قد يتحاشاك
الموت حتى لو صرت أمامه مرات ومرات
(محطات في حياة الوالد المرحوم قاسم الشالجي)
"قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا
مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ"
قرأن كريم
(1)
في
عام 1939 قبل الشاب قاسم الشالجي بعد أن أنهى دراسته بالثانوية العسكرية
في المدرسة (الكلية) العسكرية العراقية بدورتها التاسعة عشر ، وبعد حوالي
عامين ونصف ، أي في عام 1941 تخرج منها ومنح رتبة ملازم ثاني بالجيش
العراقي . وبعد تخرجهم جرى توزيع تلاميذ الدورة المتخرجة على صنوف الجيش
المختلفة فكان نصيب الملازم قاسم الشالجي ان نسب الى صنف الهندسة الالية
الكهربائية وهو صنف فني يعني بتصليح وصيانة أليات الجيش بمختلف أنواعها من
الناحية الميكانيكية والكهربائية . فرح قاسم بهذا التنسيب لانه فعلا يحب
السيارات الأليات الأخرى ومولع بتصليح عطلاتها لذلك كان بنظره هذا التنسيب
قد جاء كضربة حظ توافق اهوائه ورغباته . دخل الضابط قاسم بدورة الصنف في
مدرسة الهندسة الألية الكهربائية الكائنة في معسكر الرشيد وتخرج منها بعد
ثلاثة أشهر كضابط ألي . وكملازم ألي مبتديء نسب قاسم ليكون امر مفرزة
التصليح باللواء الاول الذي يقع مقره في منطقة المسيب حيث قضى هناك السنين
الاولى من خدمته بالجيش . وبعد تخرجه بعدة أشهر تزوج قاسم من فتاة منحدرة
من عائلة بغدادية أصيلة وميسورة ورزق بعد اقل من سنة بولده الاول اسماه
عصام . شاء الحظ أن يبقى الملازم قاسم بمنصبه الذي نسب له لعدة سنوات ,
وحتى بعد أن ترفع الى رتبة ملازم أول عام 1945 ظل قاسم الشالجي في موقعه
هذا . وحين اندلعت حرب فلسطين عام 1948 صدرت الأوامر لجحفل اللواء الأول
الذي كان بوقتها بأمرة العقيد الركن عباس علي غالب ومعه الفوج الأول من
اللواء 15 بالتحرك الى فلسطين ليشارك في معركة تحرير فلسطين . تحرك جحفل
لواء المشاة الاول مع الفوج المتجحفل معه من مقره في منطقة المسيب متجها
الى مدينة المفرق بالاردن في العاشر من مايس عام 1948 . ولان الملازم الأول
قاسم الشالجي كان أمر مفرزة التصليح فقد تعين عليه ان يتحرك في نهاية رتل
اللواء والفوج المتجحفل معه لتصليح اي عجلة او ألية تتخلف على الطريق بسبب
عطل او خلل فني .
وصلت طلائع اللواء الأول الى منطقة المفرق فجر يوم الخامس عشر من مايس ، وبناء على أوامر القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية فقد طلب من اللواء عدم التعسكر والانتظار في منطقة المفرق بل مواصلة التقدم مع بقية القوات العراقية المندفعة الى داخل فلسطين . وكانت القوات العراقية قد استلمت الاوامر بالتقدم الى داخل فلسطين وكانت بذلك اول قوة عربية تدخل اليها من بين جميع القوات العربية المتوجهة لتحرير فلسطين . وجه قائد القوة العراقية الزعيم طاهر الزبيدي الاوامر الى الفوج الاول للواء الاول الذي كان بإمرة المقدم الركن عبد الكريم قاسم بالتقدم نحو مستعمرة كيشر لاحتلال قلعتها بينما وجه امرا أخرا الى الفوج الاول اللواء 15 لمسك مرتفعات تطل على منطقة كوكب الهوى . وبعد معارك شرسة اشتملت على قصف مدفعي وبالهاونات واستخدام الطائرات فشلت القوات العراقية باقتحام المستعمرة واحتلال قلعة كيشر . من ناحية اخرى فقد بقيت القوات العراقية تمسك المرتفعات المطلة على كوكب الهوى حتى السابع عشر من ايار لكنهم انسحبوا منها بعد ان تعرضوا لهجوم شديد فقدوا من جرائه خسائر لا باس بها . وعلى ضوء هذه المعارك صدرت الاوامر للقوات العراقية بالتقدم شمالا نحو نابلس حيث تغيرت الخطة العراقية وأصبحت تتضمن الإندفاع باتجاه منطقة طولكرم نحو كفر يونا لبلوغ ميناء ناثانيا على البحر الابيض المتوسط . كانت القوة المعدة لهذا الغرض تتكون من افواج لواء المشاة الاول اضافة الى الفوج الثاني لواء المشاة الخامس الذي يقوده المقدم الركن عمر علي . ولان مفرزة التصليح العائدة للواء المشاة الاول كانت تتقدم بمؤخرة الرتل لأن واجبها يتضمن تصليح الاليات المتعطلة فقد واصلت تقدمها متاخرة بعض الشيء لتلحق بمقر اللواء الذي توجه هذه المرة نحو نابلس . كانت الاوامر التي لدى الملازم الاول قاسم بتقديم العون والمساعدة لاي ألية عراقية متعطلة تصادفه بالطريق مهما كانت عائديتها ، وقد قاده حظه نحو قلعة جنين لتصليح بعض أليات رتل أسد الذي يتكون من أحد افواج اللواء الرابع والذي كان بأمرة المقدم الركن نوح عبد الله الجلبي . ومن مستجدات الموقف التي حصلت بتلك المنطقة أن اليهود شنوا هجوما واسعا على مدينة جنين واحتلوها بالكامل وحاصروا القوة العراقية الموجودة في قلعة جنين ومن بينها كانت مفرزة التصليح التي يقودها الملازم الاول قاسم . بدأت القوات الاسرائيلية تعد العدة لاقتحام القلعة وابادة القوة العراقية الموجودة فيها . وبسبب ضخامة القوة الاسرائيلية التي تحاصر القلعة كان موقف القوة العراقية الموجودة فيها ميئوسا منه وسيكون حتما الموت لجميع افرادها ، وفي احسن الاحوال الوقوع كأسرى بيد العدو . ومع ان الملازم الاول قاسم امر مفرزة التصليح العائدة للواء الاول والوحدة التي يقودها هي وحدة فنية الا انه اخذ يعد العدة لان يشارك باي معركة وقتال اليهود مهما كانت النتيجة . كان قاسم يعلم من طبيعة الموقف الى ان وضع القوة التي صار جزء منها ميئوس منه بسبب قلة موجودها وكثرة المحاصرين لها ، لكنه راح يبث بجنوده روح المقاومة والشجاعة والصمود لمواجهة التعرض الذي بات وشيكا .
