بقلم
وسام الشالجي
تطل علينا هذه الايام الذكرى
الثامنة والخمسون لحركة 14 تموز التي انهت الحكم الملكي بالعراق بعد حوالي 37 سنة
من تأسيسه . وبهذه المناسبة لا يسعنا الا ان ندعوا بالرحمة لشهداء النظام الملكي
الذين قضوا بسببها وعلى رأسهم جلالة الملك فيصل الثاني المعظم وجميع افراد عائلته
من رجال ونساء . كتب الكثير عن تلك الحركة واسبابها والتي ركزت بالذات على العوامل
الداخلية والخارجية التي أدت الى وقوعها لكن لم يكتب الا القليل عن الاسباب
الذاتية التي تكمن في العائلة المالكة نفسها والتي كان لها دور كبير في وقوع
الحركة وربما حتى في نجاحها . سنقوم بهذا المقال بتسليط بعض الضوء على شخصية
الامير عبد الاله ولي العهد في وقتها والبحث في بواطن الامور واجراء بعض التحليلات
التي يمكن ان توصلنا الى تساؤل ربما يغفل عنه الكثيرون وهو: "هل كان للأمير
عبد الاله يد خفية ساعدت في نجاح حركة 14 تموز بالعراق؟" .
تولى الامير عبد الاله الوصاية
على العرش في 4 نيسان عام 1939 أثر الشهادة التي قدمتها شقيقته الملكة عالية والتي
أدعت فيها بانها سمعت لمرات عديدة من زوجها الراحل الملك غازي بانه يريد من عبد
الأله بأن يكون وصيا على العرش اذا توفي قبل ان يبلغ ابنه ولي العهد الامير فيصل
سن الرشد . كان هناك اكثر من مرشح لشغل هذا المنصب اضافة الى الأمير عبد الاله وهم
الامير عبد الله أمير أمارة شرق الاردن بوقتها والذي كان يطمح من الاصل في ان يصبح
ملكا على العراق بدلا من اخيه الملك فيصل الاول , والأمير زيد بن الحسين شقيق
الملك فيصل الاول الذي كان معروفا بميوله الى المانيا وكرهه لبريطانيا . في الواقع
كان هذا الموقف طبيعيا من الملكة عالية لان عبد الأله هو شقيقها على عكس المرشحين
الاخرين لهذا المنصب , لذلك ليس من المستبعد بان يمون ادعائها الذي شهدت به امام
البرلمان كان مختلقا , خصوصا وان الملك غازي كان معروفا بكرهه للأمير عبد الاله . كانت
الملكة عالية تريد ان تضمن من تولي شقيقها الوصاية على العرش بان يبقى نفوذها
كملكة على حاله , اضافة الى رغبتها بأن لا يأتي الى الحكم شخص يمكن ان يعيد ترتيب
الاوضاع بحيث يخرج الحكم من سلالتي الملك فيصل الاول والملك علي بن الحسين .
تولي الامير عبد الاله الوصاية على عرش العراق
كان الامير عبد الاله قبل
توليه الوصاية يرفض اكتساب الجنسية العراقية على عكس بقية افراد اسرته وظل محتفظا
بجنسيته أملا منه بان تعيد بريطانيا اليه عرش مملكة الحجاز والذي كان ولي عهد عرشها
قبل ان يسيطر الملك عبد العزيز أل سعود عليها عام 1925 ويضمها الى مملكة نجد تحت
أسم المملكة العربية السعودية . لكن بعد ان عرض عليه منصب الوصي على عرش العراق اصبح
ينظر للأمر على أساس ان عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة . وحيث ان الدستور
العراقي لا يجيز ان يتولى اي شخص عرش العراق او الوصاية على عرشه مالم يكون حاصلا
على الجنسية العراقية فقد اصدر وزير الداخلية العراقي ناجي شوكت قرارا بمنحه
الجنسية العراقية بعد ان تقدم عبد الأله بطلب للحصول عليها , وبهذا اكتملت كل شروط
تنصيبه وصيا على عرش العراق .
يمكن القول بان تولي الامير
عبد الاله الوصاية على عرش العراق هو اكبر سوء حظ اصاب الدولة العراقية بتاريخها
الحديث وكذلك حظ العائلة المالكة بالعراق , فقد كان الناس لا يحبونه على عكس الملك
فيصل الاول والملك غازي الاول . كان الامير عبد الاله مواليا لبريطانيا الى ابعد
الحدود وسباقا لتلبية مطالبها وضمان مصالحها دون وضع اي اعتبار لمصلحة العراق .
