اخر المواضيع في المدونة

الجمعة، 24 يونيو 2016

همسة عابرة - العمر

(العمر) ... كلمة صغيرة بحروفها لكنها كبيرة في معناها وغنية بمضامينها . ألعمر بالنسبة للكثيرين هو الفترة المحصورة بين لحظة الميلاد والساعة التي نحن فيها , أو بالنسبة لمن رحلوا المدة بين يوم ميلادهم ويوم رحيلهم عن دنيانا , لكن هل هو كذلك فقط ؟ ماهو العمر بالنسبة لنا ؟ أهو رقم نعلم منه المرحلة التي نحن فيه من حياتنا من طفولة وشباب وشيخوخة , أم ورائه دلالات خفية تجسد ما تركه الانسان في هذه الدنيا ؟ تعالوا معي نتمشى قليلا في دروب العمر وندور دورة خاطفة حول مراحله المختلفة   . 

اولى مراحل العمر الطفولة , حيث اللعب والبهجة والمرح . حين كنا صغارا كان العمر بمقاديره لا يتجاوز عدد اصابع اليد لكن معانيه كانت كبيرة بنظرنا . كان مقدار العمر هاجسنا الاكبر وشغلنا الشاغل , فقد كان العيب كل العيب في ان يكون ذلك الرقم صغيرا لاحدنا , والفخر كل الفخر حين يكون كبيرا لأخر فينا .  كنا كلما نلتقي بأولاد او بنات من عمرنا الا وكان اول سؤال نوجهه لبعضنا "كم عمرك ؟" , فاذا اتانا الجواب برقم اكبر من عمرنا انزوينا بشعور من الخسران جانبا , وان جائنا الرد برقم اقل انتفخ صدرنا وانتفش ريشنا وكأننا فزنا فوزا عظيما . كم وقفنا امام بعضنا البعض لنقارن براحة يدنا من هو الاطول قامة فينا لنعلم حقيقة اينا اكبر عمرا . وكم كذبنا باجوبتنا حين نسال عن اعمارنا فنضيف مقادير اليه من عندنا , او على الاقل نجعل كسور السنة فيه اعدادا صحيحة نضيفها على رقم عمرنا لنجعله اكثر . وكم كنا نحزن ونصاب بالخيبة حين نذكر عمرنا لأحد ويقال لنا "لكنك تبدوا اصغر عمرا" فيكون هذا صفعة شديدة توجه الى خدودنا . حتى في العابنا في الصغر كان العمر محور لعبنا وكنا نختار الالعاب التي نتشبه بها بالكبار , واتحدى اي ولد لم يلعب دور الزوج , أو اي بنت لم تلعب دور الزوجة في العاب الطفولة . ومع ان تلك المرحلة هي الاجمل والاحلى الا اننا كنا نستعجل مرورها ونتمنى مغادرتها ونصبح اكبر .


ثم تلي تلك المرحلة المراهقة , حيث تتفتح النفوس وتمتليء القلوب بالحب وتزدهر المشاعر وتتنوع الاحاسيس والعواطف وتتدفق ميولها بكل الاتجاهات . في هذه المرحلة يكون العمر في اجمل ايامه لان فيها من الكبر ما يكفي لمليء الوجدان بأحساس الحياة المتدفقة فينا , ومن عدم المسؤولية ما يبعد هموم الحياة والدنيا عن كاهلنا . قليلة سنوات هذه المرحلة لكنها تنقش ذكرياتها على قلوبنا وتحفر تجاربها اخاديد عميقة في مخيلتنا لا يزول اثرها على مر الحياة التي تأتي بعدها . ومع ذلك نبقى نتمنى ان تمضي بسرعة لنبلغ مصاف الرجال ان كنا اولادا ومصاف النساء ان كنا بناتا . كانت غايتنا التي نحلم بها في مخيلتنا من هذا الاستعجال هو بان نبلغ سن الشباب , وبالذات الرقم الذهبي والسحري بعمر الخامسة والعشرين حيث يكون كل شيء فيه بقمته .


وبعد طول انتظار وصبر ما بعده صبر تطل علينا ضاحكة مرحلة الشباب ويحل فينا عامها الذهبي الـ (25) فيتجه كل شيء فينا الى اكتماله . الرجولة عنده تبلغ ذروتها , والجمال والأنوثة فيه تصبح في غاية روعتها , والعنفوان والرغبة به تصل الى اعلى درجاتها , والشخصية فيه تصير في قمة اكتمالها , والاشعاع والتأثير على محيطنا يصل الى اقصى درجاته . عمل دؤوب وانجاز وعطاء وحب جارف وفرح وسعادة كلها عناوين لمرحلة الشباب , حتى يظن المرء بانه الدنيا كلها , والدنيا كلها هي هو .


لكن سنون الشباب وان طالت قصيرة ومحدودة , فالرحلة تمضي ولا تتوقف لنتجاوز تلك المرحلة بعد مدة وأذا بهاجسنا العمري يصبح ارتداديا بعد ان كان استعجاليا . فما ان نبدأ بتخطي تلك المرحلة حتى تأخذ ابصارنا بالتوجه الى الوراء وليس للامام كما دأبت قبلها , ونتمنى العودة الى تلك المرحلة وعدم التقدم بعدها ابدا . لكن السنون تتوالى وتبدأ بالتسارع , والتحولات والتبدلات على مظهرنا تشرع بالظهور شعرنا بها ام لم نشعر . نعم هو العمر يبدأ بترك اثاره علينا , فالألق يأخذ بالتراجع , والبريق يأخذ بالخفوت , وشرارة الذكاء تبدأ بالأفول وغيرها وغيرها . ومع مضي المزيد من الوقت يصبح عدد التغيرات اكثر ودرجة سوئها تصبح اكبر . توهبنا الحياة نعمة جميلة تجعلنا لا نلحظ ما يتغير فينا , فالشكل في المرأة يبقى هو هو في عيوننا , لكن الصور الجديدة تخبرنا به  كما يخبرنا الشخص الذي نراه بعد طول غياب . ويدفعنا حبنا للحياة الى التفنن في اساليب اخفاء العمر , لكن الحياة تتفنن اكثر في أظهاره وكأنها تريد ان تصرخ أمام الجميع لتعلن عنه رغما عنا . يتظاهر البعض منا بان التقدم بالعمر لا يهمه ولا يبالي به لكن الحقيقة في الاعماق ابدا غير هذا , فالتقدم بالعمر له غصة ومرارة وألم في اعماق النفس .  


العمر في نظر البعض منا جسر بين حياتين , وفي نظر اخرين طريق واحد بين لاوجودين . البعض منا لا يشغله بحياته الا في اداء ما ينقله الى الحياة الاخرى التي تصبح في نظره غاية الغايات فلا يفيد من عمره الا نفسه . بينما ينشغل البعض الاخر منا في انجاز ما يترك اثرا في الدنيا بعده فيحقق بعمره ما يفيد نفسه ويفيد الاخرين فيفوز بالدنيا والحياة الاخرى .

وسام الشالجي
24 حزيران (يونيو) 2016