اخر المواضيع في المدونة

الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

خواطر بالاسود والابيض - عشق القطار

انا احب السفر بالقطار بشكل كبير , مما دعاني لكتابة هذه الخاطرة عن سبب ذلك . كان السفر بين مدن العراق في مطلع الستينات مقتصرا على استخدام القطار لعدم وجود طرق مبلطة بين المحافظات ولعدم وجود وسائط نقل برية مريحة تنقل الناس بين المدن . ومع اني ركبت القطار لاكثر من مرة وانا صغير الا اني لم اعي عليه الا بعد ان بلغت التاسعة او العاشرة . كنا نستخدم القطار بالسفر الى بغداد خلال العطل الصيفية والتي كانت من احلى المناسبات في حياتي , لذلك فقد ارتبطت ذاكرني للقطار بهذه المناسبة السعيدة ومنها جاء حبي للقطار . لا زلت اتذكر لحد الان حين رأيت  القطار لاول مرة في حياتي بعد ان كبرت ووعيت بما فيه الكفاية واصبحت ادرك الامور التي تدور حولي . فبعد ان حلت العطلة الصيفية جاءنا اخي الكبير عصام في احد الامسيات وعلامات الفرح بادية على وجهه وقال لنا انا واخوتي (ابشركم , لقد حجز لنا والدي بعد اسبوع لكي نسافر الى بغداد بالقطار حيث سنقضي العطلة هناك) . فرحنا للغاية لهذا الخبر لان ذكريات السفرات الجميلة الى بغداد قد علقت بمخيلتي الصغيرة . قضينا ذلك الاسبوع ونحن نعد الساعات والايام منتظرين ذلك اليوم الموعود , وكان اي واحد منا تظهر عليه علائم السعادة والفرح بوضوح في كل تصرفاته اليومية . ومن المزاحات التي اعتدنا على تبادلها بيننا هو ان اي واحد منا كان حين يرى الاخر وقد ظهرت عليه علائم الابتهاج يقول له (ها شبيك اشو فرحان ! شنو مشتل ؟) . واخيرا جاء اليوم المنتظر حيث قمنا بتحضير ما يكفي من (متاع) السفر وذهبنا عصرا الى محطة قطار البصرة التي تقع بالمعقل . ترجلنا من السيارة وذهب ابي الى شباك التذاكر ليؤكد الحجز بينما توجهنا نحن الى داخل المحطة وانا اتوق لرؤية هذا الشيء الذي اسمه (قطار) والذي سيأخذنا من البصرة الى بغداد . ما ان عبرنا بوابة المحطة الى داخلها حتى هالني المنظر الذي وقعت عليه عيناي , اذ وجدت نفسي اقف امام شيء ضخم يتكون من عربات كبيرة مصبوغة باللون الاصفر والاخضر تصطف الواحدة تلو الاخرى . اذن هذا هو القطار ! يا ألهي كم هو هائل بحجمه وكأنه تنين جبار ! لكن ما هي هذه العربات ؟ سألت اخي الكبير فقال لي (انها الفاركونات التي سنركبها وسنقضي ليلتنا في احدى غرفها بسفرتنا الى بغداد) . كان صف الفاركونات طويل يمتد على جانبي المحطة وكأنها ثعبان هائل الحجم والناس مكتضين امامها , بعضهم يصعد اليها والبعض الاخر ينزل منها . اقتربت من العربة التي تتصدر الواجهة بحذر شديد فرايت على بدنها كتابة بالاعلى تقول (سكك حديد الجمهورية العراقية) وبالاسفل كتابة (عربة منام معدلة الهواء) , بينما هناك قطعة معدنية طويلة معلقة بها مكتوب عليها (المعقل - غربي بغداد) , وفي المحطة نفسها جدارية كبيرة منصوبة بالوسط مكتوب عليها (المعقل) . بعد قليل جاء والدي وقد اتم اجراءات الحجز واصطحبنا الى العربة التي سنركبها . صعدنا الى الفاركون فاحسست ببرودة لذيذة قياسا بالجو الخارجي الحار , ثم دخلنا الى ممر رفيع وطويل يكاد لا يتسع الى اكثر من شخص واحد يمشي فيه والغرف مسطرة على جانبه . وبعد عدة امتار دخلنا الى غرفة فيها مصطبتين كبيرتين جلسنا عليها ووضعنا شنطنا تحتها اضافة الى مائدة وسطية معلقة بالجدار تحت الشباك وضعنا عليها متاع السفرة , كما هناك على الجدران صور