وقد كانت حركة مايس عام 1941 اول رد فعل عراقي كبير على سياسته بهذا المضمار , لهذا
فقد سارعت بريطانيا بكل قواها الى افشال تلك الحركة واعادة الامير عبد الأله الى
الوصاية على عرش العراق بعد ان تم خلعه وتنصيب الأمير زيد بدلا منه . وخلال سنوات
حكمه ابرم الامير عبد الأله العديد من الاتفاقيات الجائرة مع بريطانيا والتي ادت
الى اندلاع عدة انتفاضات في العراق . وعدا كل هذا فان الامير عبد
الاله اساء عن عمد في تربية الملك فيصل الثاني الى درجة كبيرة , وبالذات في جعله
معتمدا عليه بكل صغيرة وكبيرة . وخلال السنوات الخمسة التي تولي الملك فيصل الثاني فيها عرش العراق لم
يشاهد الملك وحده قط بل كان على الدوام بصحبة خاله . كم من المرات طلب الباشا نوري
السعيد من الامير عبد الاله بان يترك الملك فيصل الثاني يتولى سلطاته الدستورية كملك
بشكل فعلي ومستقل وان يدعه يؤسس هيئاته بنفسه ويختار مستشاريه بنفسه ومن دون اي تدخل
. كان الباشا يعلم بان الملك فيصل الثاني قد صار ملك صوري وان الامور كلها كانت
تدار من قبل خاله الامير عبد الاله .
صورة توضح كيف كان يرجع الجميع الى الوصي بكل شؤون الدولة
لم يكن هذا الامر بغريب ,
خصوصا على شخصية مثل شخصية الامير عبد الاله الذي تذوق طعم السلطة والحكم وظل
لحوالي 15 سنة الرجل الاول بالدولة , لذلك فان ازاحته عن المسؤولية وسحب السلطات
من يده لم يكن بالأمر السهل . لذلك حرص عبد الاله بان لا يدع الملك فيصل الثاني
طليقا وان يبقيه مقيدا وتحت هيمنته , وان لا يتيح له فرص الاندماج بالمجتمع
ومعاشرة المواطنين خشية ان تفلت الامور من يده ويفقد زمام السيطرة على مقاليد
الحكم . لذلك فقد جعل خيوط الحكم والسلطة تنتهي عنده حتى وان كان رسميا هو الرجل
الثاني بالدولة وليس الاول . كان هذا سببا اضافيا لزيادة كره الناس له وزيادة
حقدهم عليه حتى انهم ايقنوا بالأخر بانه لا خلاص للعراق من تسلطه وهيمنته الا
بزوال النظام الملكي برمته .
كتب الملك حسين ملك الاردن في
كتابه (مهنتي كملك) الكثير من الذكريات عن ما شاهده من سوء معاملة الامير عبد
الاله لابن اخته الملك فيصل الثاني حين كان طفلا وبعد ان كبر وعدم رعايته له كما
ينبغي , وقال بانه شاهده حتى يضربه في بعض
الاحيان . لم يكن من السهل تصديق مثل هذا الكلام بالسابق , لكن خلال السنوات
الماضية نشر الكثير من الكتب والمقالات عن الحكم الملكي بالعراق وضخ الى شبكة
معلومات الانترنت كم هائل من الصور التي لم يكن من الممكن رؤيتها بالماضي مما اصبح
يدفع الى تصديق كل ما كتبه الملك حسين عن هذا الموضوع , خصوصا وان لا مصلحة للملك
حسين في ادعاء اشياء لا غاية له فيها بعد مرور عقود على زوال الحكم الملكي بالعراق
. لقد وضع هذا دلالات قوية بان الملك فيصل الثاني قد اسيئت معاملته من قبل خاله
حين كان صغيرا وانه ربي عن عمد في ان ينشأ مهزوزا ومعتمدا وضعيف الشخصية وغير قادر
على ان يتخذ اي قرار بنفسه , وان هذا كان كله لضمان بقاء الامير عبد الاله الرجل
الاول بالدولة حتى وان كان ذلك بشكل غير مباشر .
غير ان الامور اخذت تتجه مطلع
عام 1958باتجاه لاينسجم مع رغبات الامير عبد الاله وتطلعاته , ففي شباط من ذلك العام
أعلن عن قيام الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن , وقد اصبح رئيس الاتحاد الملك
فيصل الثاني ونائبه الملك حسين . كان الامير عبد الاله يعرف من هو الملك حسين
ويعرف بانه شخص لا يقاد بسهولة , بل هو شخص عنيد وقوي وذو شخصية قوية ومؤثرة يمكن
ان تهيمن على معيته وحتى على شخصية الامير عبد الاله . من جهة اخرى خطب الملك فيصل
الثاني في نفس ذلك العام الاميرة التركية فاضلة وهي حفيدة الامير عمر فاروق ابن السلطان العثماني عبد المجيد الثاني .
