والابيض - خدمتي الالزامية كجندي بالجيش

خاطرتي هذه عن ذكرى صعبة مرت في حياتي وربما هي كذلك على الكثيرين , تلك هي عن فترة التحاقي بالخدمة العسكرية الالزامية وخدمتي فيها كجندي مكلف . فبعد تخرجنا من الكلية جرى تسويقي انا وبقية زملائي من دورتي بالكلية للخدمة العسكرية بصفة جنود مكلفين الى معسكر التاجي . كان هذا الانتقال المفاجيء من حياة البيت والكلية المرفهة الى حياة الخدمة العسكرية من اكبر الصدمات التي حصلت لي بحياتي لاني لم اتصور في يوم من الايام ان حياة الجندية قاسية ومذلة الى هذه الدرجة . كان الجيش العراقي في وقتها حديث العهد بخدمة الطلبة الخريجين فيه وقد كان فيه نوعين من الضباط . ضباط يدركون معنى الجندي المكلف الخريج ويتفهمون الحالة التي هو فيها فكانوا يتعاملون معه بشكل انساني وحضاري , وضباط حاقدون بسبب كونهم لم يمروا بتجربة الاختلاط في الكليات فكانوا يسلطون امراضهم النفسية واحقادهم على من يقع تحت ايديهم من الجنود الخريجين , وخلال خدمتنا الالزامية صادفنا كلا النوعين من الضباط . التحقت بدائرة التجنيد يوم الرابع من أب ومن هناك أخذنا الى معسكر التاجي حيث عرفنا لاول مرة التجمع بشكل ثلاثات , ثم اخذنا الى القاعات التي سنقيم فيها ونودي على احد ضباط الصف ليعطينا اول درس عن الحياة بالجيش . كان ضباط الصف المعلمين ايضا حديثي العهد بالتعامل مع الجنود الخريجين , لذلك كانوا يتعاملون معنا بنفس الطريقة التي كانوا يتعاملون بها مع الجنود العاديين . لذلك فقد كان الدرس الاول الذي اعطي لنا مضحكا لانه كان في تعليمنا كيفية ارتداء الملابس العسكرية وكيفية ربط قيطان البسطال ولبس البيرية وترتيب اليطغ (فراش النوم) ووضعه صباحا تحت اشعة الشمس لكي يتطهر وتنظيف القاعات , وكذلك كيفية تناول الطعام بواسطة القصعة وغيرها من الامور . وقد تقرر حجزنا بالمعسكر طيلة فترة التدريب الاساسي البالغة ستة أسابيع لا يسمح فيها لنا بالنزول الا يوم الخميس . كان التدريب يبدأ بالسادسة صباحا بعد العرض الصباحي ويستمر لثلاث ساعات تحت اشعة الشمس اللاهبة يعقبه فترة فطور لمدة ساعة يليها تدريب أخر لساعتين , اما بعد الظهر فهناك فترة شغل تستمر لساعتين ايضا . كان معظم التدريب الاساسي في بدايته حول كيفية الاستعداد والاستراحة والمسير والدوران واداء التحية العسكرية , وبعد اتقان هذه الامور جرى التدريب على استعمال السلاح . وخلال فترة الشغل كانت تبتدع انواع الاشغال لكي نعملها حتى ولو كانت من باب الالهاء , فكنا مثلا ننقل الحصو من مكان لاخر وفي اليوم التالي يطلب منا ان نعيده الى مكانه الاصلي , او كنا ننقل التراب ونحفر السواقي وغيرها من الاعمال . اما الطعام فقد كان من اسوأ ما يمكن ان يمر به المرأ , فلاول مرة كان علينا ان نتعلم كيف نأكل مجتمعين بالقصعة وهي طريقة مأخوذة من الجيش العثماني . كانت القصعة وعاء كبير من الفافون الصلب ذات يدتان يوضع فيها الطعام , وهي عادة تخصص لاربع او خمس جنود . ومن المضحك ان القصعة نفسها تستعمل ايضا لغسل الملابس ولحمل التراب والحصو اثناء فترات الشغل . قبل التدريب الصباحي كان يعطى لنا شوربة عدس للترويق , اما الفطور فكان يتكون من صمون عسكري اسمر اشبه بالحجارة مع قطع من الكباب المقلي وكتلي كبيربالشاي الذي يعمل بقدور كبيرة . وعند الغداء يعطى لنا التمن والمرق اللذان يصبان معا بالقصعة بواسطة (مساحي) شبيهة بتلك التي تستعمل للحفر , يوضع فوقها عدد من قطع اللحم بنفس عدد الجنود الذين سيأكلون . كان الاكل لا يطاق لان من كانوا يطبخونه هم من الجنود انفسهم الذين يدعون معرفتهم بالطهي للتخلص من التدريب . بقيت لاسابيع لا أكل من هذا الطعام واعتمد فقط على ما يباع بحانوت المعسكر لذلك فقدت الكثير من وزني الذي هو من الاساس كان دون المستوى المطلوب . ومن المفارقات التعيسة ايضا هو اننا كنا ننام بالهواء الطلق خارج القاعات بسبب حرارة الجو القاتلة حيث كنا نصبح ولائم شهية للبعوض والحشرات الموجودة بالمعسكر والتي كانت تستكثر علينا ساعات قليلة من النوم والراحة فتبقينا تحت رحمة أبرها وخراطيمها مما يجعلنا نتقلب طيلة الليل بلا نوم . كانت مدة الدرس اثناء التدريب 50 دقيقة تليها استراحة لعشر دقائق نبحث فيها عن اي شيء نستظل به من اشعة الشمس الحارقة . وحين كنا نعود من فترات التدريب كنا نهرع جميعا بسباق الى حبوب الماء التي عادة ما تملأ من الصباح الباكر من قبل خفراء القاعة وتترك لتبرد حتى ساعة عودتنا . كان يوضع فوق كل حب طاستان للشرب , وبسبب الحر اللاهب والعطش الشديد كنا نتهافت على تلك الحبوب عند رجوعنا كالمجانين , والكثير منا من ياخذ الماء بالطاسة ويصبها على رأسه للخلاص من الحر الذي ذقناه لثلاث ساعات .