وبينما كانت الوحدات المحاصرة تنتظر وقوع هجوم القوات اليهودية عليها صدرت الأوامر من القيادة العراقية الى الفوج الثاني من اللواء الخامس الذي كان يقوده المقدم الركن عمر علي بالاسراع لنجدة القوة العراقية المحاصرة في قلعة جنين . سارع المقدم عمر بـإكمال استحضارات الهجوم متعطشاً للقتال , حيث أدى صلاة الفجر اماماً بفوجه وبعد الفراغ من ادائها صاح بأعلى صوته الجهوري العالي "الفوج الثاني العالي حي على الجهاد" ثم كبر عدة مرات وصدحت حناجر الجنود والضباط معه بصوت واحد مدوي "الله اكبر" مما رفع معنويات المقاتلين الى اعلى مستوياتها . تقدم الفوج وبمقدمته المقدم عمر كالأسد الهصور مفجراً حماسهم وأصبحوا جميعا خلفه كبركان ثائر يقذف حممه الملتهبة بكل الإتجاهات. زحف المقاتلون الى الامام يسابقون قائدهم وانقضوا على اعدائهم كالصقور الجارحة فرقت صفوفهم وشتت جمعهم واصبحت جثث قتلاهم مبعثرة على الارض المحيطة بقلعة (جنين) , وقد عمل السلاح الابيض (الحربة/ السكين) فعلته الرهيبة بهم. تمكن الفوج من كسر الطوق وهربت القوات الصهيونية تاركة خلفها اكثر من (300) جثة لقتلاها في ساحة المعركة , واستولى المنتصرون على الكثير من التجهيزات والمعدات والاسلحة المتروكة. إلتقى مقاتلوا الفوجين المهاجم والمحاصر يحتضن بعضهم البعض ويصدحون بأعلى أصواتهم بلفظة (ألله أكبر) , وكان بالفعل نصرا مبينا لمنتسبي الفوج الثاني وقائدهم المغوار المقدم الركن عمر علي . ومن بين من نجو من موت محقق هو وجنود فصيله الملازم الأول قاسم الشالجي الذي سارع بهذا النصر وفك الحصار بالتحرك ليلتحق بوحدات لوائه الاول المتقدمة إلى نابلس . .
وصلت طلائع اللواء الأول الى منطقة المفرق فجر يوم الخامس عشر من مايس ، وبناء على أوامر القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية فقد طلب من اللواء عدم التعسكر والانتظار في منطقة المفرق بل مواصلة التقدم مع بقية القوات العراقية المندفعة الى داخل فلسطين . وكانت القوات العراقية قد استلمت الاوامر بالتقدم الى داخل فلسطين وكانت بذلك اول قوة عربية تدخل اليها من بين جميع القوات العربية المتوجهة لتحرير فلسطين . وجه قائد القوة العراقية الزعيم طاهر الزبيدي الاوامر الى الفوج الاول للواء الاول الذي كان بإمرة المقدم الركن عبد الكريم قاسم بالتقدم نحو مستعمرة كيشر لاحتلال قلعتها بينما وجه امرا أخرا الى الفوج الاول اللواء 15 لمسك مرتفعات تطل على منطقة كوكب الهوى . وبعد معارك شرسة اشتملت على قصف مدفعي وبالهاونات واستخدام الطائرات فشلت القوات العراقية باقتحام المستعمرة واحتلال قلعة كيشر . من ناحية اخرى فقد بقيت القوات العراقية تمسك المرتفعات المطلة على كوكب الهوى حتى السابع عشر من ايار لكنهم انسحبوا منها بعد ان تعرضوا لهجوم شديد فقدوا من جرائه خسائر لا باس بها . وعلى ضوء هذه المعارك صدرت الاوامر للقوات العراقية بالتقدم شمالا نحو نابلس حيث تغيرت الخطة العراقية وأصبحت تتضمن الإندفاع باتجاه منطقة طولكرم نحو كفر يونا لبلوغ ميناء ناثانيا على البحر الابيض المتوسط . كانت القوة المعدة لهذا الغرض تتكون من افواج لواء المشاة الاول اضافة الى الفوج الثاني لواء المشاة الخامس الذي يقوده المقدم الركن عمر علي . ولان مفرزة التصليح العائدة للواء المشاة الاول كانت تتقدم بمؤخرة الرتل لأن واجبها يتضمن تصليح الاليات المتعطلة فقد واصلت تقدمها متاخرة بعض الشيء لتلحق بمقر اللواء الذي توجه هذه المرة نحو نابلس . كانت الاوامر التي لدى الملازم الاول قاسم بتقديم العون والمساعدة لاي ألية عراقية متعطلة تصادفه بالطريق مهما كانت عائديتها ، وقد قاده حظه نحو قلعة جنين لتصليح بعض أليات رتل أسد الذي يتكون من أحد افواج اللواء الرابع والذي كان بأمرة المقدم الركن نوح عبد الله الجلبي . ومن مستجدات الموقف التي حصلت بتلك المنطقة