اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 26 يونيو 2016

خواطر بالاسود والابيض - اكثر مدرس احببته بحياتي

ليس هناك انسان لم يصادف بحياته مدرس أحبه وترك أثرا عليه . ومن بين عشرات او ربما مئات المدرسين الذين مروا علي بحياتي سأتحدث اليوم عن مدرس عظيم احببته من كل قلبي . حين كنت بالمرحلة الدراسية المتوسطة كانت المدرسة التي درست بها هي متوسطة التحرير الواقعة في شارع 14 تموز بالبصرة . كانت سنواتي بهذه المدرسة من اجمل سنوات عمري , وربما يعود ذلك لكونها سنوات من مرحلة المراهقة التي هي في نظري اروع مرحلة يمر بها الانسان خلال عمره على الاطلاق . كان مدير المدرسة بوقتنا الاستاذ (سعد الجبير) , وكان استاذ شهير بالبصرة في وقتها وقد اصبح مدير تربية محافظة البصرة بالسبعينات . كان طلاب تلك المدرسة الجميلة من ابناء عينة رجال وشخصيات البصرة , واستطيع ان اقول بانها كانت اول مدرسة لي بالبصرة خالطت فيها طلبة من نفس مستواي الاجتماعي . وقد تكونت لي في تلك المدرسة صداقات حميمة لا زال بعضها مستمر لحد الان من بينها صداقتي بأخي الحبيب (نبيل جميل يونو) الذي التقيت به هنا في اميركا بعد اكثر من اربعة عقود من افتراقنا .

كانت السنة التي التقيت بها بمدرسي المفضل هي بالصف الثاني المتوسط , وكان موقع شعبة (ب) التي كنت فيها بالقاعة الاولى من الضلع الصغير بالطابق الاول بعد الركن مباشرة . بدأ المدرسون يتوافدون على شعبتنا في أيام الدراسة الاولى ولا زلت اتذكر معظمهم بالشكل لكني لا اتذكر الا اسماء القليل منهم . ففي درس الكيمياء كان اسم المدرس الذي جائنا هو استاذ اكرم وكان استاذا رائعا , وفي الرياضيات كان الاستاذ محسن الطباطبائي , ومن بين المفاجئات التي حصلت لنا في تلك السنة هي ان مدرس اللغة الانكليزية الذي خصص لشعبتنا كان مدرس هندي اسمه (موهين) وقد عانينا مشقة كبيرة في درسه لانه لم يكن يتكلم العربية . ومن بين هؤلاء المدرسين جائنا استاذ بموضوع اللغة العربية اسمه استاذ (ياسين علي الياسين) , وقد أسعفني صديقي العزيز نبيل في تذكر اسمه الكامل . كان استاذ ياسين ضليعا بجميع فروع درسه سواء ان كان ذلك بالنحو او الشعر او الادب , وقد احسسنا منذ بدايات دخوله الينا بانه وطني وذو ميول يسارية . كان يحب الشاعر بدر شاكر السياب الى درجة كبيرة , وكثيرا ما كان يستذكر امثلة بالنحو مقتبسة من اشعاره . كما كان يحب الشاعر احمد شوقي ايضا وكم كان يردد امامنا البيت (وطني لو شغلت بالخلد عنه .. نازعتني اليه بالخلد نفسي) . بعد عدة محاضرات بالعربي طلب مني في احد المرات ان اقوم واقرأ امام الصف قصيدة شعرية طلب منا قبل يوم ان نحفظها عن ظهر القلب كواجب بيتي لكني كنت غير حافظا لها فقال لي غاضبا (سأسامحك هذه المرة لكن في المرة القادمة ساضربك راجدي يطلعك من الشباك) . كان هذا القول شديدا بالنسبة لي لانه حدث امام جميع طلاب الصف اولا , ولاني لم اكن اتوقع مثل هذا الرد القاسي منه ثانيا وقد تأثرت منه الى ابعد الحدود . جعلني هذا الموقف احرص على أداء كل ما يطلبه استاذ ياسين منا , وان اسارع الى رفع يدي مع كل سؤال يسأله والقيام باستمرار لاظهار تحضيري وادائي للواجبات بدرسه . نتيجة لكل هذا شعر استاذ ياسين باني الاشطر بالصف في درسه والسباق في انجاز كل ما يطلبه فصار يمتدحني ويشيد بي باستمرار . قد يقول قائل بان كل هذا كان بسبب ذلك الموقف الشديد الذي اتخذه معي بالبداية لكني اقول بان هذا غير صحيح لاني مررت بمثل ذلك الموقف مع غيره من الاساتذة من قبل لكن لم يحصل ان سعيت لاظهار الشطارة بدروسهم بعدها . ان الامر يعود الى اني احببت شخصية استاذ ياسين من كل قلبي , فقد كان كامل الرجولة بمظهره وذو شخصية فذة وجذابة وضليع في اختصاصه مما يجعل اي شخص يعاشره يحبه ويتأثر به .


