الذكرى هي
الصورة المجردة لما مر بنا من احداث قد تكون بعيدة في اعماق الزمن او قريبة لم
يمضي عليها الا دقائق . الذكرى هي سفينة أحلام نركبها لنبحر بها عبر الغابر من أعمارنا
لنستشف منها العبر التي تفيدنا في القادم من أيامنا . الذكرى هي مركبة نمتطيها
تأخذنا بعيدا لتسير بنا في دروب الصغر تارة , أو تحلق بنا فوق طرقات الصبا لتسمعنا
صدى ضحكاتها تارة اخرى . الذكرى صورة جميلة تمر بخاطرنا فتحيي فينا من جديد أحاسيس
الهوى وروح الشباب وتحول حتى الحزن الذي عشناه الى فرح يمسح دموع الألام من ماضينا
. الذكرى هي المظلة التي نحتمي بها كلما خيمت علينا غيمة سوداء وامطرتنا بقطرات
الفراق لتبعد عنا من هوته انفسنا وتألفت معه ارواحنا . الذكرى هي الفضاء الواسع
الرحب الذي نلجأ اليه كلما ضاقت بنا الدنيا وجثمت على صدورنا اثقال الزمن . الذكرى
هي بيتنا الاول الذي نتوق للعودة اليه , وهي الوطن الذي يعيش فينا حين تأخذنا
الاقدار بعيدا عنه . الذكرى هي حياة كاملة تختصر نفسها بصور مرسومة بالاسود
والابيض معلقة على جدران العمر نمر عليها كل حين فتبعث فينا الامل وتنشط فينا
الدوافع . الذكرى قصص صامتة من غير لسان يرويها لكنها مسموعة في وجداننا , واغاني
خرساء بلا حنجرة تصدح بها لكنها تطرب نفوسنا . الذكرى قد تكون حديقة غناء ترتاح
لها النفوس وتبتهج فيها القلوب , او هي وردة يبست اوراقها وذهب بريقها واختفت
الوانها وفقدت عبيرها ولم يبقى منها غير الاشواك . الذكرى هي فرح لا يخفت وسعادة
لا تخبو وألم لا يسكن ودمع لا يجف .
كثيرة هي
ذكريات حياتنا ومتنوعة هي بأشكالها , فكم منها ماهو حلو كأنه العسل وكم منها ما هو
مر كأنه العلقم . نحن لا نختار من بين ذكرياتنا ما يتعايش معنا , بل الذكريات هي
التي تفرض نفسها علينا لتعود في تجسيد ذاتها في وجداننا وقتما تشاء . بعض ذكريات
حياتنا هي من القوة لتتحول الى خطوط عميقة محفورة في دواخل النفس لا يردمها طول
الزمن ولا يمحو أثرها كثرة السنون . ولا تتحدد قيمة الذكرى الا بعد ان تغيب لحظة
حدوثها في دهاليز العمر وتتحول الى صور محفوظة في العيون تثير الشجون وتعصف
بالعواطف كلما جرى استعراضها . وكم من الذكريات ما هو افضل من كل ما حدث لنا بعدها
, لذلك نجدها تتعايش معنا وتثبت في مخيلتنا وتصاحبنا في احلامنا حتى تصير هاجسا لا
يفارقنا . كل حكاية من حكايات العمر هي ذكرى بحد ذاتها , لكن ليس كل ذكرى أصلها حكاية
جميلة نود بقائها , فكم من الذكريات نتمنى زوالها ونود لو تغيب من افق حياتنا . بعض
الذكرى هي نور ساطع يضيء ألقه القادم من أيامنا
, وبعضها الاخر لهيب مشتعل يحرق مستقبلنا . الذكرى يمكن ان تكون أساس لبناء شامخ
نبنيه بعرقنا , او زلزال مدمر يهد حتى ما بناه لنا غيرنا .
الذكرى هي
الوجه الاخر للشوق والحنين , فلا ذكرى مؤثرة ما لم يصاحبها الشوق ولا ذكرى جميلة مالم يتملكها الحنين . بالذكرى
نعرف قدر حبنا لمن نشتاق اليه , وبها نرى مكانة من نحن اليه . الذكرى هي الاشتياق
بأجمل زينته لمن ملئوا قلوبنا واحتضنتهم ارواحنا بالحب فبذكرهم تتجدد فينا كل
معاني الوفاء تجاههم . الذكرى هي وسيلتنا لتجديد مشاعر الحب وطريقتنا في أحياء
أحاسيس الهوى .
كلما مر بنا
العمر ثقلت جعبة ذكرياتنا وامتلئت صفحاتها بصور اشخاص كثير منهم لم يعد مقدورنا ان
نراهم مرة اخرى لكنهم باقون في قلوبنا وارواحنا . ومهما مضى بنا الوقت أو ابتعدت
عنا وقائع الكثير من ذكرياتنا واصبحت سحيقة في قنوات الزمن لا تتغير ابدا مكانة اشخاصها
ولا يتلاشى مطلقا ود الاحبة فيها . والذكريات حين تثور في انفسنا هي محاولتنا
البائسة في العودة الى الماضي الذي نرفض نسيانه وكأننا الطيور المهاجرة حين تعود
الى مواطن نشئتها الاولى . وحين نحلق بسماء الذكريات ونرفرف هوائها باجنحتنا نتنسم
من جديد عبير كلمات صادقة سمعناها ذات مرة لكنها تخلدت في عالمنا وتحولت الى ذهب
لامع يسطع في حياتنا . واذا ملأ السواد حياتنا عدنا الى صندوق ذكرياتنا ورحنا نفتش
بين زواياه عن ضحكات سعادتنا وحاولنا من جديد ان نعيش بعض أحاسيس أحلامنا الغابرة
.
الذكريات هي
نجوم متلألئة في سماء حياتنا تضيء لنا المظلم من دروبها وتزين في عيوننا القاتم من
وقائعها . الذكريات لا تتلاشى مع الايام ولا تغيرها المسافات ولا يبددها تغير
الاشكال . الذكريات تحتاج في بعض الاحيان لمن يذكرنا بها ويسترجعها معنا ليجدد
الحياة فينا . نحن لا نستطيع ان نمحو من حياتنا أي من ذكرياتنا , وحتى وان تناسينا
بعضها فأنها تبقى لمن يعرفنا شاهدا علينا وعنوانا لماض عاش فينا . وكما ان الحياة
قطار يجمعنا في احدى محطاته ويفرقنا في اخرى فأن الذكريات تغربلنا فتأخذ معنا من
أحببناهم في رحلة حياتنا حتى وأن غابوا بشخوصهم عنا , وتبعد عنا من لا تلتقي
ابراجهم مع ابراجنا .
وسام الشالجي
21 تموز
(يوليو) 2016