اخر المواضيع في المدونة

الأحد، 8 أكتوبر 2017

همسات عابرة - الكهولة



الكهولة هي الانحدار بالعمر وتناقص القدرة والضعف المتواصل والمستدام . يقول البعض انها تبدأ في نهاية الأربعينات من العمر , لكن الكثيرون لا يعترفون بانهم وصلوها الا بعد تخطي الستين . ومن حسن الحظ أن ان الانحدار نحو الكهولة يختلف بدرجة كبيرة من شخص لآخر ، فمن الناس من يبدو عليهم الهرم قبل الأوان بوقت طويل ، ومنهم من يحتفظ بنضارة الشباب الى مرحلة متأخرة من العمر . لكن , ما ان ندخل هذه المرحلة حتى يصبح كل شيء في حياتنا سقيما لأن للكهولة مكاره وقبائح ومساويء لا يحتملها الا من دعت له أمه يوم مولده بدعوة عظيمة مستجابة . ان من المضحك ان نقول كهولة ولا نقول شيخوخة وكأننا نجامل أنفسنا ونفرحها حتى لا نجعلها تبتأس مما هي فيه ومما اصبحت عليه . للكهولة اللعينة او بكلمات ادق للشيخوخة القبيحة مفارقات عديدة اهمها ان كل مافينا يصبح يسير عكس ما نريده ونتمناه . فكل ما كان جميلا وبديعا ويفيض حيوية فينا ياخذ بالأبحار بعيدا ليحط رحاله في أرض مقفرة ويابسة لا حياة فيها . وكل ما وددناه ان يبيض فينا نجده يسود وكل ما احببنا ان يسود فينا نراه يبيض , حتى لتكاد صورتنا تبدو وكأنها صورة سالبة (جامة) لما كنا عليه .


الوجه لا تسال عنه وما يحل به عند الكهولة , فأكثر ما تعلن الكهولة عن وجودها فيه هو هذا الجزء من الجسم وكأنها تقصده من دون كل باقي الاعضاء . فأول ما يغيب عن الوجه هو الصفاء لترتسم بدله الخطوط وتغزو كيانه الشقوق التي تزداد عمقا يوما بعد يوم . لا يتوقف الحال عند هذا , فكل ما في الوجه يتدلى الى الاسفل وكل ما بالجبين يتقوس الى الاعلى وكأن الوجه قد صار طوبة راح الزمن يمطها فلا يتركها الا وقد صارت كأنها علوجة . الاجزاء الجميلة بالوجه تغور وتنزوي خجلة كالعينين والشفاه , والاجزاء المكروهة كالأنف والاذنين تشمر عن نفسها مظهرة وجودها بشموخ . الشعر الذي نريده اسودا وقويا وغزيرا في فروة الرأس يبيض وتزول حيويته ويخف هناك , بينما يقوى وينشط ويقوى حيث لا نريده فيمد اذرعه الى خارج الاذنين والأنف معلنا عن وجوده بأباء وأصرار .  الاسنان تتساقط مما يجعل الوجه منكمشاً الى الداخل , والنفس يصير كريها بسبب الجسور والشوارع التي تفتتح بالفم . النظر يضعف فتصبح النظارة ضرورية حتى ينتهي الأمر بأن تصبح جزءا لا يتجزأ من الوجه , والسمع يضعف حتى تصير راحة اليد جزءأ مكملا لصيوان الاذن . ينتهي الحال بان المرء يصبح يتحاشى النظر الى وجهه بالمرأة حتى لا تزول صورته الجميلة عن باله .    



اما في الجسد فليس الحال بأفضل مما حل بالوجه , فبدلا من الهامة المنتصبة تصبح قامتنا عوجاء بسبب الانحناء في الظهر , وبدلا من النعومة الجميلة تحل الخشونة المكروهة , وبدلا من الحيوية يسود الضمور . الطول يقصر لأن العظام تفقد محتوياتها من الكالسيوم وتصبح هشة اكثر قابلية للكسر . الصحة تزول معالمها ويصبح الجسم أكثر تعرضاً للأمراض , والآلام تسود مواضعها ويصبح الانسان بالوعة للادوية والمسكنات . والاسوأ من هذا كله هو ان كل ما أحببناه ان يلين بالجسم نجده يشتد وكل ما اردناه ان يشتد به نراه يلين .

 
عند الكهولة يتغير كل شيء بأنحدار شديد , فالذكاء يزول والغباء يقوى والنسيان يسود والكأبة تعم وسرعة الأستيعاب تقل . التشاؤم يكثر وألنظرة المشرقة للحياة تختفي والتفاؤل بالقادم يغيب . الحيوية تضمحل والغفوة والنعاس تداهم بكل وقت من غير ميعاد . خيبة الامل تقوى والأحباط يسيطر والشعور بالفشل يطغى والانقباض النفسي يهيمن . اليوم يصبح خاويا فارغا والشعور بالوحدة يملأ الأحساس . الامل بالمستقبل يتلاشى والندم على الفرص الضائعة التي مرت يشغل التفكير . الشعور بالمتعة يختفي والرغبة بالصحبة والأتصال بالناس تضعف والحاجة للمساعدة تقوى . الكرم يقوى عند من كان كريما والبخل يشتد عند من كان بخيلا . حب الاطفال يقوى ويتجسد بالتعلق الشديد بالاحفاد , او عكس ذلك تماما اذ يمكن ان يصاحب الكهولة كره شديد للاطفال وعدم تحملهم .  

 
الخوف من المجهول يهيمن على الافق والخشية من الموت تملأ الأذهان والتفكير بالحياة الأخرى يسيطر على المخ والاكثار من زيارة القبور تغلب على الافعال . الأتجاه للتدين يغلب على التصرفات والأيمان بما كان يستخف به سابقا يغلب على الاحساس . تذكر الخطايا الكبرى التي مرت بالحياة ومحاولة التكفير عنها بهذا الفعل او ذاك يطغى على التصرفات والافعال . وربما العكس من هذا تماما , فالألحاد يمكن ان يقوى بالنفس والاستخفاف بالأفكار الدينية يغلب على الاحاسيس والشعور بضالة الفكر الديني يهيمن على العقل والأحساس بسخافة الطقوس الدينية يغلب على الفكر .

 
كل ما مر قابلا للأحتمال لكن الاخطر من هذا كله ان كل ما حدث بالطفولة المبكرة قد يمر ثانية بالكهولة اذا طالت مدتها حتى تصل الى ارذل العمر . حجلة المسير قد تعود الحاجة لها عند الكبر لأن الضعف قد يستفحل حتى يكاد المرء يترنح ويسقط ارضا من مجرد بعرورة ان وجدت بطريقه , وربما يصل الامر الى الحبو وعدم القدرة على المشي نهائيا . عدم وجود الأسنان والقدرة على المضغ من الأكيد انه سيحصل ثانية عن الكبر , والاسوأ من هذا كله ان الحفاظات قد تعود الحاجة اليها ايضا بالكبر . كل هذا يحدث عند الكهولة حتى يكاد الزمان يقهقه على المرء ويقول له بصوت عال في كل لحظة يعيشها "انتظر وسترى ماذا سافعل بك وكيف ساجعلك تكره الاستمرار بهذه الحياة بقدر ما كنت تحب البقاء فيها" .


وسام الشالجي
1 اكتوبر (تشرين اول) 2017