انتهت سنة الدراسة بالصف الثاني متوسط وانتقلت الى الصف الثالث متوسط , ومرة اخرى صرت بشعبة (ب) وكم كانت سعادتي عظيمة حين جائنا استاذ ياسين مرة اخرى بدرس اللغة العربية . في هذه السنة اصبحت ابدع اكثر واكثر بكل فروع درسه سواء بالنحو او الانشاء او النصوص الادبية , حتى اني لا ازال الى يومي هذا حافظا قصيدة انشودة المطر لبدر شاكر السياب والذي طلب منا ان نحفظ بعض مقاطعها بتلك السنة . في احدى المرات طلب مني ان اقوم واقف امام الصف وان ارتجل كلمة في اي موضوع اختاره , ولاني اعرف ميوله الوطنية تحدثت عن ضياع فلسطين لمدة جاوزت العشر دقائق فأعجبه حديثي كثيرا وصفق لي بنفسه وربت على كتفي بعدها شاكرا . وفي مرة اخرى طلب منا ان نكتب في الأنشاء عن موضوع (الأسرة ودورها بالمجتمع) فكتبت لاول مرة بحياتي قصة قصيرة ذات علاقة بالموضوع ألفتها من نفسي عن شخص سكير يؤذي اسرته باستمرار بسبب ادمانه . كان معتادا ان يأخذ منا دفاتر الانشاء ليقرأ ما نكتبه ثم يعيدها الينا وعليها درجة تشكل جزء من درجة درس العربي . حين تسلمت الدفتر منه تصفحته بسرعة لارى الدرجة التي اعطاها لي فكم كانت سعادتي كبيرة حين وجدته قد اعطاني (30 من 30) . ليس هذا فقط بل وجدته قد كتب لي كلمة قصيرة لا زلت اتذكرها لحد الان قال فيها : (قصة رائعة يا وسام ابدعت فيها . انت طالب ممتاز واريدك ان ان تكون حريصا على نفسك وعلى مستقبلك . حين تجلس بغرفتك فكر بنفسك وبنفسك وحدك , اما الاخرين فدعهم ولا تفكر بهم ابدا . اتمنى لك مستقبلا زاهرا ... ياسين) . لا زالت هذه الكلمات محفورة بذاكرتي لحد الان ولن انساها ما حييت .

بعد انتقالي الى بغداد بعد الدراسة المتوسطة زرت بعدها بحوالي سنة مدينة البصرة , وفي عصر احد الايام كنت اتمشى بسوق المغايز فالتقيت بصديقي العزيز نبيل وقد فرحت كثيرا بلقائه وقد اخبرني بوقتها بانه يستعد مع اسرته للسفر الى اميركا . ومن بين ما قاله لي بانه رأى قبل قليل الاستاذ ياسين بالسوق واقفا مع صديق له قرب محل لبيع العصير فطلبت منه على الفور بان يأخذني اليه . وما ان رأني استاذ ياسين حتى ابتسم ابتسامة عريضة وصافحني بحرارة مرحبا بي وقال لي (لقد اشتقنا لك كثيرا يا وسام , واحب ان اقول لك بان مكان وسام المتميز لا يشغله الا وسام) . كلمات اخرى تلقيتها من استاذ ياسين لا زلت اذكرها باعتزاز وفخر لليوم .

اتمنى الخير من كل قلبي للاستاذ ياسين ان كان لا زال حيا , وادعو له بالرحمة والجنان ان كان قد غادرنا الى الدار الاخرى . للأسف لا املك صورة له ولا لمتوسطة التحرير لكن هذه بعض الصور ذات العلاقة بالموضوع .


متوسطة التحرير في البصرة
الاستاذ سعد الجبير مدير متوسطة التحرير


سوق المغايز بالبصرة







وسام الشالجي
26 حزيران (يونيو) 2016