(العمر) ...
كلمة صغيرة بحروفها لكنها كبيرة في معناها وغنية بمضامينها . ألعمر بالنسبة
للكثيرين هو الفترة المحصورة بين لحظة الميلاد والساعة التي نحن فيها , أو بالنسبة
لمن رحلوا المدة بين يوم ميلادهم ويوم رحيلهم عن دنيانا , لكن هل هو كذلك فقط ؟
ماهو العمر بالنسبة لنا ؟ أهو رقم نعلم منه المرحلة التي نحن فيه من حياتنا من
طفولة وشباب وشيخوخة , أم ورائه دلالات خفية تجسد ما تركه الانسان في هذه الدنيا ؟
تعالوا معي نتمشى قليلا في دروب العمر وندور دورة خاطفة حول مراحله المختلفة .
اولى مراحل
العمر الطفولة , حيث اللعب والبهجة والمرح . حين كنا صغارا كان العمر بمقاديره لا يتجاوز
عدد اصابع اليد لكن معانيه كانت كبيرة بنظرنا . كان مقدار العمر هاجسنا الاكبر
وشغلنا الشاغل , فقد كان العيب كل العيب في ان يكون ذلك الرقم صغيرا لاحدنا ,
والفخر كل الفخر حين يكون كبيرا لأخر فينا .
كنا كلما نلتقي بأولاد او بنات من عمرنا الا وكان اول سؤال نوجهه لبعضنا
"كم عمرك ؟" , فاذا اتانا الجواب برقم اكبر من عمرنا انزوينا بشعور من
الخسران جانبا , وان جائنا الرد برقم اقل انتفخ صدرنا وانتفش ريشنا وكأننا فزنا
فوزا عظيما . كم وقفنا امام بعضنا البعض لنقارن براحة يدنا من هو الاطول قامة فينا
لنعلم حقيقة اينا اكبر عمرا . وكم كذبنا باجوبتنا حين نسال عن اعمارنا فنضيف
مقادير اليه من عندنا , او على الاقل نجعل كسور السنة فيه اعدادا صحيحة نضيفها على
رقم عمرنا لنجعله اكثر . وكم كنا نحزن ونصاب بالخيبة حين نذكر عمرنا لأحد ويقال
لنا "لكنك تبدوا اصغر عمرا" فيكون هذا صفعة شديدة توجه الى خدودنا . حتى
في العابنا في الصغر كان العمر محور لعبنا وكنا نختار الالعاب التي نتشبه بها
بالكبار , واتحدى اي ولد لم يلعب دور الزوج , أو اي بنت لم تلعب دور الزوجة في
العاب الطفولة . ومع ان تلك المرحلة هي الاجمل والاحلى الا اننا كنا نستعجل مرورها
ونتمنى مغادرتها ونصبح اكبر .
ثم تلي تلك
المرحلة المراهقة , حيث تتفتح النفوس وتمتليء القلوب بالحب وتزدهر المشاعر وتتنوع
الاحاسيس والعواطف وتتدفق ميولها بكل الاتجاهات . في هذه المرحلة يكون العمر في
اجمل ايامه لان فيها من الكبر ما يكفي لمليء الوجدان بأحساس الحياة المتدفقة فينا
, ومن عدم المسؤولية ما يبعد هموم الحياة والدنيا عن كاهلنا . قليلة سنوات هذه
المرحلة لكنها تنقش ذكرياتها على قلوبنا وتحفر تجاربها اخاديد عميقة في مخيلتنا لا
يزول اثرها على مر الحياة التي تأتي بعدها . ومع ذلك نبقى نتمنى ان تمضي بسرعة
لنبلغ مصاف الرجال ان كنا اولادا ومصاف النساء ان كنا بناتا . كانت غايتنا التي
نحلم بها في مخيلتنا من هذا الاستعجال هو بان نبلغ سن الشباب , وبالذات الرقم
الذهبي والسحري بعمر الخامسة والعشرين حيث يكون كل شيء فيه بقمته .
وبعد طول
انتظار وصبر ما بعده صبر تطل علينا ضاحكة مرحلة الشباب ويحل فينا عامها الذهبي الـ
(25) فيتجه كل شيء فينا الى اكتماله . الرجولة عنده تبلغ ذروتها , والجمال
والأنوثة فيه تصبح في غاية روعتها , والعنفوان والرغبة به تصل الى اعلى درجاتها , والشخصية
فيه تصير في قمة اكتمالها , والاشعاع والتأثير على محيطنا يصل الى اقصى درجاته . عمل
دؤوب وانجاز وعطاء وحب جارف وفرح وسعادة كلها عناوين لمرحلة الشباب , حتى يظن
المرء بانه الدنيا كلها , والدنيا كلها هي هو .
لكن سنون الشباب
وان طالت قصيرة ومحدودة , فالرحلة تمضي ولا تتوقف لنتجاوز تلك المرحلة بعد مدة وأذا
بهاجسنا العمري يصبح ارتداديا بعد ان كان استعجاليا . فما ان نبدأ بتخطي تلك
المرحلة حتى تأخذ ابصارنا بالتوجه الى الوراء وليس للامام كما دأبت قبلها , ونتمنى
العودة الى تلك المرحلة وعدم التقدم بعدها ابدا . لكن السنون تتوالى وتبدأ
بالتسارع , والتحولات والتبدلات على مظهرنا تشرع بالظهور شعرنا بها ام لم نشعر .
نعم هو العمر يبدأ بترك اثاره علينا , فالألق يأخذ بالتراجع , والبريق يأخذ
بالخفوت , وشرارة الذكاء تبدأ بالأفول وغيرها وغيرها . ومع مضي المزيد من الوقت يصبح
عدد التغيرات اكثر ودرجة سوئها تصبح اكبر . توهبنا الحياة نعمة جميلة تجعلنا لا
نلحظ ما يتغير فينا , فالشكل في المرأة يبقى هو هو في عيوننا , لكن الصور الجديدة تخبرنا
به كما يخبرنا الشخص الذي نراه بعد طول
غياب . ويدفعنا حبنا للحياة الى التفنن في اساليب اخفاء العمر , لكن الحياة تتفنن
اكثر في أظهاره وكأنها تريد ان تصرخ أمام الجميع لتعلن عنه رغما عنا . يتظاهر
البعض منا بان التقدم بالعمر لا يهمه ولا يبالي به لكن الحقيقة في الاعماق ابدا
غير هذا , فالتقدم بالعمر له غصة ومرارة وألم في اعماق النفس .
العمر في نظر
البعض منا جسر بين حياتين , وفي نظر اخرين طريق واحد بين لاوجودين . البعض منا لا
يشغله بحياته الا في اداء ما ينقله الى الحياة الاخرى التي تصبح في نظره غاية الغايات
فلا يفيد من عمره الا نفسه . بينما ينشغل البعض الاخر منا في انجاز ما يترك اثرا
في الدنيا بعده فيحقق بعمره ما يفيد نفسه ويفيد الاخرين فيفوز بالدنيا والحياة
الاخرى .
وسام الشالجي
24 حزيران
(يونيو) 2016