كنت اظن بان انتقالي من الدراسة
الثانوية ألى الدراسة الجامعية سيشكل تحويلة ونقلة كبيرة في حياتي بكل شيء . اول
نقلة كنت انتظرها هي الانتقال الى عالم جديد هو عالم الكبار ومغادرة عالم الفتيان
بالمدارس الثانوية بكل ما فيه من مساويء . نعم , كانت مساويء الحياة الدراسية
بالمدرسة لها اول وليس لها اخر , ابتداء من العصا التي كنت انال بعض منها بالرغم
من هدوئي وكوني لست طالبا مشاغبا , انتقالا الى تحكم وسلطوية بعض المدرسين
وامزجتهم المتقلبة , وصولا الى جشع المديرين وطلباتهم . ومع اني كنت في مدرسة جيدة
هي ثانوية المنصور , لكني مع ذلك فقد عشت فيها معظم السلبيات التي يعيشها طلاب
المدارس الثانوية في العراق . النقلة المهمة الثانية التي كنت انتظرها هي العيش
بالاجواء المختلطة بين الطلبة والطالبات بدلا من العزلة التي بقيت اعيش اجوائها
طيلة حياتي المدرسية من الابتدائية حتى الثانوية .
وحين قبلت بالجامعة انتابتني احلام
متنوعة بعضها جميلة ووردية , وبعضها الاخر مخيفة ومفزعة . فقبل ان اتخطى عتبة عالم
الاختلاط عشت في عالم خيالي رسمته بذهني وتصورت باني ساحظى بعلاقة او صداقة مع
فتاة كما هي امنية معظم الفتيان في عمري . لكن , في اليوم الاول لدخولي للكلية
ورؤيتي للمجتمع المختلط من طلبة وطالبات احسست برهبة كبيرة وخوف شديد ربما أتت من
كوني لم اتعامل مع الجنس الاخر من قبل سوى تعاملي مع اخواتي وبعض قريباتي , وهي
خبرة لا يعول عليها كثيرا . وما هي الا أيام قليلة من حياتي الجديدة حتى احسست بان
هناك شيء ما ليس على ما يرام في تكويني العام , اذا اني لا اعرف كيف اكلم فتاة ,
ولا اعرف عن ماذا اتحدث معها اذا حدث ذلك . ليس هذا فقط , بل انا حتى لا املك
الجرأة على ان اقدم نفسي الى بنت والتكلم معها مباشرة , واذا حدث ذلك فان وجهي
يحمر وارتبك واتلعثم حتى اكاد افقد توازني . كانت الطالبة بالنسبة لي عالم غامض لا
اعرف عنه شيئا , وقد اصبحت اراها جبل عالي لا املك القدرة على تسلقه , او جدار
كبير يصعب علي اختراقه . ومما عزز عندي هذه القناعة ان بعض الطلبة المقدامين
والمتهورين حاولوا بسرعة اقتحام هذا العالم والتقرب من بعض الفتيات لكنهم جوبهوا
بصد شديد , وحتى مهين بحيث صاروا موضع حديث وتندر الأخرين . لذلك حاولت ان أنأى
بنفسي عن هذا العالم , وبقيت بعيدا في نطاق من تعرفت عليهم من الطلبة . ولحسن الحظ
كان معي طالب من نفس مدرستي لذلك كنت اقضي كل الوقت معه متحاشيا ان اخوض غمار
تجربة اجهل ماذا ستكون نتائجها .
كان عمري حين دخلت الكلية سبعة عشر
عاما , ويعني هذا باني كنت في اواخر مرحلة المراهقة التي لم اعشها كما ينبغي نتيجة
لحياة العزل بين الجنسين السائدة في مجتمعنا . لم تكن قد نبتت لي لحية او شوارب
بعد , لكن كانت في وجهي شعيرات هنا وهناك كنت احرص على حلاقتها لأني كنت اكره
منظرها البائس , خصوصا واني كنت سامع بان كثرة الحلاقة تنبت شعر اللحية بسرعة . لا
ادري لماذا كنت اريد للحيتي بان تنمو بسرعة مع انها ستحلق في كل الاحوال , لكن
الامر كما يبدوا كان محاولة لاظهار الرجولة وتجاوز مظاهر مرحلة الصبا والفتوة .
داومت المحاضرات الاولى بالكلية فاذا بي الاحظ بان الطالبات يتقصدن في عزل انفسهن
والأبتعاد بقدر ما هو ممكن عن الطلاب . واثناء المحاضرة فان الطالبات كن يجلسن
متكتلات على احد الجوانب مما يضطر الطلاب بان يتكتلوا على الجهة الاخرى حتى يصبح
الصف لمن يشاهده مقسوم من الوسط لقسمين نصفه طالبات فقط والنصف الاخر طلاب فقط .
