اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 4 يناير 2015

خواطر الاسود والابيض - اورزدي باك

 


في النصف الاول من عقد السبعينات كنت ساكنا في بيت جدي بالاعظمية حين كان ابي قد اصطحب بقية افراد الاسرة وسافر الى الكويت للعمل هناك . وفي تلك الفترة كنا قد اصبحنا انا وخالي (سعد) اصدقاء اكثر من كوننا مجرد خال وابن اخت بالرغم من فارق السن بيننا . وفي ايام الصيف الحارة كنت استيقظ صباحا واتناول فطوري ثم نترك البيت انا وهو ونذهب الى وجهتنا شبه اليومية , وهي محلات اورزدي باك في شارع الرشيد . كنا نقف في محطة الباص الواقعة امام كلية العلوم والقريبة من ساحة عنتر حيث نبقى نترقب مجيء احدى سيارات الاجرة (بالنفر) ذات القطعة الخاصة التي تسمح لها بالمرور بشارع الرشيد . كانت اجرة الركوب 50 فلسا يمكن ان تأخذنا الى وجهتها النهائية في ساحة التحرير , لكننا كنا نترجل منها ما ان نصل الى بوابة محلات اورزدي باك . وكان يقف عادة في تلك البوابة رجل طويل يرتدي ملابس نظامية يقوم بمهام (بواب) لاستقبال الزبائن , حيث يتقدم لفتح ابواب السيارات الفخمة التي تتوقف امام باب المحل . وبعد ان يحينا الرجل بابتسامته العريضة التي لا تفارق وجهه يفرد ذراعه باتجاه المحل مرحبا بنا وكدلالة على دعوته لنا بالدخول الى تلك المحلات الشهيرة . وما ان نجتاز الباب حتى تواجهنا موجة هواء باردة ومنعشة تصفعنا على وجهينا اللذين يتصببان عرقا من اثر الحر الذي لاقيناه طيلة رحلة المجيء . نبدأ جولتنا بلفة سريعة بالطابق الاول من المحل الذي بضاعته عامة لنرى هل من جديد فيه ثم نصعد درجات السلم الواقع الى يمين المحل والذي يتفرع بعد عدة درجات الى سلمين ايمن وايسر كلاهما يؤديان الى الطابق الثاني الذي فيه تباع الاقمشة والمفروشات واللوازم البيتية . نأخذ لفة ثانية سريعة في هذا الطابق ثم نصعد السلم الذي يقع في وسطه الى الطابق الاعلى المفضل لدينا حيث اقسام الصوتيات والكتب والملابس الرجالية والنسائية والاحذية والرياضة , والقسم الأهم جدا لدينا والذي هو غايتنا وهو "مطعم اورزدي باك" . لا يفوتنا طبعا ان نأخذ لفة ايضا في هذا الطابق نقضي معظمها في قسم الصوتيات حيث نطلع على اخر الاسطوانات الواصلة للمحل , وفي قسم الملابس الرجالية حيث تعرض احدث البدلات والقمصان ذات الماركات العالمية . وبعد ان ننتهي من هذه اللفة نتجه الى الزاوية اليمنى من هذا الطابق ونجتاز مدخل يتكون من بوابتين مفصليتين مزخرفتين تؤديان الى ممر رفيع طوله حوالي عشرة امتار لنصل في نهايته الى بوابة اخرى مشابهة للبوابة لاولى . بعد اجتياز البوابة الثانية ننحرف قليلا الى اليسار فنصبح وسط مطعم اورزدي باك الذي تقع على يمينه ثلاث لوجات تطل على باحة المطعم كل واحد منها محاط من ثلاث جهات بجدران متكونة من الواح خشبية مطعمة بالزجاج الملون . وفي باحة المطعم هناك خمس او ست موائد منصوبة كل واحدة منها تتكون من صينية نحاسية موضوعة على مائدة سداسية مزينة بزخارف شامية من جميع جوانبها ومحاطة باربعة كراسي ذات طراز عربي عليها كوشات للجلوس وكوشات لاسناد الظهر ومزينة بالحبال ذات الكراريش من جميع جهاتها . يطل المطعم على نهر دجلة الخالد , وتنطلق فيه موسيقى كلاسيكية هادئة لأشهر العازفين العالميين تنبعث من سماعات مخفية بدرجة خافتة تطرب الاذان من غير ان تكون مزعجة او مؤثرة على احاديث المرتادين . وبعد ان نجلس ونرتاح قليلا يأتي الينا نادل المطعم مستقبلا ايانا بابتسامة عريضة ليسألنا عن ما نريد فنطلب طلبنا اليومي وهو (قطعة كيك مع كوب نسكافة) . وما ان نبدأ بارتشاف القهوة حتى نبدأ احاديثنا اليومية المعتادة والتي يدور معظمها حول تجاربنا العاطفية والفتيات الجميلات , مع بعض الاحاديث عن الاوضاع والمستقبل الذي ينتظرنا . كنا نقضي تلك الاوقات السعيدة ونحن نسمع الموسيقى ونشاهد الزوارق تنساب بالنهر العظيم امامنا , ومما اتذكره جيدا هو ان فندق المنصور ميليا كان يبنى تماما امامنا على الجانب الاخر في صوب الكرخ  وكنا نراقب تطور مراحل بنائه في تلك الزيارات . وبحدود الساعة الواحدة او الثانية ظهرا نغادر المطعم بعد ان ندفع الحساب الذي لم يكن يتجاوز النصف دينار نتجه بعدها الى بوابة المحل بالاسفل حيث يودعنا البواب الواقف ملوحا لنا براحته . وبعد هذه الاقات الجميلة تبدأ رحلة العودة المظنية بسبب ارتفاع درجة الحرارة وقلة سيارات الاجرة في مثل ذلك الوقت من النهار مما كان "يطلع كل تلك الطلعة الجميلة من خشمنا" , ومع ذلك لا نجزع ونعاود تلك الرحلة مرة اخرى باليوم التالي . وقد يصادف في بعض الاحيان ان نعرج على مطعم (عمو الياس) القريب من اورزدي باك لتناول وجبة طعام الغداء والتي غالبا ما تكون البامية اللذيذة والتمن التي يبدع بطهيها ذلك المطعم الشهير , نستقل بعدها سيارة الاجرة عائدين الى المنزل .

ايام جميلة يصعب نسيانها , واحاديث ممتعة لم نكن نمل من تكرارها , وذكريات حلوة محفورة بالقلوب لن تغيب عن مخيلتنا ابدا .






 

  
وسام الشالجي

4 كانون اول (يناير) 2015