سأبدأ كلمتي هذه بالظروف التي جعلتني التقي واتعرف بشخصية كبيرة ومحترمة
من حق العراق ان يفتخر بها ، تلك هي شخصية الاستاذ الدكتور غازي درويش . في
عام ١٩٦٩ كنت قد رسبت بسنتي الاولى بكلية العلوم ولم يكن ذلك الرسوب بسبب
غباء او كسل مني بقدر ما كان نتيجة الغياب الطويل عن الدوام طيلة عامي
الاول فيها . كنت متقدما للالتحاق في بعثة لدراسة الطيران المدني في
بريطانيا وكنت بانتظار نتائجها بفارغ الصبر متاملا القبول بها وبناء مستقبل
حياتي بالشكل والطريقة التي اريدها . لم تظهر نتائج القبول الا بالشهر
الثاني من عام ١٩٦٩ وكان نتيجتي عدم القبول بها . كنت منقطعا عن الدوام
بالكلية لاني كنت متأملا جدا باني ساقبل بهذه البعثة ، وحين رفضت فيها وعدت
للكلية في اذار كانت درجاتي صفر بكل المواد لاني لم احضر اي امتحان سابق .
كانت هناك مادة في نظام الكلية تنص على فصل الطالب من الكلية في حالة
رسوبه باكثر من ثلثي الدروس . قررت بحينها ان اجاهد واكافح ليس للخلاص من
هذا المصير الذي حددته تلك المادة بل من اجل النجاح . وبعد ان اشتركت
بالامتحانات المتبقية في تلك السنة واحتسبت درجات السعي السنوي التي ظهرت
في مايس ١٩٦٩ قبل الامتحان النهائي الذي يجري عادة في اوائل حزيران كانت كل
درجاتي لم تتجاوز الرقم السحري المشؤوم ١٣ من خمسون ، او بكلمة أحرى ٢٦ من
مئة . علينا ان نتصور كيف يمكن لي ان احصل على النجاح الذي صممت عليه وهو
يتطلب مني الحصول على درجة ٧٤ في مواد انا لم احضر محاضراتها ولم ادخل
مختبراتها . صممت بارادة حديدية على النجاح وبدأت اقرأ بجد ما بعده جد ،
ودخلت الامتحانات وتفوقت فيها على نفسي واظهرت امكانية تجاوزت امكانياتي
فنجحت بكل المواد باستثناء مادة الحيوان ، وكان ذلك اول وأخر فشل اصاب به
في كل حياتي الدراسية . لم اصاب بخيبة امل وقررت ان استعد جيدا لامتحانات
الدور الثاني وقرات بشكل لم يسبق لي ان فعلته حتى اني حفظت المواد عن ظهر
القلب وكانها محفوظة . دخلت امتحان الدور الثاني واديت اداءا جيدا في
الامتحان النظري لكن كانت اكبر مصيبة واجهتها هي في الامتحان العملي حيث
كانت السلايدات تختلف كليا عن الصور التي حفظتها من الكتاب . فشلت
بالامتحان وبذلك رسبت لاول واخر مرة بحياتي .
خين ذهبت بالسنة اللاحقة للدوام كان مستواي بسبب القراءة المكثفة التي عملتها متفوقا جدا قياسا ببقية الطلاب . نسب لتدريسنا بدرس الكيمياء الاستاذ الدكتور غازي درويش وكنا قد سمعنا عنه قبل ان نلتقيه قصص كثيرة منها انه عالم في علم الذرة وكان قبلها مديرا لمركز بحوث الطاقة الذرية بالتويثة . وقصة اخرى تقول انه اصطدم بارائه العلمية مع المدير الذي عينته الحكومة لهيئة الطاقة الذرية الفريق حردان التكريتي مما دفعه الى الاستقالة من الهيئة والعودة كمجرد استاذ محاضر في كلية العلوم . وقصة اخرى تقول انه انهى دراسة البكلوريوس والماجستير والدكتوراه في بريطانيا بست سنوات . وقصة اخرى تقول انه شخصية علمية عالمية وانه مؤمن على حياته من قبل هيئة الطاقة الذرية الدولية . كما سمعنا بانه شخص ذو افكار يسارية بالرغم من كونه خريج دولة غربية .