حين نشأنا في هذه الدنيا وعشنا فيها منذ
صغرنا كان الدين مفردة بسيطة في حياة الانسان وقد دخل الى نفوسنا بشكل مبكر
بأنسيابية وسلاسة من دون اي صعوبة . لقد تربينا وفهمنا الدين على انه ليس غير الايمان
بالله تعالى وفعل الخير والابتعاد عن فعل الشر . كان الخير حسب ما دخل الى عقولنا الصغيرة
هو طاعة الله من خلال الصلاة والصيام وحفظ بعض الأيات القرأنية وتطبيق الارشادات
الدينية التي تأمر بقول الصدق وحب الوالدين واحترام الكبير وبعض الاشياء الاخرى .
اما الافعال الشريرة التي أمرنا بالابتعاد عنها فكانت الكفر بالله وعصيانه وعدم اداء
فرائضه والكذب والسرقة والغيبة واشياء اخرى تتناسب مع استيعاب عقولنا الصغيرة . كما
كان لله سبحانه حسب ما صور لنا هو القادر العظيم ذو القلب الكبير الممتليء بالرحمة
وحب الخلق والعباد والمستعد دوما للصفح والمغفرة حين يلجأ اليه الانسان ويعود اليه
في اي وقت من الاوقات . أما الجنة فكانت كما فهمناها هي المكافأة التي سينالها
المرء اذا سار مستقيما بهذه الحياة ملتزما بالمباديء التي جاءت بها الاديان , في
حين أن النار هي من نصيب الكافر العاصي الغير مؤمن والمملوء بالشر والسوء . كان
هذا كافيا لأن يدخل الأيمان والقناعة الى قلوبنا , لذلك لم تتعب عقولنا ولم نشك
بما قيل لنا ولم تتسل الريبة الى قلوبنا ورضيت انفسنا بما أمنا به .
ثم كبرنا قليلا وتطورت نظراتنا للخير والشر
فدخلت عليهما مفردات جديدة اكثر تعقيدا , لكن ظل الدين في نظرنا بسيطا وسهلا وليس
هناك صعوبة ابدا من الالتزام بطقوسه وعمل واجباته , وظل الله تعالى بنظرنا هو نفسه
الذي عرفناه منذ صغرنا من دون ان يتغير ابدا . وكما كان الدين هو وسيلة لنيل الفوز
بالأخرة فقد وجدناه لا يشغل الانسان عن دنياه او يؤخره في سعيه للتطور وبناء حياته
والعيش بين افراد المجتمع بشكل ايجابي . وفي نفس الوقت لم يكن غير المتدين البعيد
عن الله سيئا او مكروها من قبل افراد المجتمع بل كان ينظر اليه على انه مجرد شخص متأخر
عن اداء بعض واجباته وانه لابد وان يعود الى ربه وتتطهر نفسه في يوم من الايام ويؤديها
وسيسامحه الله حتما عن ما فاته . من جهة اخرى لم يكن المتدين شخصا غريبا عن
المجتمع او له حياة مختلفة او له شكل أو هندام مختلف , بل كان شخصا عاديا لا يختلف
باي شيء عن الناس الذين يعيش معهم . لم يدفعنا احد أبدا الى تكفير شخص اخر مهما
كان دينه او مذهبه , لذلك عشنا في المجتمع متحابين واخوة , نحب الحياة ونقبل عليها
, لا تفرقنا الطوائف المتباينة ولا الاديان المختلفة , بل أكاد اقول بصدق باننا
عشنا فترات طويلة من اعمارنا دون ان نعرف طائفة وربما حتى دين بعض اصدقائنا اذا لم
يظهر ذلك جليا من الاسم .
ثم مر العمر بنا اكثر واذا بكل شيء يتغير
فجأة , واذا بالناس يتخاصمون حول ابسط القواعد الدينية , واذا بالتعصب الديني يتسلل
بقوة الى النفوس , واذا بالتزمت في المعتقدات يصبح هو السائد حتى صار دين المرء او
مذهبه سببا للفرقة عن الجماعة , وتحول المجتمع الى فرق متضادة ومتناحرة . وبشكل
سريع اختفت المفاهيم القديمة وتغير الدين وتعقد ودخلت عليه مئات المفردات الجديدة
, واذا بالطائفة والمذهب تصبح فوقه وحتى أهم منه , وتحولت الطقوس الى ميادين للنزاع الفكري . ثم
راح هذا الاختلاف يتطور بسرعة رهيبة وانتقل من التنازع في المفاهيم الى التصارع
والاحتراب ثم الاقتال اخيرا . ليس هذا فقط بل صار عدم القبول بالأخر هو السائد واندلعت
اعمال العنف والتصفية واصبحت الاسماء او مناطق السكن وسيلة للكشف عن فرق الناس من
اجل تصفيتهم . وتغيرت صورة الخالق عز وجل وفقد صفات الرحمة والمغفرة التي اتصف بها
وراحت كل فرقة تدعي بأنه الى جانبها محولة أياه الى مقاتل شرس يرفع رايات القتل امام
جماعته ويدعوا اصحابه صراحة لقتل من يختلفون معهم فأخذ الناس يتقاتلون بشراسة
ويصفون بعضهم البعض مدعين بان الله هو الذي يأمرهم بذلك . ومع كل هذا العنف
والقسوة والاكراه على الايمان بالمعتقدات المتضادة ضاع الايمان وتشتت , وصار الشك
بالدين ومفاهيمه على اعلى درجاته وفقد معظم الناس قناعاتهم القديمة بعد ان تحولت الاديان
والمذاهب الى مهازل تنفر منها النفوس . كما اختفت الطمأنينة من القلوب واخذ الناس
يفرون من اوطانهم , وصاروا يبحثون عن اي شيء او وسيلة تعيد الايمان والقناعة الى عقولهم
.
لم يسأل احد نفسه لماذا صرنا هكذا ولماذا
فقدت الامور أسسها القديمة ولماذا اصبح الدين معضلة في حياة الانسان قد تجره الى
حتفه . ولم يجهد المرء نفسه بالتفكير في من وراء كل هذا ولماذا صرنا هكذا . حين
تحدث جريمة ما فان اول شيء يفعله المحقق هو بالبحث عن المستفيد من حصول الجريمة , فيا
ترى فهل فكر احد عن من هو المستفيد من كل هذا . لن استرسل اكثر , بل ساكتفي بهذا
السؤال لاوجهه لكل عاقل في نهاية خاطرتي هذه .
وسام الشالجي
8 تشرين ثاني (نوفمبر) 2015