اخر المواضيع في المدونة

الخميس، 28 يناير 2016

خواطر بالاسود والابيض - اول مواجهة لي مع اصحاب الشر


في حياة كل انسان حادث مهم وكبير يضعه لاول مرة بمواجهة مباشرة مع قوى الشر . ومن الطبيعي ان يختلف حدث هذه المواجهة من انسان لاخر حسب العمر والظرف وطبيعة حامل الشر الذي تحصل معه المواجهة , وكذلك مستوى ومدى الشر الذي يضمره . وبالنسبة لي حصلت هذه المواجهة وانا في الصف الخامس ابتدائي , اي بحدود الحادية عشر من العمر . وقد كانت المواجهة صعبة وقاسية , لكن الاقسى منها هو اني لم استطع ان استنجد باحد يحميني بسبب البعد الذي كان يسود حياتي بيني وبين اي كبير بالبيت . لن اجعل من خاطرتي هذه مناسبة للشكوى او فرصة لألقاء اللوم على احد , لكن الحادثة التي سارويها لها مساس مباشر بهذا الجانب .

كنت بذلك العمر اعيش مع اهلي بالبصرة بمجمع لدور موظفي شركة النفط يقع مباشرة على شارع دينار . وكان يقع خلف حينا مجمع كبير من الصرائف والاكواخ يقطنه الفقراء النازحين الى مركز المحافظة من المناطق الريفية . وفي كل يوم كنت اعود للبيت من المدرسة بالظهيرة اخرج للعب بالزقاق الذي يقع فيه دارنا وحدي او مع صديقي (فائز) الذي يسكن الدار المجاورة لنا . وكنت كثيرا ما اتجول بين دور الحي , وفي بعض المرات كنت اصل الى اواخره فأرى مجمع الصرائف الذي يقع خلفنا لكني لم اكن ادخله ابدا . وفي يوم من الايام وانا اسير هناك رأيت كلب صغير (جرو) يركض اعجبني فركضت خلفه لكن صبي من سني خرج من المجمع وركض اليه قبلي وحمله . رأى الصبي اهتمامي فسألني هل احببته فاجبته بنعم فسمح لي بان احمله بين ذراعاي وان اربت على رأسه وظهره . وبعد برهة اخذه مني وقال لي يجب ان أخذه الى امه لكي ترضعه وتستطيع غدا ان تأتي لكي تراه مرة اخرى . استمتعت كثيرا بهذا الحدث واخذت انتظر بصبر كبير مجيء اليوم التالي لكي ارى ذك الكلب الصغير الجميل . وبالفعل ذهبت باليوم التالي الى مشارف مجمع الصرائف فرأيت الفتى يأتي من بعيد حاملا ذلك الكلب وحين وصل اخذته من يديه ورحت اداعبه قليلا . قال لي هل تريد هذا الكلب قلت له نعم واني اتمنى ذلك جدا . فقال لي لكنه يرضع الان ولا يمكن اخذه من امه لكن بعد فترة سيكبر ولن يحتاج امه وعندها سيعطيه لي . فرحت بهذا العرض جدا ثم طلب مني ان اذهب معه لارى امه , وبالفعل اخذني الى داخل المجمع ودخلت لاول مرة احدى الصرائف فرأيت داخله كلبة كبيرة ومعها عدة صغار فقال لي انظر هذه هي امه وانزل الجرو فركض نحوها . بعد ذلك قال لي (كما ترى فان امه ترضع عدد كبير من الصغار وهي تحتاج الى غذاء كثير ووقت طويل حتى يكبروا وتفطمهم . لكنك تستطيع ان تسرع العملية بان تحضر لها بعض الطعام والحليب عندها ستشبع وترضعهم اكثر وتفطمهم بوقت اسرع) . قبلت بالحال ما طلبه وقلت له باني مستعد لهذا وساجلب لها غدا بعض الطعام والحليب .