كانت هذه القصص قد كونت عندنا صورة معينة عن هذا الشخص ، وحين حضرت له محاضرته الاولى وشاهدت هيئته وشكله ورأيته كيف يدرس ويتكلم الانكليزية بطلاقة بصوته الجهوري وجدت بان كل ما سمعته عنه هو لا شيء امام حقيقته . دأبت على حضور محاضراته بانتظام والتي كانت تعقد في القاعات الدراسية الجديدة القريبة من النهر في نهاية قطعة ارض الكلية ، بل كنت انتظر تلك المحاضرات بفارغ الصبر وكنت دائما اجلس بالمقعد الاول من اليمين في السرة الاول القريب منه . كان رائعا في محاضراته ، وكان لا يملينا لكنه كان يدون كل فكرة يستنتجها من شرحه على السبورة وكنا ننقل ما كان يدونه في دفاترنا . وحين وصلنا لموضوع تركيب الذرة والمدارات الالكترونية ابدع ابداعا ما بعده ابداع لانه كما نعرف اختصاصه الدقيق فجعل كل واحد منا يعشق الذرة ويتمنى لو يصبح عالما ذريا مثله . كان يجري لنا بعض الكوزات وكان يسمح لنا ان نفتح اي شيء نريده بشرط واحد هو ان لا ننقل من بعضنا البعض . كان يدون اسئلة الكوز على السبورة ثم يتنحى جانبا يدخن البايب (الغليون) من دون ان يشعرنا بانه يراقبنا . في احدى محاضراته كان يشرح فقرة ما وقبل ان يتوصل لفكرتها النهائية ويدونها على السبورة التفت الي فجأة وناداني باسمي وسألني "فماذا تستنتج مما قلناه يا وسام ؟" . كانت هذه اللفتة منه من اروع ما مر بي بحياتي اذ لم اكن اتصور أبدا بانه يعرف اسمي قبلها لانه لم يصدف ان قمت قط اثناء محاضراته باي نشاط يدلل على اسمي ، لكن شدة انتباهي لما يقوله ومتابعتي لكل كلمة يتفوه بها ودرجاتي المتفوقة بالامتحانات ربما لفتت انتباهه وجعلته يتطلع لان يعرفني ويعرف اسمي .
انتهت تلك السنة الدراسية وحصلت على درجة عالية جدا في الكيمياء وانتظمت بقسم الكيمياء محبة بهذا الاستاذ واعجابا بشخصيته الفذة . لم يدرسني مرة اخرى ابدا حتى تخرجت من الكلية ، وبعد تخرجي كنت اشاهده كثيرا بصحبة زوجته في نادي الكيمياويين وكم كانت تلفت انتباهي ضحكاته العالية وصوته الجهوري الذي كان جميع الجالسين يسمعونه في بعض الاحيان . اخر مرة التفيته فيها كانت باواخر السبعينات حين اعلن عن عدد من البعثات العلمية فقدمت اليها وكان هو ضمن لجنة المقابلة وقد سالني بحينها سؤال لم استطع الاجابة عليه فحزنت كثيرا لاني شعرت بلحظتها باني قد شوهت بذلك الموقف الصورة التي كان ربما قد حملها عني حين كنت احد طلابه المتفوقين في الصف الاول في كلية العلوم . انقطعت اخباره عني تماما بعدها لكني سمعت في نهاية السبعينات بانه نقل من كلية العلوم الى وزارة الصناعة ضمن حملة لابعاد الاساتذة ذوي الافكار اليسارية عن سلك التدريس . ثم علمت انه سافر الى الاردن مطلع عقد التسعينات واخذ يدرس في احدى جامعاتها .
وقبل عدة سنوات شاهدته بالصدفة في مقابلة اجريت في بريطانيا ونشرت على اليوتيوب تحدث فيها عن التعليم العالي بالعراق وتجاربه في هذا المضمار . ومن تلك المقابلة تحفزت لكتابة مقال عنه نشر في جريدة الزمان ، ثم كتبت له على ايميله الذي وصلني من صديقي العزيز جعفر الحكاك لكنه لم يجبني للاسف . كما وصلتني في احد الايام رسالة من بنته تشكرني فيها على مقالي الذي كتبته عن والدها فطلبت منها ان تبلغه تحياتي وتطلب منه الكتابة لي لكنه لم يفعل ذلك ابدا .
تحية حب ووفاء للاستاذ الدكتور غازي درويش داعين الله ان يمتعه بالصحة والعافية وان يطيل عمره ، انه سميع مجيب .
