كان البث التلفزيوني قد بدأ في بغداد وانتشر
منذ العام 1956 , وقد اقتنت اغلب البيوت اجهزة لاستقبال البث التلفزيوني الذي كان
يبدأ بالساعة السادسة مساءا وينتهي بالساعة الحادية عشرة او الثانية عشرة حسب نوع
السهرة التي يقدمها . لم يكن البث يصل الى ابعد من مدينة بغداد وضواحيها , اما
المحافظات (الالوية في حينها) فكانت لا تعرف شيء اسمه تلفزيون وتعتمد فقط على
اجهزة الراديو لسماع الاخبار والاغاني والبرامج الفنية . كنا نعيش بالبصرة في
بداية الستينات وكنا نسافر الى بغداد لنقضي العطلة الصيفية كل عام مع الأهل هناك ,
وفي تلك العطل كنا نستمتع بمشاهدة التلفزيون الذي لم نكن نشاهده بالبصرة , وكم كنت
أغار من وجود التلفزيون عندهم وعدم وجوده عندنا بالبصرة . في عام 1963 تم افتتاح
محطتان للبث التلفزيوني قرب البصرة , واحدة في مدينة عبادان الايرانية القريبة
وواحدة في مدينة الكويت التي تبعد حوالي 173 كم عن البصرة . كان بث محطة تلفزيون
عبادان يصل الى البصرة بوضوح لقرب المدينة التي لم تكن تبعد اكثر من 65 كم , اما
بث محطة الكويت فلم يكن يصل واضحا الا بأيام الشرجي حين يكون الجو صحوا والرياح
جنوبية شرقية . اشترى لنا والدي في نفس ذلك العام جهاز تلفزيون قياس 23 انج من
شركة كتانة بالعشار وقامت الشركة البائعة بنصب هوائي (أريل) في سطح دارنا يتكون من
شبكتين , واحدة كبيرة وعريضة موجهة نحو مدينة عبادان والثاني وهو الاعلى طويل
ورفيع ينتهي من نهايته الخلفية بشبكة ملحقة عمودية متصلة به من المركز وموجه نحو
مدينة الكويت , وزودتنا بمفتاح يحول الاستقبال من اريل الكويت الى اريل عبادان
وبالعكس .
منذ ان امتلكنا التلفزيون في بيتنا بالبصرة
ابتدأت معنا تجربة من المعاناة المريرة اذ كان بث عبادان الذي نستلمه واضحا يبث
باللغة الفارسية التي لم نكن نعرفها وبالتالي لم يكن يعجبنا مشاهدتها , بينما بث
تلفزيون الكويت الذي كان بالعربية ونرغب بمشاهدته لم نكن نستلمه الا في أيام قليلة
حسب حالة الجو وغالبا ما يكون غير واضحا . كنت اصعد الى سطح الدار كل ليلة واقوم
بأعادة توجيه الهوائي بلفه يمينا او يسارا بينما تراقب اختي الأستلام من جهة
التلفزيون لكي تبلغني بالتوقف عن اللف حين نصل الى استقبال مرضي بعض الشيء .
المشكلة الاخرى كانت في كون الهوائي غير ثابت وكان يتغير اتجاهه كل يوم حسب الريح
التي تغير توجيهه مما يجعل اعادة التوجيه حالة مطلوبة يوميا مع كل عملية فتح
للتفلزيون . ومع ذلك كانت تلك الاوقات التي نشاهد بها التلفزيون من ابدع الاوقات
بالنيبة لنا , وكم كنا نفرح حين يكون استلام تلفزيون الكويت واضحا فنسعد بمشاهدة
برامج تلك القناة البديعة . ومن خلال مشاهدة تلفزيون الكويت تكونت عندنا بالبيت
ثقافة فنية كويتية حيث اصبحنا نعرف اسماء الممثلين واسماء المطربين الكويتيين
ونعرف مناسبات تلك الدولة ونطلع على فعالياتها ونشاطاتها , ولازلت اذكر لحد اليوم
بعض البرامج مثل برنامج (فكر وامرح) . كان امير دولة الكويت في حينها المرحوم عبد
الله السالم الصباح , ومن ذكرياتي ايضا اغنية وطنية للمطرب عبد اللطيف الكويتي غنى
بها لهذا الامير . كما كنا نشاهد حفلات الفنانين العرب الذين يزورون دولة الكويت
وانا اذكر جيدا اغنية عبد الحليم حافظ (يا
هلي يا هلي) التي غناها في الكويت . كان تلفزيون الكويت يبدا بالبث بالساعة
السادسة مساءا لغاية منتصف الليل عدا ايام الجمعة حيث يبدا بالبث بالسعة الرابعة
عصرا يليه الأفتتاح فلم عربي . كان البث اليومي يسبقه ساعة بث تجريبي يظهر فيها
شعار تلفزيون دولة الكويت على انغام مقطوعة (تحية) الموسيقية , وكنا نداوم على فتح
التلفزيون حتى بهذه الساعة لذلك انطبعت بذاكرتي تلك المقطوعة بشكل ثابت لا يمحى
ابدا .
استمر البث التلفزيوني المتقطع الذي يصلنا من
الكويت لغاية اوئل عام 1966 حين افتتحت الكويت محطة تقوية على الحدود العراقية
الكويتية قرب معبر صفوان موجهة خصيصا للعراق . ومنذ ذلك الوقت اصبح استقبال محطة
تلفزيون الكويت قويا ومنتظما لا يتاثر بحالة الجو . كان هذا الفعل مقصودا ارادت
الحكومة الكويتية من خلاله بث ثقافتها في
نفوس اهل البصرة وكسب جماهيىر تلك المنطقة الى جانبها وهذا عمل ذكي ومدروس ينم عن
معرفة عن مدى اهمية هذه الالة الأعلامية الخطيرة . اما قناة عبادان فنحن لم نكن
نعيرها اي اهتمام لعدم فهمنا اللغة التي كان يبث بها , ولم تكلف الحكومة الايرانية
نفسها في استغلال مثل هذه المحطة في الدعاية لنفسها عن طريق تخصيص بعض البرامج
لتبث باللغة العربية .
حقا كانت ايام جميلة وبديعة امتزجت باحاسيس
الطفولة الجميلة وذكريات الماضي الحلوة التي لا تمحى من الذهن ابدا .
رابط مقطوعة تحية الكويتية
وسام الشالجي
25 اكتوبر (تشرين اول) 2017