اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 29 نوفمبر 2015

خواطر بالاسود والابيض - كيف عشت حياتي المدرسية بالعراق

لا تنفصل حالة النظام التعليمي بالعراق عن الحالة العامة بهذا البلد والتي سجلت بامتياز أعلى صور فشل الشعوب في التعايش في هذه الحياة بشكل ايجابي والتطور والتقدم للامام . وقد مر جيلنا نحن الذين ولدنا بعقد الخمسينات , وربما الجيل الذي بعدنا ايضا بحالة من الانتقال من التعليم بصوره البدائية المستمدة من نظام (الملة) والمدارس القديمة التي تأسست في بداية نشوء الدولة العراقية وبين المدارس الحديثة التي تكونت فيها لاحقا بعض الاعراف المعتبرة . معظمنا لم ينخرط في رياض الاطفال او بصفوف التمهيدي لانها كانت قليلة جدا وليست عامة بل أهلية وبأجور . كما ان اكثرنا داوم بمدارس يفصل فيها الجنسين عن بعضهما , فهناك مدارس ابتدائية للبنين واخرى للبنات ولم تكن هناك مدارس مختلطة الا نادرا . كانت المدارس في وقتنا تتميز بحالة من التخلف الشديد , فبالرغم من وجود ابنية لها الا انها كانت فاقدة لابسط المقومات المعيشية . الصفوف باردة شتاءا وحارة صيفا , ومن النادر ان تحتوي على مراوح بالسقف . الشبابيك تكون على الاغلب بلا زجاج وبلا شبكات تمنع دخول الحشرات . اما الابواب والرحلات فغالبا ما تكون مخلعة وخشبها مشعفر وقد تحتوي على مسامير ظاهرة تمزق الملابس دون ان يهتم بتصليحها احد . السبورة عبارة عن لوحة سوداء معلقة في مقدمة الصف لكنها دائما ما تكون مبيضة من كثرة الكتابة عليها بالطباشير الذي يملأ غباره الصف بعد كل مسحة للسبورة . الصفوف خالية من اي وسائل تعليمية لانها ان وجدت فهي اما تسرق او تدمر , باستثناء صور الزعيم او الرئيس التي تبقى معلقة لا يجرؤ احد على الاقتراب منها . اما دورات المياه فكانت في منتهى القذارة , وغالبا ما تكون طافحة تتسرب محتوياتها الى الخارج . ومن الاعتيادي ان تجد جدران غرف المرافق وقد سطر عليها انواع العبارات اللاأخلاقية او عبارات السب والشتم للمعلمين والمدرسين . اما حنفيات شرب الماء فقد تكون موجودة بمعزل عن دورات المياه او معها بنفس المكان ، او قد تكون غير موجودة بالمرة مما يجعل التلاميذ يشربون من الحنفيات الموجودة في المرافق . لا يلقى السبب فيما ذكرته كله على الدولة او على ادارات المدارس لان الطلبة كانوا ايضا سببا رئيسيا في تدمير كل شيء جيد بالمدرسة والصف لانهم اكتسبوا من اهلهم نزعة تدمير الممتلكات العامة لأنهم لا يرون في الحكومة الا عدوة للشعب مما يقتضي سرقة او تدمير ممتلكاتها  .

اما المعلمين والمدرسين فكانوا يعكسون بشكل صارخ حالة المجتمع واتجاهاته وانقساماته , سواء في السياسة او الدين وحتى في الاخلاق . لم يكن المعلمين والمدرسين مربين بالمعنى الصحيح , بل كان معظمهم يمتهنون المهنة كمهنة يعتاشون منها فحسب . أغلب المعلمين والمدرسين اصبحوا كذلك نتيجة لانخراطهم العشوائي في هذا المسلك اثناء دراستهم , ولم يمر اي منهم بأي حالة من الفرز العلمي لاختيار من هو صالح لهذه المهنة من الغير الصالح . لذلك ليس غريبا ان نجد بينهم من هو مصاب بأنواع الامراض النفسية , بينما يعكس بعضهم الاخر بتصرفاته كل امراض المجتمع وافرازاته . اذكر في الصف الثاني الابتدائي ان جاءنا معلما متدينا بدرس القراءة فرض علينا حين نقرأ ان نبدأ بالبسملة فاعتدنا على ذلك . وبعد نصف السنة نقل هذا المعلم الى مدرسة اخرى ونسب الينا معلم اخر يبدوا بانه كان ذو فكر وجودي . وفي اول درس له معنا طلب مني القراءة ففتحت الكتاب وبدأت كالعادة بالبسملة فلم اشعر الا بلطمة شديدة تأتيني منه على وجهي وهو يقول (شعدنا درس قراءة لو دين؟) . اما في السياسة فكان من الشائع جدا ان يعبر المعلم عن أتجاهه السياسي من خلال كلامه وطروحاته في الصف . فعلى سبيل المثال اذكر بعد حركة 8 شباط 1963 بان احد المعلمين كان يجلب معه الى الصف جهاز تسجيل ويفتح فيه نشيد (ألله اكبر) المصري ويطلب منا في الصف ان نغني النشيد بقوة مع التسجيل . كما ان استغلال المعلمين لطلبتهم كان رائجا هو الاخر ، فانا اذكر في هذا المجال ان احد المدرسين كان كما يبدوا مسؤولا عن حانوت المدرسة , لذلك كان يروج لما موجود في الحانوت حتى اثناء الحصة واعدا بأعطاء بعض الدرجات لكل من يملك نقود ويذهب للشراء من الحانوت  .