أن اليهود شنوا هجوما واسعا على مدينة جنين واحتلوها بالكامل وحاصروا القوة العراقية الموجودة في قلعة جنين ومن بينها كانت مفرزة التصليح التي يقودها الملازم الاول قاسم . بدأت القوات الاسرائيلية تعد العدة لاقتحام القلعة وابادة القوة العراقية الموجودة فيها . وبسبب ضخامة القوة الاسرائيلية التي تحاصر القلعة كان موقف القوة العراقية الموجودة فيها ميئوسا منه وسيكون حتما الموت لجميع افرادها ، وفي احسن الاحوال الوقوع كأسرى بيد العدو . ومع ان الملازم الاول قاسم امر مفرزة التصليح العائدة للواء الاول والوحدة التي يقودها هي وحدة فنية الا انه اخذ يعد العدة لان يشارك باي معركة وقتال اليهود مهما كانت النتيجة . كان قاسم يعلم من طبيعة الموقف الى ان وضع القوة التي صار جزء منها ميئوس منه بسبب قلة موجودها وكثرة المحاصرين لها ، لكنه راح يبث بجنوده روح المقاومة والشجاعة والصمود لمواجهة التعرض الذي بات وشيكا .
وبينما كانت الوحدات المحاصرة تنتظر وقوع هجوم القوات اليهودية عليها صدرت الأوامر من القيادة العراقية الى الفوج الثاني من اللواء الخامس الذي كان يقوده المقدم الركن عمر علي بالاسراع لنجدة القوة العراقية المحاصرة في قلعة جنين . سارع المقدم عمر بـإكمال استحضارات الهجوم متعطشاً للقتال , حيث أدى صلاة الفجر اماماً بفوجه وبعد الفراغ من ادائها صاح بأعلى صوته الجهوري العالي "الفوج الثاني العالي حي على الجهاد" ثم كبر عدة مرات وصدحت حناجر الجنود والضباط معه بصوت واحد مدوي "الله اكبر" مما رفع معنويات المقاتلين الى اعلى مستوياتها . تقدم الفوج وبمقدمته المقدم عمر كالأسد الهصور مفجراً حماسهم وأصبحوا جميعا خلفه كبركان ثائر يقذف حممه الملتهبة بكل الإتجاهات. زحف المقاتلون الى الامام يسابقون قائدهم وانقضوا على اعدائهم كالصقور الجارحة فرقت صفوفهم وشتت جمعهم واصبحت جثث قتلاهم مبعثرة على الارض المحيطة بقلعة (جنين) , وقد عمل السلاح الابيض (الحربة/ السكين) فعلته الرهيبة بهم. تمكن الفوج من كسر الطوق وهربت القوات الصهيونية تاركة خلفها اكثر من (300) جثة لقتلاها في ساحة المعركة , واستولى المنتصرون على الكثير من التجهيزات والمعدات والاسلحة المتروكة. إلتقى مقاتلوا الفوجين المهاجم والمحاصر يحتضن بعضهم البعض ويصدحون بأعلى أصواتهم بلفظة (ألله أكبر) , وكان بالفعل نصرا مبينا لمنتسبي الفوج الثاني وقائدهم المغوار المقدم الركن عمر علي . ومن بين من نجو من موت محقق هو وجنود فصيله الملازم الأول قاسم الشالجي الذي سارع بهذا النصر وفك الحصار بالتحرك ليلتحق بوحدات لوائه الاول المتقدمة إلى نابلس . .
(2)
في
عام 1949 دخل الرئيس (النقيب) قاسم كلية الاركان بدورتها 15 وكان معه بنفس
الدورة الرئيس الاول عبد السلام عارف الذي كان من خريجي الدورة 17 للكلية
العسكرية . توطدت الصداقة بين الرجلين واستطاع عبد السلام عارف ان يستميل
الوالد بأفكاره القومية والوحدوية . وعند تخرجهما من كلية الاركان عام 1951
كانت اواصر الصداقة بينهما قد اصبحت متينة وقوية الى درجة كبيرة . مرت
السنون ووقعت حركة الرابع عشر من تموز عام 1958 وكان قاسم بوقتها برتبة
مقدم ركن ويشغل منصب أمر مدرسة الهندسة الالية الكهربائية ومقرها بمعسكر
الرشيد . فرح قاسم كثيرا بوقوع الثورة نتيجة لشعوره القومي اولا ولتولي
صديقه عبد السلام عارف منصبا رفيعا فيها , وكذلك لتوجه الحركة نحو الوحدة
مع الجمهورية العربية المتحدة لما يكنه من حب واحترام لزعيمها جمال عبد
الناصر. ومن ضمن مظاهر فرحه بالثورة وتوجهاتها القومية والوحدوية قام قاسم
بزيارة لمصر أطلع فيها على منجزات الثورة المصرية هناك والخطوات التي
تتبعها القيادة هناك في إعادة بناء الدولة وتسليح جيشها . كانت هذه الزيارة
علامة ظاهرة أخذت على المقدم الركن قاسم الشالجي في كونه من أتباع عبد
السلام عارف ومؤيديه .