سياحية عن مناطق مختلفة من العراق , وبالاعلى قريب من السقف هناك سلسلة ظاهرة مكتوب تحتها (لأيقاف القطار اسحب السلسلة , ومن يسيء استخداما يغرم خمسة دنانير )  . بعد قليل جاء رجل يلبس ملابس نظامية وكانه رجل شرطة عرفت فيما بعد بان اسمه (التيتي) , سلم علينا مرحبا بنا وسألنا ان كنا نحتاج الى شيء فقال له والدي باننا نريد وضع افرشة النوم عند المساء , ثم سالنا ان كنا نريد وجبة عشاء او فطور فشكره والدي وقال له بان لدينا ما يكفينا من طعام . بعد برهة سلم علينا الوالد مودعا  لانه لم يكن مسافرا معنا لارتباطه بعمله . ما هي الا هنينة حتى سمعنا رنة جرس المحطة وراينا شخصا يلوح بعلم اخضر بدأ بعدها القطار يتحرك ببطأ بادئا سفرة ستستغرق حوالي 15 ساعة . كانت السعادة التي تغمرني وانا اعيش هذه الاجواء لا توصف . وقفت امام الشباك المقابل للمحطة وانا انظر للناس يلوحون بايديهم مودعين من بالقطار , بعضهم يضحك فرحا والبعض الاخر يبكي حزينا . اخذت سرعة القطار تزداد شيئا فشيئا وبدأت اسمع ضربات دواليب القطار وهي تسير على القضبان عازفة ترنيمة كان اخي عصام قد قلدها لنا في البيت من خلال الضرب براحتي يداه على صدره وفخذيه بحركات متتابعة , وها أنا الان اسمعها بحقيقتها . زادت سرعة القطار شيئا فشيئا واخذنا نرى على جانبي الطريق اكوام الصرائف والفقراء الذين يعيشون فيها , وهي مناظر اعتدت على رؤيتها بالبصرة كثيرا . بعد حوالي اربعين دقيقة توقف القطار في اول محطة له تسمى (الشعيبة) حيث جربت النزول من القطار فرأيت كم هو عالي بشكل لم اشعر به بالمحطة بالبصرة . بعد دقائق صاح علي اخي طالبا مني الصعود الى القطار مرة اخرى الذي عاود المسير من جديد . اخذت التوقفات تتكرر كل مدة واسماء المحطات تتوالى امامنا لنرى من خلالها مناطق لم نعرفها او نراها من قبل . وفي المساء فرشنا ما نحمل من متاع واخذنا نأكل ونتبادل الضحك والكلمات التي تنطلق منا بعفوية تعبيرا عن ما فينا من فرح وسعادة . وحين حل موعد النوم جاء (التيتي) وفتح سريران كانا مربوطان بالاعلى ثم فرش الافرشة فاصبحت الغرفة تتكون من اربعة اسرة . طبعا انا اصريت على ان يكون سريري بالاعلى وصعدت اليه فوجدت نفسي قريبا من سقف الفاركون الذي فيه ثقوب كثيرة ينساب منها الهواء البارد . اخذنا نتبادل الاحاديث بيننا ونحن باسرتنا حتى غفى البعض , في حين لم يغمض لي جفن قط . بقيت طول الليل يقظا انزل كلما توقف القطار لكي أنظر من الشبابيك وارى المحطة التي نتوقف عندها , ثم اعاود الصعود بعد ان يمشي . مع اني كنت مزعجا وانا (صاعد نازل وخاش طالع) الا انه لم يتضايق مني احد لان الجميع كانوا يمرون باوقات هنيئة ومفرحة . واخيرا حل الصباح ووصلنا الى منطقة تسمى (سدة الهندية) حيث صعد اشخاص الى القطار يبيعون القيمر بمواعين فخارية فاشترينا منه , وكم كان مذاقه لذيذا كلذة السفرة نفسها . وبعد مدة دخل القطار مدينة بغداد واخذت مناظر الشوارع والسيارات وباصات المصلحة ذات الطابقين التي اشتقت الى رؤيتها تتوالى امامنا . كانت هذه المناظر تبعث في نفسي مشاعر ممتعة ورائعة يصعب وصفها لغير من عاشها . ثم ما هي الا برهة قصيرة حتى وصلنا الى المحطة النهائية حين دخل القطار الى محطة فيها قطعة مكتوب عليها (غربي بغداد) فحملنا اغراضنا وترجلنا من القطار لتنتهي تلك السفرة الجميلة التي قضيت فيها اسعد اللحظات بحياتي .   



   





وسام الشالجي
30 كانون الاول (ديسمبر) 2014