اما في التصرفات العامة فكانت المدرسة في وقتنا اشبه بمجتمع الغاب لا يسلم فيه الا من كان قويا وذو شكيمة , بل اني رأيت تلاميذ يحملون سكاكين في جيوبهم حتى بالمدارس الابتدائية . واذا تحدثنا عن الاخلاق فكانت المدرسة في بعض الاحيان موقعا لنشر الاخلاق البذيئة بدلا من الاخلاق الحميدة سواء ان كان ذلك من الطلبة او من المعلمين والمدرسين . فحين اصبحت بالصف الخامس الابتدائي على سبيل المثال اصبحنا نأخذ دروس اللغة الانكليزية , وكان للموضوع اربع شخصيات هم (يوسف وزكي وليلى وسلمى) . كان المعلم يجلب معه الى الصف صور خليعة لنساء كبار يقوم بتعليق اثنين منها بكلبسات على السبورة في كل حصة قائلا لنا (انظروا , هذه ليلى وهذه سلمى) وكانت عيناه لا تفارقهما طيلة الدرس . وحتى التلاميذ انفسهم لم يكونوا باحسن حالا , فانا اتذكر الكثير من التلاميذ الذين كانوا بمنتهى الخلق السيء حتى في السنوات المبكرة من الدراسة الابتدائية وكانت الالفاظ البذيئة لا تسقط من افواههم . كان لكل صف مراقب يعينه المعلم , وعادة ما يكون هذا كبيرا بالسن او الحجم قياسا بالبقية , فيأخذ هذا بفرض نفوذه على التلاميذ لما يملكه من صلاحية في ان يبلغ المعلم عن اي تلميذ لا يعجبه . من جهة اخرى , كان الضرب شائعا في ايامنا بالمدرسة وكم تعرضت للضرب في مختلف مراحل حياتي المدرسية , ولا زلت اذكر العصا وهي تنهال على يداي بقوة وانا بالصف الخامس اعدادي لانني ضبطت مع بعض الطلاب ندخن بساحة المدرسة بالفرصة .

لم تكن حياتي المدرسية سعيدة بل اني اراها الان بصورة عامة تعيسة ومقيتة وحتى كريهة . لم اقضي في اي مدرسة اكثر من سنتين لكثرة تنقل ابي بين المناطق التي عمل بها في المحافظات ، لذلك لا اذكر معظم زملائي من ايام المدرسة . اسوأ سنواتي الدراسية كانت في الابتدائية في مدرسة عتبة بن غزوان بالبصرة , واجملها واحلاها كانت بالمتوسطة في متوسطة التحرير بالبصرة ايضا , اما الثانوية فكانت بين بين . احب المدرسين ألي بحياتي الدراسية كان استاذ اللغة العربية بمتوسطة التحرير (استاذ ياسين) حين كنت بالصف الثالث متوسط , ولا اذكر اني كرهت معلما او مدرسا معينا . وحين اصبحت باميركا واخذت أدرس بالمدارس هناك ادركت كم ان الفرق هائل بين ما يعيشه التلاميذ في هذا البلد وبين ما عشته بحياتي المدرسية في العراق , والذي يشابه الفرق بين الارض والسماء .
 
وهذه صورة لاول مدرسة انخرطت بها وهي مدرسة المنذرية الابتدائية بالاعظمية , وصورة لمدرسة عتبة بن غزوان بالبصرة وصورة لمدرسة الحسن البصري الابتدائية بالزبير وصورة لاعدادية المنصور .









وسام الشالجي

30 تشرين ثاني (نوفمبر) 2015