لم يستمر الحال متوطدا بين زعماء الثورة إذ بدأت مظاهر الخلاف تدب بينهم وتكشف عن نفسها علنا بسرعة كبيرة , وما هي الا أسابيع قليلة حتى أخذ الحال ينقلب على عبد السلام عارف وبدأ مسلسل تجريده من مناصبه يجري بالتتابع ووفق خطة منظمة حتى وصل الامر الى إعتقاله واحالته للمحكمة العسكرية العليا الخاصة بتهمة تأمره على الثورة ومحاولته إغتيال قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم . انتهت المحاكمة بالحكم على عبد السلام عارف بالاعدام ثم تبعتها عملية تصفية كبار أتباعه وأنصاره الموجودين بالجيش وجميع المحسوبين عليه . وبعد اشهر قليلة وقعت محاولة إنقلابية قادها العقيد عبد الوهاب الشواف أمر اللواء الخامس الذي يقع مقره في مدينة الموصل حيث جرى قمعها وتصفية المشاركين فيها بطرق وحشية فاقت التصور . أدى هذا الوضع الى توتر الاوضاع بالبلاد واصبح الشيوعيون يسيطرون على الشارع تماما وراحت المظاهرات الهستيرية تندلع بطول البلاد وعرضها مطالبة بالقضاء على جميع معارضي نظام الحكم من القوميين والبعثيين ومتوعدة كل من لا يتلائم تفكيره مع روحية الثورة بالتصفية والسحل . كان قاسم معروفا في وحدته بانه قومي التفكير والتوجه , بل كان أغلب من يعرفونه يعتبرونه من رجال عبد السلام عارف , وهو أمر أصبح خطرا جدا في حينها بعد إتهام عبد السلام بالتأمر على الثورة ومحاولة تصفية قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم . وفي صباح احد ايام ربيع عام 1959 تجمع جنود وضباط مدرسة الهندسة الالية الكهربائية في ساحة عرضات الوحدة واخذوا يرددون هتافات حماسية مؤيدة للثورة ومناصرة للحزب الشيوعي العراقي وارتفعت نبرات الهتاف بشكل هستيري غير منضبط , فما كان من المساعد غير الحضور لغرفة الأمر والطلب منه بان يخرج الى ساحة العرضات ويلتقي بالجموع المتجمهرة وان يلقي فيهم كلمة تهديء من حماسهم وتدفعهم الى فض التجمع والعودة لممارسة اعمالهم اليومية . لم يتأخر المقدم الركن قاسم عن هذا الطلب وبالفعل خرج اليهم وراح يخطب بهم كلمة ذات مضامين قومية لم تتوافق على ما يبدوا مع وتيرة تفكيرهم فأشتد الصياح والهرج واصبح الموقف على وشك الخروج عن السيطرة . أحس المقدم قاسم من ما يجري أمامه بالخطر الشديد وشعر بان الجنود ربما سينقضون عليه في اي لحظة ويسحلوه كما حدث في وحدات عسكرية اخرى قام الجنود فيها بسحل أمريهم بتهمة عدم تأييد الثورة او العمل ضدها . أنسحب قاسم من ساحة العرضات وهرع الى غرفته الواقعة في مقر المدرسة وبعض الجنود يركضون خلفه يريدون القبض عليه والنيل منه ولم ينقذه من المصير المحدق الذي بات على وشك أن يطبق عليه سوى ضربة من ضربات الحظ حيث كانت غرفته ذات بابين واحد يطل على باحة الوحدة وساحة العرضات والباب الثاني يطل على الخارج حيث تقف سيارته الجيب وفيها سائقه . دخل قاسم بسرعة الى داخل الغرفة وخرج من الباب الثاني حيث قفز إلى سيارته بسرعة وطلب من سائقة المغادرة فورا والذهاب به الى مقر وزارة الدفاع حيث قام هناك بتثبيت وقائع ما حدث ثم عاد الى منزله بانتظار الاوامر . لم تمضي على هذا الحدث سوى أيام قليلة حتى صدر مرسوم جمهوري بأحالة عدد من الضباط المحسوبين على عبد السلام عارف على التقاعد ومن بينهم المقدم الركن قاسم , وبذلك أنتهت هذه الصفحة من صفحات حياة هذا الضابط الشاب الذي لم يكن له ذنب في خروجه من الجيش بهذه الرتبة الصغيرة سوى كونه صديقا لأحد الرجال الذين جلبهم القدر وجعل لهم دور فاعل في تاريخ العراق الحديث , لكنها سجلت بنفس الوقت ضربة حظ أخرى أنقذته من الموت وقد كان على بعد خطوات منه .