اما في خط التماس فان من يمعن النظر فيه يرى بان اي طالبة موجودة به تجلس وقد
أدارت ظهرها على الطالب الجالس الى جنبها وكان بينهما خصام او زعل ولا تريد ان
تواجهه وجها لوجه . اما في المختبر حيث طبيعة العمل وحرية الحركة تجعل ظروف التماس
متاحة بشكل اكبر وتوفر امكانية التحدث الى بعض بسهولة , لكن مع ذلك فان الكثير من
الطالبات ظللن يعزلن انفسهن حتى بهذا المكان وكانهن مصرات على الابتعاد مهما كان
الوضع . الطالبات الوحيدات اللواتي كن مختلفات ورحن يتحدثن مع الطلبة بسهولة وحرية
وأندمجن معهم منذ اليوم الاول هن الطالبات المسيحيات , لذلك فان اول الطالبات
اللواتي تعرفت عليهن بالكلية كن مسيحيات ثم استمرت علاقتي وطيدة بهن في كل سنواتي
بالكلية . ظننت بان هذا الحال هو فقط مقتصر على الايام الاولى بسبب الخجل وانه
سيتغير مع الوقت , لكن 90% من تصرفات الطالبات ظل على هذا الحال ولم يتغير ابدا .
كان هذا الحال يعبر بوضوح وبسخرية عن الحالة المرضية التي يعاني منها المجتمع ومدى
العقد النفسية التي تزرعها الاحوال الاجتماعية في نفوس الاجيال الجديدة التي تضخ
الى معترك الحياة . كما ان الحالة اشعرتني باني لست الوحيد الذي كنت اعاني من رهبة
الاختلاط , فان الطالبات انفسهن على ما يبدوا كن مصابات بنفس الداء , وربما بدرجة
اشد .
كان معنا طالبات بمنتهى الجمال
والروعة والرقة , وكان اي طالب بيننا يتمنى ان يكون معهن زمالات او صداقات طلابية
بريئة , لكن الكثير من هؤلاء كن صدودات ومنغلقات على انفسهن . كان هناك طالبات
يرون اي طالب يحاول التحدث اليهن , خصوصا اذا كان من شعبة اخرى بأنه ليس سوى ذئب
يريد افتراسهن مما يتطلب مجابهته بقوة وشراسة . وبعضهن الاخريات يتصورن بان سمعة
اي طالبة ستتدهور اذا ما تحدثت الى طالب , وان مستقبلها ربما سيضيع اذا ما سمحت
لنفسها بان تجلس معه بالنادي او تتمشى معه باروقة الكلية . لذلك فان معظم طالبات
السنة الاولى كن يهرعن الى غرفة الطالبات خلال اي فرصة او فراغ مبتعدات بقدر ما هو
ممكن عن عالم الطلبة . بل ان الكثيرات منهن ظللن على هذا الحال حتى بالسنوات
اللاحقة , حتى أستطيع ان اقول بان هناك طالبات داومن بالكلية لمدة اربع سنوات
وتخرجن من دون ان يتحدثن الى طالب الا فيما ندر . لقد كان حقا امرا مؤسفا ان يكن
مثل هؤلاء الفتيات على ذلك الحال المحزن , ولابد وانهن قد ندمن عليه بشدة بعد
تخرجهن
. انا لا
انكر بانه كان هناك معنا طالبات اجتماعيات جدا وكن يندمجن مع الطلاب ويجلسن معهم
بالنادي ويرافقوهم الى الحفلات الجامعية ويحضرن مع الطلبة كل النشاطات الرياضية
والاجتماعية والسفرات الجامعية . لكن هؤلاء كن قلة , وحتى كن محط تقولات واحاديث
النوع الاول من الطالبات المعقدات .
وفي ظل مثل
هذه الظروف والاحوال اقول بصدق بان حالتي الاجتماعية بالسنتين الاولتين بالكلية
ظلت ذكورية بحتة باستثناء زمالة بعض الطالبات المسيحيات وعلى نطاق ليس واسع . لذلك
لم اشعر بأي فرق بين حياتي في المدرسة وحياتي بالكلية من ناحية الاختلاط . الفرق
الوحيد انني كنت ارى الفتيات فقط بالشارع , لكني اصبحت بالكلية اراهن بنفس الصف
الذي ادرس فيه , ولكن بالحالتين لم يكن هناك غير الرؤية فقط . الا ان الحال تغير معي
وتحسن الى حد ما بالسنوات اللاحقة وانفكت العقد بعض الشيء فصرت استطيع الالتقاء
والتحدث مع الطالبات من دون ان اشعر بخجل او صعوبة او حرج . وفي السنة الرابعة صار
عندي زميلات مثلما ما عندي من زملاء . ومن نتائج هذا اني استطعت بالأخر ان ارتبط
بصديقتي ورفيقة عمري زوجتي الحبيبة , مع انها كانت من قسم أخر ليس قسمي . وحين اتذكر اليوم سنواتي بالكلية كم أتأسف
على ايام هي اجمل ايام العمر لكنها تبددت رغما عنا دون ان نستمتع بها بما يكفي . وهذه
بعض صوري بالسنة الاولى من الكلية .
وسام
الشالجي
15 حزيران (يونيو) 2015
15 حزيران (يونيو) 2015