كان والدي يشترى المواد التموينية بكميات كبيرة نضعها في مخزن المطبخ ومن بينها علب الحليب وقطع كبيرة من اللحم نضعها بالثلاجة . في اليوم التالي اخذت خلسة من البيت علبة حليب وقطعة لحم كبيرة وهرعت الى مجمع الصرائف حيث كان الفتى ينتظرني ففرح حين رأني واخذ المواد واسرع الى كوخه . في اليوم التالي ذهبت اليه مرة اخرى لارى ماذا حصل فقال لي بان الكلبة تناولت كل اللحم والحليب وانها ستحتاج الى هذا يوميا لكي تسرع بفطام صغارها . كررت العملية مرة ثانية وثالثة ورابعة ولمرات عديدة اخرى حتى صار النقص بهذه المواد ملحوظا بالبيت . وفي احد الايام ذهبت الى ذلك المكان قبل الموعد فلم اجد الصبي فقررت ان اذهب بنفسي الى الكوخ لارى الكلبة وصغارها وانظر كيف صار الوضع . دخلت الكوخ فوجدت امرأة هي أم الصبي كما يبدوا تشرب الحليب وفي الجانب الاخر بنتها تقطع اللحم استعدادا لطهيه بينما الكلبة وصغارها يتجولون بباحة الكوخ من غير ان تبدوا عليهم اي علامة مختلفة . جائني الفتى وقال لي: هه هل جلبت الطعام والحليب فقلت له لا لكني اردت ان ارى الكلبة وصغارها لاعرف متى ستعطيني الجرو فقال لي هذا سيحتاج لوقت طويل , اجلب المزيد من اللحم والحليب وستمضي الأمور بسرعة ان شاء الله . في تلك الساعة ادركت بان هذا الصبي كذاب وانه واهله ياخذون اللحم والحليب لكي يتغذوا به وليس للكلبة فقررت ان لا اجلب له شيئا بعد اليوم . انقطعت عن الذهاب لعدة ايام , وفي احد الايام عدت من المدرسة فوجدته ينتظرني بالزقاق الذي انا فيه . قال لي لماذا لم تعد تجلب اللحم والحليب فقلت له باني عرفت بانه كذاب وانهم هم الذين يأكلون اللحم ويشربون الحليب لذلك لن اجلب له شيئا بعد الان . تركني وذهب , لكن باليوم التالي وجدته ينتظرني بنفس المكان وجاء الي ومعه سكين وقال لي هل ترى هذه السكين سامزقك بها اربا ان لم تجلب غدا اللحم والحليب . مت من خوفي وشعرت بانه جاد بتهديده وانه يمكن ان يقتلني لم انم في تلك الليلة  وبقيت اتقلب لا اعرف ماذا سافعل . لم يكن امامي غير ان اخضع للتهديد لاني كنت اخاف ان اخبر احدا بالبيت فيأتيني عقابا كبيرا . وفي اليوم التالي ذهبت الى مخزن المطبخ واخذت منه علبة حليب ثم الى الثلاجة واخذت قطعة لحم وانطلقت الى المكان المقرر حيث كان الصبي ينتظرني , وما ان اخذت اعطيه المواد حتى اطبق علينا اخي الكبير وجرنا معا كل من رقبته الى دارنا وادخلنا الى الداخل . كان كل من في البيت ينتظرنا لكي يحققوا بالامر لانهم كما يبدوا فطنوا للسرقات وقرروا ان ينصبوا لي كمينا لمعرفة ما يجري . سألني اخي فرويت له القصة بالكامل , ثم استدار نحو الصبي وجره من شعره وأوقفه واخذ يسأله فأخذ يبكي وقال له بان ابيه هو الذي كان يطلب منه عمل ذلك . اخذنا اخي انا والصبي الى ذلك الكوخ وهناك رأى ابيه جالسا في وسط الكوخ فقال له: انظر انا استطيع الان ان اذهب الى مركز الشرطة واسجل دعوة قضائية ضدك وضد ابنك الكلب هذا وارميكما بالسجن مما قد يدمر حياتكما , لكني مستعد للتغاضي عن الامر اذا وعدتني بان لا يحدث هذا الأمر مرة اخرى وان يكف ابنك القذر عن التعرض لأخي وتهديده . اخذ الرجل يعتذر ويتوسل ويعد اخي بان لايحصل اي شيء من هذا مستقبلا مقابل ان يعفي عنه وعن الصبي . عدنا الى البيت وانا في غاية الفرح لاني خرجت من هذا الوضع الصعب , لكن الامر لم يمر طبعا دون بسطة (علقة) جديدة تتناسب مع الذنب الذي اقترفته مما زاد بالقطيعة والبعد بيني وبين الكبار في البيت . كانت هذه الحادثة درسا كبيرا لي بحياتي تعلمت منه الكثير وعرفت بان الشر واحدة من صفات البشر , وان له منابع وحواضن من الضروري ان يعرفها المرء ويتحاشاها لكي لا يقع بمواجهته . وقد عرفت الى حد ما بوقتها أن الثقة هي شيء غالي لايمكن منحه لكائن من كان دون تروي وتمحيص .

وهذه بعض الصور لسكان الصرائف وهي تشبه كثيرا ما تحدثت عنه اعلاه , مع صورتين لاخي الكبير عصام ولي بذلك الزمن .








وسام الشالحي

28 كانون الثاني (يناير) 2016