لم يستمر الحال متوطدا بين زعماء الثورة إذ بدأت مظاهر الخلاف تدب بينهم وتكشف عن نفسها علنا بسرعة كبيرة , وما هي الا أسابيع قليلة حتى أخذ الحال ينقلب على عبد السلام عارف وبدأ مسلسل تجريده من مناصبه يجري بالتتابع ووفق خطة منظمة حتى وصل الامر الى إعتقاله واحالته للمحكمة العسكرية العليا الخاصة بتهمة تأمره على الثورة ومحاولته إغتيال قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم . انتهت المحاكمة بالحكم على عبد السلام عارف بالاعدام ثم تبعتها عملية تصفية كبار أتباعه وأنصاره الموجودين بالجيش وجميع المحسوبين عليه . وبعد اشهر قليلة وقعت محاولة إنقلابية قادها العقيد عبد الوهاب الشواف أمر اللواء الخامس الذي يقع مقره في مدينة الموصل حيث جرى قمعها وتصفية المشاركين فيها بطرق وحشية فاقت التصور . أدى هذا الوضع الى توتر الاوضاع بالبلاد واصبح الشيوعيون يسيطرون على الشارع تماما وراحت المظاهرات الهستيرية تندلع بطول البلاد وعرضها مطالبة بالقضاء على جميع معارضي نظام الحكم من القوميين والبعثيين ومتوعدة كل من لا يتلائم تفكيره مع روحية الثورة بالتصفية والسحل . كان قاسم معروفا في وحدته بانه قومي التفكير والتوجه , بل كان أغلب من يعرفونه يعتبرونه من رجال عبد السلام عارف , وهو أمر أصبح خطرا جدا في حينها بعد إتهام عبد السلام بالتأمر على الثورة ومحاولة تصفية قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم . وفي صباح احد ايام ربيع عام 1959 تجمع جنود وضباط مدرسة الهندسة الالية الكهربائية في ساحة عرضات الوحدة واخذوا يرددون هتافات حماسية مؤيدة للثورة ومناصرة للحزب الشيوعي العراقي وارتفعت نبرات الهتاف بشكل هستيري غير منضبط , فما كان من المساعد غير الحضور لغرفة الأمر والطلب منه بان يخرج الى ساحة العرضات ويلتقي بالجموع المتجمهرة وان يلقي فيهم كلمة تهديء من حماسهم وتدفعهم الى فض التجمع والعودة لممارسة اعمالهم اليومية . لم يتأخر المقدم الركن قاسم عن هذا الطلب وبالفعل خرج اليهم وراح يخطب بهم كلمة ذات مضامين قومية لم تتوافق على ما يبدوا مع وتيرة تفكيرهم فأشتد الصياح والهرج واصبح الموقف على وشك الخروج عن السيطرة . أحس المقدم قاسم من ما يجري أمامه بالخطر الشديد وشعر بان الجنود ربما سينقضون عليه في اي لحظة ويسحلوه كما حدث في وحدات عسكرية اخرى قام الجنود فيها بسحل أمريهم بتهمة عدم تأييد الثورة او العمل ضدها . أنسحب قاسم من ساحة العرضات وهرع الى غرفته الواقعة في مقر المدرسة وبعض الجنود يركضون خلفه يريدون القبض عليه والنيل منه ولم ينقذه من المصير المحدق الذي بات على وشك أن يطبق عليه سوى ضربة من ضربات الحظ حيث كانت غرفته ذات بابين واحد يطل على باحة الوحدة وساحة العرضات والباب الثاني يطل على الخارج حيث تقف سيارته الجيب وفيها سائقه . دخل قاسم بسرعة الى داخل الغرفة وخرج من الباب الثاني حيث قفز إلى سيارته بسرعة وطلب من سائقة المغادرة فورا والذهاب به الى مقر وزارة الدفاع حيث قام هناك بتثبيت وقائع ما حدث ثم عاد الى منزله بانتظار الاوامر . لم تمضي على هذا الحدث سوى أيام قليلة حتى صدر مرسوم جمهوري بأحالة عدد من الضباط المحسوبين على عبد السلام عارف على التقاعد ومن بينهم المقدم الركن قاسم , وبذلك أنتهت هذه الصفحة من صفحات حياة هذا الضابط الشاب الذي لم يكن له ذنب في خروجه من الجيش بهذه الرتبة الصغيرة سوى كونه صديقا لأحد الرجال الذين جلبهم القدر وجعل لهم دور فاعل في تاريخ العراق الحديث , لكنها سجلت بنفس الوقت ضربة حظ أخرى أنقذته من الموت وقد كان على بعد خطوات منه .
(3)
اصبح
قاسم الشالجي ضابط متقاعد وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين من العمر
فراح يبحث عن أي وسيلة يعتاش عليها تناسب مع وضعه وحالته . اخذ يراجع
الكثير من معارفه واصدقائه بحثا عن فرصة عمل لكن الجميع كانوا يتملصون منه .
ومن بين من راجعهم تجار وصناعيين كبار كانوا يترددون عليه كثيرا حين كان
يشغل منصب رئيس لجنة مشتريات وزارة الدفاع حيث كانت غرفته تعج بهم حتى انه
كان يضطر لأن يطلب من الجنود والمراسلين جلب كراسي اضافية لعدم وجود مكان
لجلوسهم في غرفته , إلا أنهم لم يلاقوه بنفس الوجه الذي كانوا عليه حين كان
بذلك المنصب , بل أن كثير منهم كانوا يتهربون منه ويتحاشون حتى لقاءه .
عرف قاسم بان ألأمل بهؤلاء معدوم فجرب حظه في فتح مطعم بالكرادة بالمشاركة
مع احد اصدقائه لكن المطعم فشل وتمت تصفيته بعد مدة . ومن حسن الصدف ان
قاسم كان قد أرسل بعقد الخمسينات بدورة الى انكلترة بكلية سانت هيرتز
استمرت حوالي سنتين , وهناك اتقن اللغة الانكليزية وصار يتحدثها بطلاقة .
