حين فتحت عيني على هذه الدنيا كنت اسمع كلمات
ولهجة تحدث لم اعد اسمعها بأيامنا هذه , تلك كانت لهجتنا البغدادية التي كان الناس
في مدينة بغداد العريقة يتحدثون بها والتي اندثرت تقريبا الان . فحين اصبحت ابن
الرابعة او الخامسة وصرت بعمر استطيع فيه ان اخرج الى عتبة الدار كنت اسمع من
ينادي عليَ من داخل البيت ليقول لي (لا تطلع من الحوش وتلعب بالجادة اكو سيارات) .
وحين كبرت اكثر واصبحت اذهب لبيت جدي وأبات عندهم كل خميس وجمعة كانت المرحومة
بيبيتي تفرح كثيرا لمجيئي , ليس لانها تحبني وتريد رؤيتي بل لأنها ستجد من هو على
(كد أيديها) حتى (تصخْره) . كانت صُخٌر بيبيتي لا تنتهي , فما ان تراني حتى تبدأ
بأول صخرها بطلب شربة ماء مني وهي تقول (روح جيبلي شوية مَي بالبرداغ) . بعد ذلك
تتوالى صخرها المتنوعة , فتارة تقول لي (روح طفي الأوجاخ) , وتارة اخرى تقول (روح
اشعل اللمبة وحط عليها الكتلي) . كما انها لم تكن تتردد في ان تدزني خارج البيت في
بعض صخراتها مثل (روح للعطار وكله الحجية تسلم عليك وتريد لفة جكاير مزبن ترس
الصدر) وكانت كلمة ترس الصدر علامة على نوعية معينة من السكائر , او تقول لي (روح
للبكال وجيبلنا نص درزن برتقال) . وفي الظهيرة تتمدد على جودلية بالهول لأخذ
قيلولة صغيرة تطلب مني قبلها ان اقف على ظهرها وهي تقول (تعال شوية دوسلي جتافاتي)
. وفي العصر كانت تطلب مني ان ارش الحديقة قائلة (روح للبقجة شوية رش الياس) . وحين
يحل الصباح توقظني مبكرا من النوم وهي تقول (يزي عاد نوم مو صار الضحى) .
كثير من الكلمات التي كانت شائعة باللهجة
البغدادية اختفت بسبب تغير استخداماتها كما هو الحال بالنسبة للمقاييس . فقد كانت
الكثير من الاشياء تباع بالعدد , وكان القياس الشائع في عدها هو الدرزن (اي 12) او
نص درزن . كما كان للوزن وحدات قياس غير موجودة الان مثل (ست دراهم , اوكية , حكة)
. اما للطول فكان يستعمل عادة (الضراع) والياردة كما هو الحال عند بيع الاقمشة . كما
كان الناس يتداولون جمل لم تعد مستعملة في عالم اليوم مثل (رح انزل البغداد
بالأمانة) , حيث الامانة هي باص مصلحة نقل الركاب التي اختفى حتى اسمها في عصرنا
الراهن . وكان المقطع (جي) يضاف الى الكثير من الكلمات للدلالة على تسميات حرف لم
تعد موجودة في يومنا هذا , فمثلا كان الناس يأخذون ملابسهم الى (الأوتجي) حتى
ينظفها ويضربها أوتي . وعلى نفس المنوال كانت هناك مهن اخرى اختفت ايضا مثل
العربنجي , عرضحلجي , بوسطجي . كهوجي , مغازةجي , دمبكجي , كرخنجي , عبايجي , ولن انسى
طبعا لقبي (شالجي) الاتي من مهنة بيع الشال . كما كان يضاف المقطع (جي) ايضا الى
بعض الكلمات لتصبح صفات تطلق على بعض الناس مثل عركجي , قمرجي , ريسزجي , نسونجي ,
قجقجي , مبيضجي . ومن المهن القديمة التي كانت تطلق عليها اسماء خاصة باللهجة البغدادية
والتي اندثر معظمها الان الجراخ , الرواف , النزاح وغيرها .
كانت اللهجة البغدادية فريدة ولها بصمة خاصة
تميزها عن معظم لهجات بقية المحافظات العراقية , فمثلا لا تحتوي اي لهجة عراقية
على طريقة سلام يقول فيها المرء لمن يلتقيه (هلو ضلع) التي كانت تستعمل بكثرة
قديما في بغداد . ولا اظن ان هناك لهجة اخرى تستعمل كلمة (الكبد) للدلالة على
الابن , أو لفظة (سجينة الخاصرة) للدلالة على من يعوق القيام بعمل ما كما هو موجود
باللهجة البغدادية . ومن الالفاظ البغدادية المميزة لفظة (عالي الجناب) التي كانت تطلق
على اي شيء جميل ومتكامل الصفات . ومن الملفت ان الكثير من الكلمات التي كانت
موجودة باللهجة البغدادية كانت كلمات ذات اصول اجنبية هي على الاغلب تركية وفارسية
وانكليزية , ويعود السبب بهذا الى احتلالات هذه الدول لمدينة بغداد . غير ان الحال
تغير تدريجيا واختفت تلك الكلمات من قاموس المتحدثين في بغداد وحل محلها كلمات
اخرى قسم منها تعرب مع تطور اللهجة , وقسم اخر منها غريب نزح من مناطق اخرى بسبب
التغيرات الديموغرافية التي طرأت على هذه المدينة . وكانت النتيجة اليوم هو ان
اللهجة البغدادية القديمة اختفت تقريبا من الوجود واصبحت لا تسمع الا في كلمات
الاغاني القديمة , او بأبيات الاشعار الشعبية لشعراء بغداديين قدماء مثل الملا
عبود الكرخي .
وسام الشالجي
10 تشرين الاول (اكتوبر) 2015