اخر المواضيع في المدونة

الخميس، 21 يوليو 2016

همسة عابرة - الذكرى


الذكرى هي الصورة المجردة لما مر بنا من احداث قد تكون بعيدة في اعماق الزمن او قريبة لم يمضي عليها الا دقائق . الذكرى هي سفينة أحلام نركبها لنبحر بها عبر الغابر من أعمارنا لنستشف منها العبر التي تفيدنا في القادم من أيامنا . الذكرى هي مركبة نمتطيها تأخذنا بعيدا لتسير بنا في دروب الصغر تارة , أو تحلق بنا فوق طرقات الصبا لتسمعنا صدى ضحكاتها تارة اخرى . الذكرى صورة جميلة تمر بخاطرنا فتحيي فينا من جديد أحاسيس الهوى وروح الشباب وتحول حتى الحزن الذي عشناه الى فرح يمسح دموع الألام من ماضينا . الذكرى هي المظلة التي نحتمي بها كلما خيمت علينا غيمة سوداء وامطرتنا بقطرات الفراق لتبعد عنا من هوته انفسنا وتألفت معه ارواحنا . الذكرى هي الفضاء الواسع الرحب الذي نلجأ اليه كلما ضاقت بنا الدنيا وجثمت على صدورنا اثقال الزمن . الذكرى هي بيتنا الاول الذي نتوق للعودة اليه , وهي الوطن الذي يعيش فينا حين تأخذنا الاقدار بعيدا عنه . الذكرى هي حياة كاملة تختصر نفسها بصور مرسومة بالاسود والابيض معلقة على جدران العمر نمر عليها كل حين فتبعث فينا الامل وتنشط فينا الدوافع . الذكرى قصص صامتة من غير لسان يرويها لكنها مسموعة في وجداننا , واغاني خرساء بلا حنجرة تصدح بها لكنها تطرب نفوسنا . الذكرى قد تكون حديقة غناء ترتاح لها النفوس وتبتهج فيها القلوب , او هي وردة يبست اوراقها وذهب بريقها واختفت الوانها وفقدت عبيرها ولم يبقى منها غير الاشواك . الذكرى هي فرح لا يخفت وسعادة لا تخبو وألم لا يسكن ودمع لا يجف .





كثيرة هي ذكريات حياتنا ومتنوعة هي بأشكالها , فكم منها ماهو حلو كأنه العسل وكم منها ما هو مر كأنه العلقم . نحن لا نختار من بين ذكرياتنا ما يتعايش معنا , بل الذكريات هي التي تفرض نفسها علينا لتعود في تجسيد ذاتها في وجداننا وقتما تشاء . بعض ذكريات حياتنا هي من القوة لتتحول الى خطوط عميقة محفورة في دواخل النفس لا يردمها طول الزمن ولا يمحو أثرها كثرة السنون . ولا تتحدد قيمة الذكرى الا بعد ان تغيب لحظة حدوثها في دهاليز العمر وتتحول الى صور محفوظة في العيون تثير الشجون وتعصف بالعواطف كلما جرى استعراضها . وكم من الذكريات ما هو افضل من كل ما حدث لنا بعدها , لذلك نجدها تتعايش معنا وتثبت في مخيلتنا وتصاحبنا في احلامنا حتى تصير هاجسا لا يفارقنا . كل حكاية من حكايات العمر هي ذكرى بحد ذاتها , لكن ليس كل ذكرى أصلها حكاية جميلة نود بقائها , فكم من الذكريات نتمنى زوالها ونود لو تغيب من افق حياتنا . بعض الذكرى هي نور ساطع يضيء ألقه القادم من أيامنا , وبعضها الاخر لهيب مشتعل يحرق مستقبلنا . الذكرى يمكن ان تكون أساس لبناء شامخ نبنيه بعرقنا , او زلزال مدمر يهد حتى ما بناه لنا غيرنا .






الذكرى هي الوجه الاخر للشوق والحنين , فلا ذكرى مؤثرة ما لم يصاحبها الشوق  ولا ذكرى جميلة مالم يتملكها الحنين . بالذكرى نعرف قدر حبنا لمن نشتاق اليه , وبها نرى مكانة من نحن اليه . الذكرى هي الاشتياق بأجمل زينته لمن ملئوا قلوبنا واحتضنتهم ارواحنا بالحب فبذكرهم تتجدد فينا كل معاني الوفاء تجاههم . الذكرى هي وسيلتنا لتجديد مشاعر الحب وطريقتنا في أحياء أحاسيس الهوى .





كلما مر بنا العمر ثقلت جعبة ذكرياتنا وامتلئت صفحاتها بصور اشخاص كثير منهم لم يعد مقدورنا ان نراهم مرة اخرى لكنهم باقون في قلوبنا وارواحنا . ومهما مضى بنا الوقت أو ابتعدت عنا وقائع الكثير من ذكرياتنا واصبحت سحيقة في قنوات الزمن لا تتغير ابدا مكانة اشخاصها ولا يتلاشى مطلقا ود الاحبة فيها . والذكريات حين تثور في انفسنا هي محاولتنا البائسة في العودة الى الماضي الذي نرفض نسيانه وكأننا الطيور المهاجرة حين تعود الى مواطن نشئتها الاولى . وحين نحلق بسماء الذكريات ونرفرف هوائها باجنحتنا نتنسم من جديد عبير كلمات صادقة سمعناها ذات مرة لكنها تخلدت في عالمنا وتحولت الى ذهب لامع يسطع في حياتنا . واذا ملأ السواد حياتنا عدنا الى صندوق ذكرياتنا ورحنا نفتش بين زواياه عن ضحكات سعادتنا وحاولنا من جديد ان نعيش بعض أحاسيس أحلامنا الغابرة .





الذكريات هي نجوم متلألئة في سماء حياتنا تضيء لنا المظلم من دروبها وتزين في عيوننا القاتم من وقائعها . الذكريات لا تتلاشى مع الايام ولا تغيرها المسافات ولا يبددها تغير الاشكال . الذكريات تحتاج في بعض الاحيان لمن يذكرنا بها ويسترجعها معنا ليجدد الحياة فينا . نحن لا نستطيع ان نمحو من حياتنا أي من ذكرياتنا , وحتى وان تناسينا بعضها فأنها تبقى لمن يعرفنا شاهدا علينا وعنوانا لماض عاش فينا . وكما ان الحياة قطار يجمعنا في احدى محطاته ويفرقنا في اخرى فأن الذكريات تغربلنا فتأخذ معنا من أحببناهم في رحلة حياتنا حتى وأن غابوا بشخوصهم عنا , وتبعد عنا من لا تلتقي ابراجهم مع ابراجنا .





وسام الشالجي

21 تموز (يوليو) 2016