كان معه بنفس تلك الدورة ضباط رفيعين من بينهم الزعيم الركن عبد الكريم
قاسم واللواء الركن غازي الداغستاني . وفي احد الايام سمع بوجود وظائف
شاغرة لدى شركة نفط البصرة التي كان يديرها الإنكليز فتقدم اليها على
اعتبار انه فني ويتقن اللغة الانكليزية فتمت مقابلته وقبل بالوظيفة وجرى
التعاقد معه وتم تعينه لدى الشركة المذكورة بوظيفة رفيعة هي مدير لقسم
السلامة وبراتب كبير ومحترم .
أنتقل قاسم على ضوء هذا التعيين الى مدينة البصرة مع عائلته وإبتسمت الحياة بوجهه بعد أن ظلت معبسة لقرابة العام وفتحت النعمة أبوابها له بشكل لم يكن يتوقعه ولا ينتظره . بقي قاسم بهذه الوظيفة لحوالي سبع سنوات حتى انه اصبح معروفا بأوساط البصرة ومحافلها وكان سعيدا جدا بما هو فيه ولم يكن لديه اي شيء يعكر حياته . وفي تشرين اول من عام 1965 زار عبد السلام عارف حين كان رئيسا للجمهورية مدينة البصرة وكان قاسم أحد مستقبليه هناك لصداقته بالرجل اولا ولكونه قد أصبح من وجهاء مدينة البصرة ثانيا . تفاجيء عبد السلام عارف برؤية صديقه القديم قاسم هناك وسأله عن احواله فشرح له كل ما مر به طيلة السنين الي مرت به . اراد الرئيس ان يصلح بعض ما مر به صديقه وما اصابه من حيف وأذى لكونه كان محسوبا عليه فطلب منه بان يستقيل من شركة نفط البصرة وان يأتي الى بغداد ليعينه بمنصب معاون مدير مصلحة الكهرباء الوطنية واعدا اياه بان يجعله مديرها العام بعد عدة أسابيع لانه يخطط لتعيين مديرها (جهاد احمد فخري) وزيرا للصناعة . ثم أمله اكثر بان وعد بتعيينه وزيرا ايضا في مدة لا تتجاوز السنة . أغتر قاسم كثيرا بتلك العروض وسارع الى إتخاذ قرار إرتجالي متهور وتقديم استقالته من شركة نفط البصرة وتخلى عن راتبها العالي المغري الذي كان يفوق حتى راتب الوزير بالدولة العراقية وفقد جميع إمتيازاتها التي كان يتمتع بها وسافر الى بغداد حيث تعين معاونا لمدير مصلحة الكهرباء الوطنية . ونتيجة لهذا التعيين صار قاسم من بطانة الرئيس عبد السلام ومن مرتادي القصر الجمهوري وممن يصاحبونه بإستمرار اينما ذهب أو حل ويحضرون كل المناسبات الرسمية التي يحضرها .
وفي نيسان عام 1966 قرر الرئيس عبد السلام عارف زيارة البصرة مرة أخرى لافتتاح بعض المشاريع الحيوية وكان ممن ورد اسمهم بالوفد المرافق للرئيس بهذه الزيارة صديقه قاسم الشالجي . كان قاسم يلازم الرئيس عبد السلام عارف في كل جولاته بمناطق البصرة المختلفة لمعرفته الجيدة بها , وكثيرا ما كان يركب نفس الطائرة المروحية التي تقله من مكان لأخر . وعند ذهاب الرئيس الى مدينة القرنة صادف ان يكون ذهاب قاسم الى هناك بتلك المرة بسيارة تعود لمصلحة الكهرباء بصحبة صديقه (صبيح الجنابي) الذي كان يشغل ايضا منصب المعاون الثاني لمدير مصلحة الكهرباء الوطنية , وهو ايضا ضابط سابق ومن المحسوبين على الرئيس عبد السلام عارف . وبعد انتهاء مراسيم الاحتفال والقاء الرئيس لكلمة رنانة بالجماهير المتجمعة هناك لتحيته توجه الرئيس الى طائرته المروحية للعودة الى مدينة البصرة حيث ستكون هناك حفلة بالمساء تقام على شرفه في فندق شط العرب بمدينة البصرة . كان قاسم يرافق الرئيس بكل تحركاته وحين صعد الى الطائرة التي ستعيده الى البصرة صعد معه وجلس بمقعد يقع خلف الرئيس مباشرة , لكن القدر اراد غير ذلك وقرر أن لا يعود قاسم مع الرئيس بنفس الطائرة . فقبل أقلاع الطائرة بدقائق أطل من بابها صبيح الجنابي وسلم على الرئيس والموجودين معه ثم قال لصديقه الذي اتى معه إلى القرنة
- قاسم ... احنا مو جينا سوه بالسيارة ليش تخليني ارجع وحدي ؟
شعر قاسم بالأحراج فلم يكن امامه غير ان يستأذن من الرئيس ويطلب منه بان يسمح له بالعودة بنفس السيارة التي تحمل صديقه صبيح الجنابي . أذن الرئيس لصديقه قاسم الذي غادر الطائرة ليعود بالسيارة مع صديقه صبيح الجنابي الى دار الاستراحة العائد لمصلحة الكهرباء الوطنية الواقع بمنطقة النجيبية في مدينة البصرة حيث استراحا قليلا ثم ارتديا ملابس السهرة وتوجها الى فندق شط العرب لحضور حفلة العشاء المقامة على شرف الرئيس . تأخر الرئيس عن الحضور ومر الوقت والجميع بانتظاره . وبحوالي الساعة الثامنة مساءا اصبحت تدور بالموقع حركة غير طبيعية تنم عن القلق والارتباك وأخذ بعض الاشخاص يأتون من خارج الفندق ويهمسون بأذان بعض الوزراء الحاضرين ثم يخرجون بسرعة . وبحوالي الساعة التاسعة ليلا اعلن عن الغاء الحفلة وطلب من الجميع المغادرة دون الافصاح عن سبب ذلك أو أي شيء أخر . عاد قاسم مع صديقه الى دار الاستراحة وهما يشعران بان حدثا ما لابد وان يكون قد حصل لكنهما لم يتوقعا ابدا بان مكروها قد حصل للرئيس . وبالصباح الباكر اعلن من دار الاذاعة عن وفاة الرئيس بحادث تعرضت له طائرته المروحية ففجع الجميع بذلك الحدث ومن بينهم طبعا صديق الرئيس قاسم .
