اخر المواضيع في المدونة

السبت، 8 أغسطس 2015

خواطر بالاسود والابيض - روحات السينما

منذ ان نشأنا بهذه الحياة كان للسينما مكانة كبيرة بحياتنا , فقد كانت السينما تمثل سهرة مختلفة عن كل السهرات التي تمر بحياتنا اليومية الاعتيادية , فمناسبتها متميزة بحدثها وذهابنا اليها كان له وقع وتأثير يبقى لايام بمخيلتنا . كنا حين نقرر الذهاب الى السينما نستعد لذلك بوقت مبكر , وكنا نرتدي له اجمل ملابسنا ونقضي اوقاتها بمنتهى الاستمتاع . وقد كان لروحات السينما اشكال مختلفة في حياتي شخصيا , فبمراحل عمري المبكرة كنت اعيش بالبصرة وقد كان هناك شكلين من هذه الروحات , الاول هو بالذهاب الى السينمات العامة التي كانت بالعشار في وقتها مثل سينمات الرشيد والوطني والحمراء والكرنك . وكنا نتعرف على الافلام الجديدة الواردة لهذه السينمات من خلال الاعلانات التي تلصق على الجدران والاعمدة او من خلال مانشيتات تحملها فرق راجلة تدور باسواق المدينة يتقدمها رجل يصيح باعلى صوته معطيا فكرة عن الفلم المعروض وابطاله , وفي كثير من الاحيان كنا نعرف مقدما ما سيعرض من افلام من خلال المقدمات التي تسبق عرض اي فلم . وحين كان يشدنا فلم معين كنا نتصل بالسينما التي تعرضه من خلال الهاتف ونطلب حجز (لوج) باسم والدي عادة . كان هناك دوران رئيسيان , الاول يبدأ في السابعة مساءا والثاني الذي يبدأ بالتاسعة والنصف ليلا , وكنا عادة نحجز على الدور الاول . كنا نذهب بسيارتنا , وحين نصل الى دار السينما اذهب انا الى غرفة الادارة لاخذ بطاقة اللوج الذي يتألف عادة من اربعة كراسي وأدفع الثمن الذي كان بسعر 360 فلس . وحين ندخل الى قاعة السينما كان هناك شخص يحمل لايت يأخذ منا البطاقة ثم يرشدنا الى اللوج المخصص لنا . كانت اللوجات تقع اما في مقدمة الطابق الثاني حيث مقاعد الدرجة (أ) او في المؤخرة , وكانت تشغل على الاغلب من قبل العوائل . يبدأ الفلم عادة بعرض الاعلانات والمقدمات تليها فترة استراحة لمدة ربع ساعة لتناول المرطبات او الذهاب للمرافق يبدأ بعدها الفلم . كان العرض ممتعا وكثيرا ما يتخلله صفير او صرخات تعبيرية خصوصا حين يظهر مشهد (قبلة) او انتصار بطل الفلم الذي يسمى (الولد) بمعركة معينة . وحين ينتهي الفلم كان الناس يغادرون القاعة بكل ادب وانتظام , وكنا على الاغلب نغادر بعد ذهاب الزحام لنعود الى البيت لنبقى نتحدث عن الفلم لايام عديدة بعدها . كان كل شيء راقيا وجميع التصرفات المقابلة تدل على الاحترام والتربية العالية التي يتمتع بها الناس , لذلك لم يكن هناك شيء يحول من ذهاب العوائل الى دور السينما , وكثيرا ما كنا نذهب حتى من دون والدي مما يدلل على مدى الامان والاستقرار .
الشكل الثاني من روحات السينما بالبصرة كان بذهابنا الى نادي شركة نفط البصرة بالعشار القريب من الكورنيش والذي كان يعرض افلام سينمائية كل اثنين وخميس من كل اسبوع . كان والدي ياخذنا الى النادي لمشاهدة السينما بالنادي بانتظام , خصوصا في الفترة التي سبقت وصول تلفزيون الكويت الى البصرة اواسط الستينات . كانت قاعة النادي صغيرة وتعرض الفلم بدورين , الاول بالسابعة والثاني بالتاسعة والنصف , وكنا طبعا نذهب الى الدور الاول حتى لا نتأخر بالليل اضافة الى كون الدور الثاني لا يسمح فيه باصطحاب الاطفال . كان النادي يعرض اجمل الافلام والتي لازال الكثير منها مطبوع بخيالي لحد اليوم . وكان عمال النادي يدورون بين الحاضرين ليقدموا لهم ما يطلبونه من زجاجات البيبسي او الكوكا مع الجبس او البطاطا المقلية وغيرها , وكنت انا اطلب البطاطا المقلية مع البيبسي الذي افضله لأنه اكبر من بطل الكوكا الصغير  . كنا لا ندفع شيئا لان العامل يحاسب والدي على ما طلبناه بعد انتهاء الفلم .
