يظن الكثير
من الناس ان الصغار ليس لديهم مشاعر , لكني اقول بان الصغار وابتداء من عمر
الخامسة تقريبا لديهم مشاعر حقيقية وعميقة تجاه الاخرين , فهم يحبون ويكرهون حالهم
من حال كل خلق الله . وخلال بدأ حياتهم تتكون لدى الصغار مشاعر متنوعة تجاه بعضهم
البعض وتجاه الاقرباء والمعارف تبعا لما يرونه ويلمسونه من مواقف مختلفة تجاههم . لقد
حصل مثل هذا الامر معي لذلك فانا اؤكده بثقة كبيرة , فخلال طفولتي وصباي تكونت لدي
مشاعر متباينة تجاه الناس الذين يحيطون بي , احببت بعضهم الى درجة كبيرة وبغضت
بعضهم الاخر الى اقصى درجة . كانت هذه المشاعر تتكون عندي حسب موقف الشخص مني
اضافة الى شعوره تجاهي والذي يمكن ان يلمس بسهولة تبعا للتصرفات . لن اذكر في
خاطرتي هذه من كرهتهم لاعتبارات أخلاقية , لكني ساذكر باعتزاز من احببتهم تقديرا
مني لهم . ومما يجدر ذكره بان هذه المشاعر لا تتغير على الاغلب عند الكبر بل تبقى ثابتة
في دواخل الانسان طالما بقي حيا . غير ان مواقف الصغير تجاه الاشخاص حين يكبر لا
تتحدد بالضرورة بناء على الوقائع التي حدثت بالصغر لان الانسان غالبا ما يتناساها
او ربما يضطر الى تجاوزها لضرورات حياتية , غير ان ذكرى تلك الوقائع لا تنسى ابدا
وتبقى عالقة بالنفس حتى الممات .
كنت كطفل
مثل كل الاطفال لابد وان تبدر مني اخطاء او زلات لا يرضى عنها الكبار لكنها بالتأكيد
مجرد وكاحات بريئة وليست سيئة او خبيثة لانها في اغلب الاحوال لا تضر احد . وقد
يصدف ان يرى او يعلم عن ما حدث احد الكبار من الأقارب او المعارف وهنا يمكن ان
يحدث موقفين مختلفين . قد يشعر هذا الكبير بانه غنم غنيمة او نال صيدا ثمينا فيسارع
الى اخبار المعنيين بهذا الصغير , كان يكون الاب او الام او الاخ الاكبر لغرض محاسبة
الصغير او معاقبته , او قد يسارع الكبير الى احتواء الموقف والتغطية على ما حصل لكن
مع تقديم بعض النصح للصغير لكي لا يتكرر ما حدث مرة اخرى . مررت بحياتي بالكثير من
هذه المواقف وكم كان ينتابني الألم والغضب وتتولد بنفسي مشاعر بغض شديدة حين يبدر
من الكبير موقف من النوع الاول , بينما تمتليء نفسي حبا وعرفانا اذا وجدت بان
التصرف الذي يحصل هو من النوع الثاني .ولجعل
الموضوع ملموسا واكثر تشويقا ساذكر هنا حادثتين مرتا بحياتي , واحدة ينطبق عليها
النوع الاول من التصرفات وحادثة اخرى تدرج ضمن النوع الثاني .