اول من عوقب بالسجن فينا بتلك الفترة هو صديقي (خليل حامد) ولا اتذكر لماذا عوقب بهذه العقوبة , وقد قام الصديق الصدوق - الاخ العزيز منذر الكبيسي بكل ما في وسعه لجعله لا يبيت بالسجن عند تنفيذ العقوبة بل يبقى معنا , خصوصا واننا كنا جميعا نبيت بالمعسكر لكنه لم يفلح بهذا . وبعد فترة عوقبت انا بساعة تعليم اضافي لاني تجادلت مع رئيس عرفاء السرية المسؤول عنا (اوقد كان اسمه كاصد) . نفذ بنا هذه العقوبة احد الضباط الحاقدين والذي جعلنا بحق نرى نجوم الليل في الظهيرة . فعدا الزحف والركض كان هذا الضابط يجعلنا نمشي على ركبنا فوق الحصو وايدينا خلف رؤوسنا وكأننا اسرى حرب , وكان الالم الذي نلقاه لا يوصف . كما كان يأمر كل اثنين منا بحمل قطع كبيرة من اغصان النخل متروكة على الارضا فوق اكتافنا , واذكر اني اثناء حملها فقدت توازني واسقطتها من كتفي على الارض فما كان منه غير ان يضربني بعصاه على ظهري وهو يصرخ كالمجنون (هيا احملها يا ......) . حين انتهت الساعة وعدت الى القاعة اخذت احزم اغراضي وانا ناوي لان أفر من الجيش مهما كان الثمن , وهنا تدخل صديقي منذر واقنعني بالعدول عن هذه الفكرة مع انه كان معي بنفس العقوبة ورأى مدى القسوة التي عوملنا بها .

استمرت خدمتي كجندي حوالي ثلاثة اشهر أنتقلت بعدها الى كلية الاحتياط , وساروي قصة القبول بهذه الكلية في خاطرة أخرى ان شاء الله . بقيت بكلية الاحتياط حوالي ستة اشهر وقد كانت الحياة هناك لا تقارن بالحياة التي قضيتها كجندي مكلف فالعناية بالتلاميذ كانت ممتازة والطعام رائعا , كما كان الوقت شتاءا لذلك لم أعاني فيها كما عانيت بالجندية . وبعد انتهاء الدراسة تخرجت كضابط ونسبت الى مدينة كركوك حيث قضيت بقية خدمتي العسكرية هناك . كانت حياتي العسكرية كضابط مختلفة كليا ورائعة جدا وقد تعلمت فيها الكثير من الدروس , اهمها كيف اتعامل مع الجنود وأن لا اكون شديدا الا مع السيئين . ومما كنت ألام عليه من قبل رؤسائي في بعض الاحيان هو اني كنت عطوفا على الجنود , خصوصا الخريجين منهم واني أعاملهم بطريقة مختلفة عن الجنود العاديين , والسبب في هذا طبعا كان هو تجربتي الصعبة اثناء الجندية . أكملت الخدمة الالزامية كضابط ناجح جدا , وحين حان موعد تسريحي حزن الجميع على فراقي ضباطا وجنودا , وكم كانوا يتمنون لو تطوعت وبقيت بالخدمة كضابط الا اني لم اختار هذا المسلك . هذه بعض ذكرياتي عن الخدمة الالزامية بالجيش احببت ان أوثقها وارويها لكم .

لا يوجد عندي صور عن فترة الجندية لكني اضع هنا بعض الصور التي تمثل الخدمة بالجيش العراقي القديم , مع تحياتي .







وسام الشالجي

7 شباط (فبراير) 2016