قيل عن هذا الحادث الغريب بانه قضاء وقدر وان سقوط الطائرة كان بسبب هبوب عاصفة مفاجئة , لكن الحقيقة لم تعرف ابدا . ومما سمعه قاسم من المشاركين بوفد الرئيس بان عبد السلام عارف لم يفارق الحياة الا بالساعة الرابعة فجرا وانه زحف حوالي ٢٠٠ متر مبتعدا من مكان سقوط الطائرة بأمل ان يلقاه احد وينقذه ، لكن فرق التفتيش لم تخرج للبحث عنه الا صباح اليوم التالي وهذا الامر لوحده يدفع الى الكثير من التساؤل . أتصل قاسم على وجه السرعة بعائلته في بغداد لكي يطمتنهم على نفسه لأنه توقع بأن يكونوا قد قلقوا كثيرا عليه لانه اصبح كثيرا ما يرافق الرئيس بكل تحركاته . وفي اليوم التالي عاد من البصرة الى بغداد بالسيارة بعد أن أتاها بالطائرة التي أقلت الرئيس . وعلى طول الطريق الذي قطعه برحلة العودة كان مطبقا ويفكر بالقدر الذي نجاه الله منه بأعجوبة تكاد لا تصدق , حتى أن الضحكة أخذته وهو يتذكر ما حدث وظل يقهقه بصوت مسموع . وحين سمعه بعض أصدقائه الذين يرافقوه بالسيارة وهو يقهقه سألوه عن السبب وعن ما يدور في مخه فجعله يقهقه من غير مناسبة فقال لهم
- هذا القدر عجيب أمره فلمرات عديدة صرت بمواجهة الموت بشكل مباشر ووجها لوجه معه, لكن في كل مرة كنت أراه أجده يدير وجهه عني ويتخطاني ليأخذ غيري في مصادفات غريبة عجيبة
تبددت مع موت الرئيس كل الاحلام التي حلم بها قاسم وتبخرت كل الوعود التي وعده بها فتقاعد مرة اخرى بعد مدة بسيطة وعاد الى الوضع الغير ميسور الذي كان به بعد خروجه من الجيش اول مرة . عاش قاسم بعد هذه الحادثة لقرابة 44 عام لكنه لحق أخيرا بقافلة كل من رحلوا قبله من اصدقائه ومعارفه .
أنتقل قاسم على ضوء هذا التعيين الى مدينة البصرة مع عائلته وإبتسمت الحياة بوجهه بعد أن ظلت معبسة لقرابة العام وفتحت النعمة أبوابها له بشكل لم يكن يتوقعه ولا ينتظره . بقي قاسم بهذه الوظيفة لحوالي سبع سنوات حتى انه اصبح معروفا بأوساط البصرة ومحافلها وكان سعيدا جدا بما هو فيه ولم يكن لديه اي شيء يعكر حياته . وفي تشرين اول من عام 1965 زار عبد السلام عارف حين كان رئيسا للجمهورية مدينة البصرة وكان قاسم أحد مستقبليه هناك لصداقته بالرجل اولا ولكونه قد أصبح من وجهاء مدينة البصرة ثانيا . تفاجيء عبد السلام عارف برؤية صديقه القديم قاسم هناك وسأله عن احواله فشرح له كل ما مر به طيلة السنين الي مرت به . اراد الرئيس ان يصلح بعض ما مر به صديقه وما اصابه من حيف وأذى لكونه كان محسوبا عليه فطلب منه بان يستقيل من شركة نفط البصرة وان يأتي الى بغداد ليعينه بمنصب معاون مدير مصلحة الكهرباء الوطنية واعدا اياه بان يجعله مديرها العام بعد عدة أسابيع لانه يخطط لتعيين مديرها (جهاد احمد فخري) وزيرا للصناعة . ثم أمله اكثر بان وعد بتعيينه وزيرا ايضا في مدة لا تتجاوز السنة . أغتر قاسم كثيرا بتلك العروض وسارع الى إتخاذ قرار إرتجالي متهور وتقديم استقالته من شركة نفط البصرة وتخلى عن راتبها العالي المغري الذي كان يفوق حتى راتب الوزير بالدولة العراقية وفقد جميع إمتيازاتها التي كان يتمتع بها وسافر الى بغداد حيث تعين معاونا لمدير مصلحة الكهرباء الوطنية . ونتيجة لهذا التعيين صار قاسم من بطانة الرئيس عبد السلام ومن مرتادي القصر الجمهوري وممن يصاحبونه بإستمرار اينما ذهب أو حل ويحضرون كل المناسبات الرسمية التي يحضرها .