وبعد انتقالنا الى بغداد اصبح الذهاب الى السينما مختلفا بسبب تغير نمط الحياة الذي اعتدنا على عيشه بالبصرة . توقفت الروحات العائلية للسينما لبعد دور السينمات عن دارنا ولعدم وجود نادي نذهب اليه . ولاني كنت اذهب كثيرا الى الاعظمية حيث بيت جدي وبيت عمي وبقية اقربائي فقد اصبحت اذهب على الاكثر الى سينما الاعظمية بصحبة ابناء عمي .  كانت سينما الاعظمية رديئة بذلك الوقت قياسا بغيرها من السينمات لكنها كانت مناسبة بالنسبة لنا ولامكانياتنا كصبية صغار . كنا نذهب عادة بأبو الاربعين فلس حيث المقاعد عبارة عن مسطبات كبيرة متحركة تقع مباشرة تحت شاشة العرض التي هي قطعة كبيرة بيضاء متدلية من الاعلى ومحاطة باطار اسود , ولا ازال لحد الان اتذكر بانه كان عليها بقعة كبيرة بزاويتها اليسرى السفلى وكأن بطل بيبسي قد سكب عليها . وحين يكون عندنا نقود اكثر كنا ندخل بالدرجة (ب) التي تقع بالطابق الارضي لكن الى الخلف ومقاعدها منفردة ومن الاسفنج وبسعر 70 فلس . وفي احسن الحالات كنا نحجز بالدرجة (أ) التي سعرها 90 فلس والتي تقع بالطابق الثاني مع اللوجات . وفي اواخر الستينات تم تجديد سينما الاعظمية وجرى تحديثها بعد ان تملكها نفس الشخص الذي كان يملك سينما غرناطة التي كانت تسمى (صالة الافلام المتميزة) , وكان كل فلم ينتهي عرضه من سينما غرناطة يعرض بعدها في سينما الاعظمية . وفي ايام العطل الصيفية كانت السينمات تبدأ بعرض دور صباحي بالساعة العاشرة صباحا , وكنت كثيرا ما اذهب الى هذا الدور بسينما الخيام او سينما السندباد او النصر او غرناطة لقضاء فترة الصبح المملة . وكان اسوأ شيء في هذه الروحة هي رحلة العودة ومشقتها بالظهيرة الحارة . كانت اكثر الافلام التي تشدنا بذلك العمر هي افلام الكاوبوي وافلام جيمس بوند .
وحين كبرت اكثر واصبحت بالكلية اخذت اذهب الى السينمات التي تقع بمركز بغداد في الادوار المسائية او الليلية بصحبة الاصدقاء سواء من الكلية او خارجها . وحتى الكلية اصبحت تعرض افلام سينمائية بالقاعة الرئيسية في ظهيرة كل خميس والتي دأبت على حضورها وشاهدت من خلالها ابدع الافلام العالمية . وفي تلك الفترة افتتحت سينمات جديدة مثل سينما اطلس وسينما النجوم وسينما سمير أميس غيرها . كنا نشاهد اروع واشهر الافلام في هذه السينمات ونعرف جميع الممثلين بالاسماء , وحتى المخرجين في بعض الاحيان . ليس هذا فقط بل كنا نتابع اخبار هؤلاء من خلال المجلات الفنية مثل الكواكب , حواء , السينما والعجائب , الموعد وغيرها . كان العيب كل العيب ان لا يعرف المرء الممثلين او لا يعرف افلامهم السائدة لانها كانت المواضيع الرئيسية في احاديث الشبان والصبية . كانت افضل سينما بنظري هي سينما الخيام التي كان تبريدها خياليا بذلك الزمن ومقاعدها متحركة وسقفها فيها اضوية تبدوا وكأنها نجوم السماء . وتحيط بدور السينما كافتريات راقية تبيع السندويجات الباردة والمرطبات والايس كريم اضافة الى السكاير والكرزات وغيرها .  
رحم االله تلك الايام الجميلة , ورحم ذلك المجتمع الراقي الذي كان ابنائه ذوي تربية واخلاق عالية والذي للاسف زال من الوجود وحل محله مجتمع متخلف يحمل اسوأ واقبح الصفات . وحتى دور السينما وعرض الافلام السينمائية فقد زال من مجتمعنا لما اشاعه المتخلفين من دعاة التدين الظاهري والغير حقيقي والذين جعلوا من الفن حرام . وهذه صور لبعض دور السينما بذلك الزمن الجميل .




وسام الشالجي
9 أب (اغسطس) 2015