اخر المواضيع في المدونة

السبت، 20 أغسطس 2016

همسات عابرة - الصداقة

انعم الله على البشر بان جعل من اجمل ما في حياتهم هو وجود الاصدقاء , وجعل هؤلاء الاصدقاء سلوة الدنيا وأنسها وملاذها . فقد خلق تعالى الانسان متميزا عن باقي خلقه بان جعله مخلوق اجتماعي يحيا بجماعات ويعيش مع الاخرين , ولا يمكن له ابدا ان يخالف هذه الطبيعة ويبقى وحيدا . الصداقة الحقة ليست رابطا عابرا بين الناس بل هي واحدة من أسمى واروع العلاقات التي تربط بين الاشخاص في هذا الوجود , فبعد علاقة الانسان بوالديه تأتي علاقته بالأصدقاء حتى قبل مرتبة علاقته بالاخوة والأخوات . الصداقة حاجة وضرورة كالحاجة الى المظلة لا نحس بفائدتها الا حين يشتد المطر , والصديق مهم وغال كغلاء صحة الانسان لا نشعر بقيمته الا اذا فقدناها .  

الصديق وردة جميلة مفعمة بالحياة وخالية من الاشواك يفوح عبيرها وينتشر ليملأ كل ركن من اركان الحياة . والاصدقاء في حياتنا هم مجموعة من الزهور تختلف في الوانها واحجامها وروائحها لكنها تشكل معا باقة جميلة وبديعة تضيف للحياة رونقا وجمالا وتبعث فينا الامل وتمدنا بالرغبة بالعيش . تبدأ رحلتنا في تكوين باقتنا من الاصدقاء منذ الطفولة وتتواصل في سنواتها اللاحقة وتستمر طيلة العمر , غير ان الصداقات الحقيقية القوية والمتينة والدائمة لا تنشأ الا بمقتبل العمر . بعض الاصدقاء نحن من نسعى اليهم يجذبنا نحوهم العبير الزكي الذي يفوح منهم , والبعض الاخر منهم يسعون الينا من ذاتهم يدفعهم نحونا عبيرنا الذي أثر فيهم وشدهم . وبين هذا وذاك يشكل كل منا باقته من اصدقاء العمر والتي كثيرا ما تكتمل في اوج عمر الشباب . البعض منا من يكتفي ببضعة ورود في باقته من الاصدقاء يعوض قلة عددها كبر حجم الورود التي يختارها , وبعضنا الاخر يهوى جمع ورودا كثيرة لباقته فيكون لنفسه شدة كبيرة منها لكن كل ورودها تبقى صغيرة . وسواء كنا من هذا النوع او ذاك لا تتجسد نعمة الحياة علينا الا حين تهب لنا صديق , او بضعة اصدقاء يجتمع فيهم اغلب ما نريده , لا تربطهم بنا مصلحة أو فائدة , ولا يتصنعون معنا ولا يلبسون الاقنعة بوجهنا , فيصيرون كالنهر نمضي اليه كلما اشتد بنا الظمأ , ويصبحون الفضاء الواسع الذي نسعى نحوه كلما احتاجت ارواحنا لان تخلص من ضيقها وتتحرر من سجنها .