في احد
ايام الصيف الحارة اثناء العطلة الصيفية بعد الصف الخامس ابتدائي قضيت احدى
الليالي في بيت احد اقاربي في بغداد . وخلال اليوم الذي قضيته عندهم عثرت بالصدفة
على الارض على قطعة نقود جديدة تلمع من فئة 25 فلسا . التقطت قطعة النقود ودسيتها
بجيبي وانا لا اعرف كيف ساتصرف حيالها . فكرت قليلا وقررت بان انتظر وارى , فاذا شكا
احد ما بفقدانها فسأقوم بأعطائها له , وان لم يدعي احد بهذا فسأعتبرها هدية من
الله لي . كان هذا المبلغ بالنسبة الى طفل صغير مثلي كبيرا , لكنه يعتبر بالنسبة
للكبار مبلغ تافه . مر اليوم واصبح اليوم التالي ولم اسمع باحد يدعي بانه فقد 25
فلسا , فقررت ان اعتبرها ملكي وان انفقها كيفما اريد . وقبل ان اعود ذهبت الى دكان
مجاور مع احد اولاد قريبي واشتريت لي وله بعض الحلوى , وانتهى الموضوع عند هذا
الحد . مرت الايام وانتهت العطلة الصيفية وعدنا الى البصرة كما نفعل كل سنة . وبعد
عدة اشهر سافر والدي بمهمة الى بغداد وقضى عدة ايام هناك , وبعد عودته دعاني
وعنفني تعنيفا شديدا امام بقية افراد الاسرة وقال بانه خجل بشدة حين اخبره ذلك
القريب باني سرقت منه مبلغ 25 فلسا عند مبيتي عندهم . حلفت لوالدي بان هذا لم يحدث
واني لم امد يدي ابدا الى نقود احد وان كل ما في الامر اني عثرت على قطعة النقود
في الارض ولم يدعي بها احد فاخذتها لنفسي . كان وقع الأمر شديدا علي لاني اعتبرت
لصا في نظر العائلة وانا لم اكن كذلك ابدا , كما اني استغربت كيف ان ذلك القريب
حرف الواقعة بالكامل , وكيف انتظر كل تلك المدة ليخبر ابي بها . كانت النتيجة اني
بغضت ذلك القريب بغضا شديدا , وظلت الواقعة في ذاكرتي رغم مرور عشرات السنين عليها
.
الواقعة الثانية حصلت بالبصرة وايضا حين كنت بالصف الخامس
ابتدائي . حصل في تلك السنة ان احد اخوالي (خالو مكي) نقل للعمل بمصلحة السكك
بالبصرة واستأجر بيت ليعيش فيه مع اسرته قرب محطة القطار . وقد صادف ان زرناه في
بيته باحدى المرات واستدليت على موقع داره . مضت بعدها مدة طويلة دون ان نزورهم
مرة اخرى مع اني كنت اشتاق اليهم جدا بسبب الحنين الشديد للوالدة ولبغداد . وقد
دفعني هذا الاشتياق لان اقرر بان اقوم بزيارتهم بنفسي , لكن كان يتعين علي بان
اركب الباص لاذهب اليهم وهو امر لم يحصل معي سابقا . جمعت بعدها مصروفي ليومين او
ثلاثة وقررت تنفيذ ما نويت عليه بالصباح لكي لا يفطن على ذلك احد . وفي احدى
الصباحات , وبدلا من اذهب للمدرسة ركبت الباص وتوجهت الى دارهم . دقيت الباب ففتح
لي خالي الباب واستغرب جدا لمجيئي . استقبلني بحرارة وادخلني للدار واستفسر مني
كيف جئت اليهم وحدي بهذه الساعة المبكرة خصوصا وان عندي دوام بالمدرسة . رويت له
كيف جئت وقلت له بان لم اذهب للمدرسة وحضرت اليهم بدلا من ذلك لاشتياقي لهم ولاي
شخص من طرف والدتي . قال لي خالي "لا عليك , ابقى قليلا وسنصلح الأمر حالا
على ان تعدني بان لا تفعل مثل هذا مرة اخرى". وبعد قليل اخذني خالي وذهب معي
الى المدرسة واخبر المدير بانه خالي وقد أتى من بغداد لرؤيتي مما تسبب بتأخري
قليلا عن المدرسة , وانتهى الموضوع عند هذا الحد . كان هذا الموقف كبيرا جدا في
نظري ولم انسى ابدا حنية خالي وتصرفه الحكيم مما ابقى ذكراه ومشاعر العرفان والحب
تجاهه حية في اعماقي طيلة حياتي , ورحم الله خالي مكي واسكنه فسيح جناته . هذه جوانب من مشاعر البغض والحب التي تكونت في
دواخلي وانا صغير , وربما كان لحساسيتي المفرطة وعواطفي المتقدة دور كبير في
بقائها حية رغم الزمن الطويل الذي مر عليها .
وهذه صورة لي بالصف الخامس ابتدائي , واخرى لخالي مكي رحمه
الله .
وسام الشالجي
18 كانون اول (ديسمبر) 2015