كانت هذه الخطوة هي الضربة القاتلة بالنسبة للامير عبد الاله لانه ادرك بان دخول هذه
الأميرة على العائلة والتي ستتولى موقع ملكة العراق سيؤذيه في ناحيتين , اولاهما
هي انها يمكن ان تصبح هي الموجه لزوجها الملك في السياسة وادارة الدولة بدلا منه ,
ولن يستبعد بان تطلب منه ان يحد من سلطات خاله المفرطة وان يتولى تدريجيا قيادة
الدولة بنفسه . الامر الثاني هو ان ولادة اي طفل للملك فيصل الثاني سينقل ولاية
العهد بشكل طبيعي الى المولود الجديد , وبذلك سيفقد بالاضافة الى سلطاته أمله بان
يتولى عرش العراق في يوم من الايام . لذلك تؤكد الكثير من المصادر بان الامير عبد
الاله اصبح كثير الاكتئاب في الاشهر الاخيرة من حياته , وكثيرا ما كانت تبدوا عليه
علامات اليأس وكان يكثر من التدخين وحتى معاقرة الخمرة .
خطوبة الملك فيصل الثاني على الاميرة فاضلة
لم تكن حركة 14 تموز عام 1958 حركة غير مكشوفة , بل حتى
الملك حسين في الاردن علم بها وقد ارسل بتحذيراته الى ابن عمه الملك فيصل في بغداد
من خلال رئيس اركان الجيش رفيق عارف الذي كان بزيارة للاردن بوقتها , غير ان هذا الاخير
لم يبلغ الملك بذلك بل اكتفى بقناعته التي ابلغها للملك حسين بوقتها حين قال له (دار
السيد مأمونة) . كما ان اجهزة الامن والاستخبارات العراقية هي الاخرى احست بالحركة
وكانت تعرف عن يقين من خلال عملائها بان حركة انقلابية ستحدث في يوم 14 تموز 1958
عند مرور لواء المشاة العشرين في بغداد بطريقه الى الاردن . وقبل تنفيذ الحركة قام
كل من الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف بأبلاغ قيادات الحزب
الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي للاستعداد لتأييد الحركة عند قيامها
ودعمها بكل ما يستطيعون من قوة . لذلك كن من السهل ان تستشعر مديرية الامن العام
بمثل هذه التحركات , وقد تم تبليغ الامير عبد الاله بكل تفاصيل المعلومات الواردة
اليها عشية وقوع الحركة من خلال تقرير ارسله مدير الامن العام بهجت العطية الى
الامير . غير ان الامير عبد الاله لم يتخذ اي موقف مضاد او احترازي على عكس مواقفه
السابقة بمثل هذه الحالات حين كان وصيا على العرش , بل هو لم يبلغ حتى الملك بهذا
التحذير . تشير معظم المصادر بان الامير عبد الاله بعد ان استلم رسالة مدير الامن
العام غادر العرض السينمائي الذي كانت تشاهده العائلة المالكة العراقية في قصر
الزهور مساء يوم 13 تموز 1958 ولم يعد الى قصر الرحاب الا بساعة متأخرة من الليل .