خين ذهبت بالسنة اللاحقة للدوام كان مستواي بسبب القراءة المكثفة التي عملتها متفوقا جدا قياسا ببقية الطلاب . نسب لتدريسنا بدرس الكيمياء الاستاذ الدكتور غازي درويش وكنا قد سمعنا عنه قبل ان نلتقيه قصص كثيرة منها انه عالم في علم الذرة وكان قبلها مديرا لمركز بحوث الطاقة الذرية بالتويثة . وقصة اخرى تقول انه اصطدم بارائه العلمية مع المدير الذي عينته الحكومة لهيئة الطاقة الذرية الفريق حردان التكريتي مما دفعه الى الاستقالة من الهيئة والعودة كمجرد استاذ محاضر في كلية العلوم . وقصة اخرى تقول انه انهى دراسة البكلوريوس والماجستير والدكتوراه في بريطانيا بست سنوات . وقصة اخرى تقول انه شخصية علمية عالمية وانه مؤمن على حياته من قبل هيئة الطاقة الذرية الدولية . كما سمعنا بانه شخص ذو افكار يسارية بالرغم من كونه خريج دولة غربية .كانت هذه القصص قد كونت عندنا صورة معينة عن هذا الشخص ، وحين حضرت له محاضرته الاولى وشاهدت هيئته وشكله ورأيته كيف يدرس ويتكلم الانكليزية بطلاقة بصوته الجهوري وجدت بان كل ما سمعته عنه هو لا شيء امام حقيقته . دأبت على حضور محاضراته بانتظام والتي كانت تعقد في القاعات الدراسية الجديدة القريبة من النهر في نهاية قطعة ارض الكلية ، بل كنت انتظر تلك المحاضرات بفارغ الصبر وكنت دائما اجلس بالمقعد الاول من اليمين في السرة الاول القريب منه . كان رائعا في محاضراته ، وكان لا يملينا لكنه كان يدون كل فكرة يستنتجها من شرحه على السبورة وكنا ننقل ما كان يدونه في دفاترنا . وحين وصلنا لموضوع تركيب الذرة والمدارات الالكترونية ابدع ابداعا ما بعده ابداع لانه كما نعرف اختصاصه الدقيق فجعل كل واحد منا يعشق الذرة ويتمنى لو يصبح عالما ذريا مثله . كان يجري لنا بعض الكوزات وكان يسمح لنا ان نفتح اي شيء نريده بشرط واحد هو ان لا ننقل من بعضنا البعض . كان يدون اسئلة الكوز على السبورة ثم يتنحى جانبا يدخن البايب (الغليون) من دون ان يشعرنا بانه يراقبنا . في احدى محاضراته كان يشرح فقرة ما وقبل ان يتوصل لفكرتها النهائية ويدونها على السبورة التفت الي فجأة وناداني باسمي وسألني "فماذا تستنتج مما قلناه يا وسام ؟" . كانت هذه اللفتة منه من اروع ما مر بي بحياتي اذ لم اكن اتصور أبدا بانه يعرف اسمي قبلها لانه لم يصدف ان قمت قط اثناء محاضراته باي نشاط يدلل على اسمي ، لكن شدة انتباهي لما يقوله ومتابعتي لكل كلمة يتفوه بها ودرجاتي المتفوقة بالامتحانات ربما لفتت انتباهه وجعلته يتطلع لان يعرفني ويعرف اسمي .
انتهت تلك السنة الدراسية وحصلت على درجة عالية جدا في الكيمياء وانتظمت بقسم الكيمياء محبة بهذا الاستاذ واعجابا بشخصيته الفذة . لم يدرسني مرة اخرى ابدا حتى تخرجت من الكلية ، وبعد تخرجي كنت اشاهده كثيرا بصحبة زوجته في نادي الكيمياويين وكم كانت تلفت انتباهي ضحكاته العالية وصوته الجهوري الذي كان جميع الجالسين يسمعونه في بعض الاحيان . اخر مرة التفيته فيها كانت باواخر السبعينات حين اعلن عن عدد من البعثات العلمية فقدمت اليها وكان هو ضمن لجنة المقابلة وقد سالني بحينها سؤال لم استطع الاجابة عليه فحزنت كثيرا لاني شعرت بلحظتها باني قد شوهت بذلك الموقف الصورة التي كان ربما قد حملها عني حين كنت احد طلابه المتفوقين في الصف الاول في كلية العلوم . انقطعت اخباره عني تماما بعدها لكني سمعت في نهاية السبعينات بانه نقل من كلية العلوم الى وزارة الصناعة ضمن حملة لابعاد الاساتذة ذوي الافكار اليسارية عن سلك التدريس . ثم علمت انه سافر الى الاردن مطلع عقد التسعينات واخذ يدرس في احدى جامعاتها .
وقبل عدة سنوات شاهدته بالصدفة في مقابلة اجريت في بريطانيا ونشرت على اليوتيوب تحدث فيها عن التعليم العالي بالعراق وتجاربه في هذا المضمار . ومن تلك المقابلة تحفزت لكتابة مقال عنه نشر في جريدة الزمان ، ثم كتبت له على ايميله الذي وصلني من صديقي العزيز جعفر الحكاك لكنه لم يجبني للاسف . كما وصلتني في احد الايام رسالة من بنته تشكرني فيها على مقالي الذي كتبته عن والدها فطلبت منها ان تبلغه تحياتي وتطلب منه الكتابة لي لكنه لم يفعل ذلك ابدا .
تحية حب ووفاء للاستاذ الدكتور غازي درويش داعين الله ان يمتعه بالصحة والعافية وان يطيل عمره ، انه سميع مجيب .