الاصدقاء اشكال وانواع مختلفة لكن الصديق الحقيقي هو من تجتمع فيه أفضل الصفات , وفيه اغلب ما يتمناه المرء بالصديق . الصديق الحقيقي هو الانسان الذي يعيش الى جانبك ويرافقك بدربك ويشابهك بأذواقك واهوائك , يسره ما يسرك ويحزنه ما يحزنك , يبكي لبكائك ويتوجع لألمك . والصديق الحقيقي هو المتنفس الذي تطلق من خلاله كل ما فيك من ضيق محصور بداخلك ولا تفارقه الا وقد ارتاحت نفسك وزال همك . والصديق الحقيقي هو من يساعدك على تجاوز كل ازمة او محنة تمر بها , لا يدفعه لهذا اجر سيكسبه او فائدة سيجنيها بل اخلاصه وحبه اليك . والصديق الحقيقي هو الذي يقبل عذرك و يسامحك إذا أخطأت بحقه ويدافع عنك بوجودك او بغيابك . والصديق الحقيقي هو الذي بينك وبينه عقد وميثاق حرر نصه من غير ورق وختم ذيله من غير تواقيع عاهدك فيه على البقاء دوما الى جانبك مهما جحد الزمن بحقك وساءت الاحوال معك وتكالبت عليك الصعاب , واقسم بان يظل معك حتى وان تركك كل الناس . والصديق الحقيقي هو الذي يوقفك اذا رأك تمضي بألاتجاه الخطأ ويدفعك الى الاتجاه الصحيح , ويصححك اذا اخطأت , وحتى يوبخك ان سرت بخلاف مصلحتك . والصديق الحقيقي هو الشخص الذي لا يغيره وقت يمضي ولا يبدله فرقا يطول ولا يؤثر على اخلاصه بعد المسافات بل يبقى على حاله وبنفس صفاته وبذات مواقفه مهما طال الغياب . والصديق الحقيقي هو الذي يفهم كلامك قبل ان تنطقه ويشعر بمشاعرك قبل ان تبوح بها ويستدل على نواياك قبل ان تشرحها لان اللغة بينكما تتحول الى موجات من الاثير تشعر بها الحواس وتفهم تفسيرها القلوب  .

  

بعض الاصدقاء يمرون في حياتنا ويذهبون على عجل وكأنهم طيور مهاجرة تحل بارضنا لهنينة ثم ما تلبث ان تغادرنا حتى من غير وداع تاركة عندنا مشاعر لا تخفت وحاملة على اجنحتها ذكريات لا تمحى ولا تغيب صورتها عن بالنا ابدا . والبعض الأخر من الاصدقاء يرافقوننا في كل ايام عمرنا , يسيرون الى جانبنا في دروب حياتنا كسير الخطوط الحديدية المتوازية لا تتقاطع مطلقا ولا تتفارق عن بعضها ابدا فيصيرون جزءا منا ويصبحون رفاق رحلتنا واصدقاء عمرنا . مثل هؤلاء الاصدقاء لا يمكن ان يوزن ثقلهم بميزان ولا تقاس مكانتهم بمقياس ولا يقدر أثرهم بمعيار .
كثيرون هم الاصدقاء الذين نصاحبهم في حياتنا , لكن كم منهم من يبقون مصاحبين لنا ويظلون ملازمين لنا ليصبحوا بالاخر اصدقاء العمر . تبقى باقتنا من الاصدقاء تتناقص مع الايام وتتساقط منها الاوراد كلما مر الزمن ولا يبقى بها بالأخر الا اصدقاء العمر , هؤلاء الذين التقينا بهم في اول الحياة وظلت أيديهم ممسكة بأيدينا حتى اخر يوم من أيامها . 
 

صديق العمر هو ذاك الشخص الذي نعود معه صغارا في كل مرة نلتقيه فيها ولا كأن زمنا طويلا قد مضى ولا سنين كثيرة قد مرت . صديق العمر هو الشخص الذي نسًر بمصاحبته ونرتاح للقائه ونشتاق لرؤيته ونأنس بالحديث معه . صديق العمر هو المرأة التي نرى أنفسنا فيها كما كانت في أوج العمر من غير تغير ولا تبدل . صديق العمر هو الخزنة التي نحفظ فيها كل سر اخفيناه , والمحفظة التي نودع فيها كل ثمين ملكناه . صديق العمر هو المفتاح الذي نفتح فيه كل الابواب الموصدة والشمعة التي تضيء لنا كل قتامة والجسر الذي نجتاز من عليه جميع الصعاب .

  

صديق العمر هو الثروة التي لا تنقص مهما انفقنا منها والكنز الذي نغرف منه كلما احتجنا . سعيد من لديه اصدقاء عمر حقيقيون , ومحظوظ من تبقيهم الاقدار ملازمين له ما بقي حيا .


وسام الشالجي
20 أب (اغسطس) 2016