ان من المرجح بان الامير عبد الاله قد ذهب للقاء السفير البريطاني في بغداد
ليستطلع منه حقيقة الموقف ويسأله عن المعلومات التي وصلته بان هناك محاولة انقلابية
ستقوم باليوم التالي . كان هذا أت من خلال ثقة عبد الاله التامة بان بريطانيا تعرف
كل شيء يحدث او يمكن ان يحدث بالعراق . لم يعد من الخفي بان بريطانيا كانت تعرف
فعلا بالحركة وانها كانت راغبة بانهاء الحكم الملكي في العراق بعد ان خرج عن
الطريق المرسوم له , خصوصا اثر قيام الاتحاد الهاشمي بين الاردن والعراق . بل انها
على الاغلب كانت على اتصال مباشر بالزعيم عبد الكريم قاسم وقد ابلغته بانها لن
تتخذ اي موقف مضاد شريطة ان لا تكون الثورة ذات ميول شيوعية وان لا تطالب بالكويت
كما كان الباشا نوري سعيد يفعل في الأونة الاخيرة وان ينسحب العراق من الاتحاد
الهاشمي . لذلك فليس من المستبعد بان السفير البريطاني قد ابلغ عبد الاله بان هناك
حركة انقلابية ستحصل فعلا بالعراق وانها حركة قوية يقوم بها الجيش وان لا مجال
لمقاومتها ونصحه بان يقنع الملك والعائلة المالكة العراقية بمغادرة العراق وان
بريطانيا ستوفر ملاذ أمن لهم على اراضيها . قد يسأل سائل وما مصلحة بريطانيا من كل
هذا , والجواب يمكن في عدة أمور . اولى تلك هي قيام الاتحاد الهاشمي مما جعل من العراق
والاردن قوة كبيرة يمكن ان تهدد أمن اسرائيل او مصالح بريطانيا في المنطقة . السبب
الثاني هو ان بريطانيا قد ضاقت ذرعا بأصرار الباشا نوري سعيد على اعادة الكويت الى
العراق او على الاقل بضمها الى الاتحاد الهاشمي . كما
ان العراق بدأ يخطوا بقيادة الباشا نوري السعيد خطوات حثيثة باتجاه الخروج
من دائرة النفوذ الاستعماري البريطاني والتوجه نحو الدخول تحت ظل الخيمة
الامريكية وهو أمر لم يعجب البريطانيين مما جعلهم يفكرون بالتخلص من النظام
الملكي لابقاء العراق تحت هيمنتهم . بالأضافة الى كل هذا فأن اقدام الملك فيصل على
الزواج من اميرة تركية هي حفيدة للسلطان العثماني يمكن أن يحي احتمالات المناداة
بأحياء الخلافة الاسلامية من جديد والتي أنهتها بريطانيا سابقا بواسطة الرئيس
التركي كمال اتاتورك الذي الغى الخلافة العثمانية , ووأدتها حين اعلن الشريف حسين ملك الحجاز نفسه
خليفة لكافة المسلمين في العالم . لذلك فان الامير عبد الاله ومن مبدأ (انا ومن
بعدي الطوفان) قد قرر ان لا يقاوم اي حركة تغيير تجري وان يسمح بوقوعها ونجاحها .
لذلك فقد كان قوله للملك فيصل الثاني وأمر سرية الحرس الملكي العقيد طه البامرني بعد
سماعهم للبيان الاول للحركة من الراديو (اذا كانوا لا يريدوننا فلنغادر البلد) ,
وقد قام الملك فيصل الثاني نفسه بترديد نفس هذا الكلام حين دخل عليه الانقلابيين
الى القصر . الخطأ الكبير الذي وقع فيه الامير عبد الاله هو انه ظن بان السيناريو
المحتمل الحدوث هو نفس ما حصل في مصر عند اقصاء الملك فاروق عن الحكم عام 1952 ولم
يتوقع ابدا بان تتخلص الحركة الجديدة منه او من الملك . ان هذا يدلل على ان الامير
عبد الاله لم يكن يعرف طبيعة الشعب العراقي ولا تقدير ردود افعاله والتي تختلف
كليا عن افعال الشعب المصري , وبذلك وقع في الخطأ القاتل الذي اودى بحياته وحياة
من معه .
من كل ما تقدم يبدوا واضحا بان الامير عبد الاله كان
سبب رئيسي في زوال الحكم الملكي في العراق من خلال عدم اتخاذه لاي اجراء يمنع حصول
حركة 14 تموز 1958 ,
وربما حتى رغبته بحصولها فعلا . كما انه كان نتيجة لهذا السبب في مقتل الملك فيصل
الثاني ومقتله مع كل افراد العائلة المالكة العراقية . في الحقيقة هناك امر اخر لا
ينبغي اغفاله ايضا يمكن ان يكون واضحا امام أي متتبع وهي ان عائلة الملك علي بن
الحسين - ملك الحجاز تحمل بين ضلوعها نحس كبير جلبته معها حين سكنت العراق ونقلته
الى عائلة الملك فيصل الاول وذريته من بعده حين ارتبطت بهم . فقد قتل الملك فيصل
الاول بعد ان اسكن اخيه الملك علي بن الحسين معه في العراق ونصبه نائبا له . وقد
قتل الملك غازي الاول بعد ان تزوج من الملكة عالية بنت الملك علي بعد مدة وجيزة .
واخيرا امتد النحس ليطال الملك فيصل الثاني ابن الملكة عالية وكل من تبقى من
العائلتين بما فيهم الامير عبد الاله وامه الملكة نفيسة وشقيقته الملكة عابدبة .
رحم الله ملكنا الشهيد الملك فيصل الثاني الذي لم يكن له ذنب في هذه الحياة ولا يد
في كل هذا الظلم الذي وقع عليه .
وسام الشالجي
14 تموز 2016