وفي نيسان عام 1966 قرر الرئيس عبد السلام عارف زيارة البصرة مرة أخرى لافتتاح بعض المشاريع الحيوية وكان ممن ورد اسمهم بالوفد المرافق للرئيس بهذه الزيارة صديقه قاسم الشالجي . كان قاسم يلازم الرئيس عبد السلام عارف في كل جولاته بمناطق البصرة المختلفة لمعرفته الجيدة بها , وكثيرا ما كان يركب نفس الطائرة المروحية التي تقله من مكان لأخر . وعند ذهاب الرئيس الى مدينة القرنة صادف ان يكون ذهاب قاسم الى هناك بتلك المرة بسيارة تعود لمصلحة الكهرباء بصحبة صديقه (صبيح الجنابي) الذي كان يشغل ايضا منصب المعاون الثاني لمدير مصلحة الكهرباء الوطنية , وهو ايضا ضابط سابق ومن المحسوبين على الرئيس عبد السلام عارف . وبعد انتهاء مراسيم الاحتفال والقاء الرئيس لكلمة رنانة بالجماهير المتجمعة هناك لتحيته توجه الرئيس الى طائرته المروحية للعودة الى مدينة البصرة حيث ستكون هناك حفلة بالمساء تقام على شرفه في فندق شط العرب بمدينة البصرة . كان قاسم يرافق الرئيس بكل تحركاته وحين صعد الى الطائرة التي ستعيده الى البصرة صعد معه وجلس بمقعد يقع خلف الرئيس مباشرة , لكن القدر اراد غير ذلك وقرر أن لا يعود قاسم مع الرئيس بنفس الطائرة . فقبل أقلاع الطائرة بدقائق أطل من بابها صبيح الجنابي وسلم على الرئيس والموجودين معه ثم قال لصديقه الذي اتى معه إلى القرنة
- قاسم ... احنا مو جينا سوه بالسيارة ليش تخليني ارجع وحدي ؟
شعر قاسم بالأحراج فلم يكن امامه غير ان يستأذن من الرئيس ويطلب منه بان يسمح له بالعودة بنفس السيارة التي تحمل صديقه صبيح الجنابي . أذن الرئيس لصديقه قاسم الذي غادر الطائرة ليعود بالسيارة مع صديقه صبيح الجنابي الى دار الاستراحة العائد لمصلحة الكهرباء الوطنية الواقع بمنطقة النجيبية في مدينة البصرة حيث استراحا قليلا ثم ارتديا ملابس السهرة وتوجها الى فندق شط العرب لحضور حفلة العشاء المقامة على شرف الرئيس . تأخر الرئيس عن الحضور ومر الوقت والجميع بانتظاره . وبحوالي الساعة الثامنة مساءا اصبحت تدور بالموقع حركة غير طبيعية تنم عن القلق والارتباك وأخذ بعض الاشخاص يأتون من خارج الفندق ويهمسون بأذان بعض الوزراء الحاضرين ثم يخرجون بسرعة . وبحوالي الساعة التاسعة ليلا اعلن عن الغاء الحفلة وطلب من الجميع المغادرة دون الافصاح عن سبب ذلك أو أي شيء أخر . عاد قاسم مع صديقه الى دار الاستراحة وهما يشعران بان حدثا ما لابد وان يكون قد حصل لكنهما لم يتوقعا ابدا بان مكروها قد حصل للرئيس . وبالصباح الباكر اعلن من دار الاذاعة عن وفاة الرئيس بحادث تعرضت له طائرته المروحية ففجع الجميع بذلك الحدث ومن بينهم طبعا صديق الرئيس قاسم .
قيل عن هذا الحادث الغريب بانه قضاء وقدر وان سقوط الطائرة كان بسبب هبوب عاصفة مفاجئة , لكن الحقيقة لم تعرف ابدا . ومما سمعه قاسم من المشاركين بوفد الرئيس بان عبد السلام عارف لم يفارق الحياة الا بالساعة الرابعة فجرا وانه زحف حوالي ٢٠٠ متر مبتعدا من مكان سقوط الطائرة بأمل ان يلقاه احد وينقذه ، لكن فرق التفتيش لم تخرج للبحث عنه الا صباح اليوم التالي وهذا الامر لوحده يدفع الى الكثير من التساؤل . أتصل قاسم على وجه السرعة بعائلته في بغداد لكي يطمتنهم على نفسه لأنه توقع بأن يكونوا قد قلقوا كثيرا عليه لانه اصبح كثيرا ما يرافق الرئيس بكل تحركاته . وفي اليوم التالي عاد من البصرة الى بغداد بالسيارة بعد أن أتاها بالطائرة التي أقلت الرئيس . وعلى طول الطريق الذي قطعه برحلة العودة كان مطبقا ويفكر بالقدر الذي نجاه الله منه بأعجوبة تكاد لا تصدق , حتى أن الضحكة أخذته وهو يتذكر ما حدث وظل يقهقه بصوت مسموع . وحين سمعه بعض أصدقائه الذين يرافقوه بالسيارة وهو يقهقه سألوه عن السبب وعن ما يدور في مخه فجعله يقهقه من غير مناسبة فقال لهم
- هذا القدر عجيب أمره فلمرات عديدة صرت بمواجهة الموت بشكل مباشر ووجها لوجه معه, لكن في كل مرة كنت أراه أجده يدير وجهه عني ويتخطاني ليأخذ غيري في مصادفات غريبة عجيبة
تبددت مع موت الرئيس كل الاحلام التي حلم بها قاسم وتبخرت كل الوعود التي وعده بها فتقاعد مرة اخرى بعد مدة بسيطة وعاد الى الوضع الغير ميسور الذي كان به بعد خروجه من الجيش اول مرة . عاش قاسم بعد هذه الحادثة لقرابة 44 عام لكنه لحق أخيرا بقافلة كل من رحلوا قبله من اصدقائه ومعارفه .
-
تمت -