في صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958 تم
تصفية افراد العائلة المالكة بالعراق بعملية قتل واعدام جماعي خارج اطار القانون
كان ضحيتها رجال ونساء وحتى اطفال . تمت العملية حين فتح النقيب (الرئيس) عبد
الستار سبع العبوسي نيران غدارته (رشاشته) ليصب اطلاقاتها الثمان وعشرون في ظهور
افراد العائلة المالكة وبعض من كانوا واقفون معهم في عملية اغتيال مروعة لم يكن
لها اي مسوغ قانوني او شرعي . ومع بداية هذا الرمي بدا ايضا جميع افراد القوة
المهاجة من جنود وضباط بافراغ مخازن اسلحتهم في ذلك الجمع البسيط من الرجال
والنساء المستسلمين والأعزلين من اي قطعة سلاح . لم تجري اي محاسبة او معاقبة على
القتل الذي جرى بتلك الواقعة لسبب بسيط هو انها كانت تقع ضمن رغبة ومجرى مياه الجهات
التي تحركت بصبيحة ذلك اليوم ممن يرومون تغيير النظام الحاكم .
وحتى لو سوغنا بان ما جرى في تلك الواقعة قد
فرض نفسه ضمن نطاق تداخل الاحداث وتشابكها وعدم وجود اوامر واضحة للمهاجمين في
كيفية التعامل مع افراد العائلة المالكة بعد استسلامهم مما ادى الى انفلات الوضع
وحصول احداث خارجة عن التقدير والسيطرة , لكن ما جرى بعدها ليس له اي تفسير . فبعد
تصفية العائلة المالكة صدرت الاوامر بفتح ابواب قصر الرحاب الملكي فدخلت جموع الناس التي كانت
محتشدة في الباب . كانت اغلب جثث القتلى قد رفعت من مكان المجزرة ولم يتبقى هناك
غير جثة الطباخ التركي . وما ان وصلت الجموع الى مسرح الواقعة ورأوا الدماء وجثة
الطباخ حتى فقد الجميع صوابهم كما يحصل للحيوانات المفترسة حين تشم رائحة الدم .
كان راديو بغداد مستمرا في دعوة الناس لان يهرعوا الى قصر الرحاب وانقاذ الثورة
وقتل وتمزيق اعدائها الملكيين . وتلبية لتلك الدعوات ما كان من تلك الحشود غير ان
يأخذوا جثة الطباخ المسكين التي وجدوها امامهم وراحوا يسحلونها منطلقين بها نحو
بوابة القصر ومنها الى الشارع العام . ظل الجميع يركضون بالجثة سحلا ويتناوبون على
جرها من اطرافها حتى وصلت الى بوابة معسكر الوشاش التي تقع على بعد حوالي كيلومتر من قصر الرحاب . وفي باب المعسكر
جيء ببعض غالونات البنزين من السيارات العسكرية التي كانت واقفة هناك وصبت على الجثة واشعلت بها النيران وتركت
هناك الى ان اتت عليها بالكامل .
من جانب اخر جرى نقل جثتي الملك فيصل الثاني
والامير عبد الاله بسيارة جيب عسكرية انطلقت مسرعة من القصر متجهة الى مستشفى
الرشيد العسكري فتبعتها بعض الجموع التي دخلت الى القصر . وعند وصول السيارة التي
تقلهما الى المنطقة المقابلة للمحطة العالمية جرى سحب جثة الامير عبد الاله من
سيارة الجيب حيث جرى خلع ملابسها وتم ربطها بالحبال ثم المباشرة في سحلها في
الشارع العام على الاسفلت في يوم ساخن يمثل قمة صيف بغداد الحار . بقيت الجثة تسحل
وسط هتافات وصراخ الساحلين ومن يمشي معهم من جمهور حتى وصلت الى الشارع المقابل
لجسر المأمون (الشهداء حاليا) حيث اخذت الجثة وعلقت في شرفة احدى البنايات وتناوب
عليها اصحاب السكاكين والقامات الذين اخذوا يقطعون الايدي والارجل ويرمونها
للمتظاهرين الواقفين بالشارع حيث كانوا يتلاقفونها ويركضون بها مهرولين عبر الشوارع والأزقة في صخب ولعب وضحك . كما قام احد الاشخاص بقطع ذكر الجثة وحشره في
دبرها وسط ضحك واستهزاء الجموع التي كانت واقفة تتفرج على ما يجري . وبعد برهة تم
انزال الجثة مرة اخرى وجرى مواصلة سحلها عبر الجسر ثم سير بها من خلال شارع الرشيد
حيث كان صوت نشيد (الله اكبر) المصري ينعر من سماعات المخازن والمقاهي الواقعة على
جانبي الشارع . استمر الموكب الرهيب بالمسير وكانت الحبال التي تجر الجثة قد بدأت
بتمزيق اوصالها , فقد كان
الوجه قد تهشم تماماً , وقد مر أحد الحبال من بين الأسنان وشق الفم والوجنة
اليمنى، وانكسر الفك وتدلى على جانب الوجه، بينما ارتفعت الوجنة الى الأعلى فبانت
الأسنان البيضاء في الوجه المشقوق ، وبدت العينان مفتوحتين وهما تنظران نظرة جامدة
الى من يفعلون بها تلك الافاعيل . لم يبقى من ملامح جثة الأمير إلا الجبين الواسع
وبعض الشعر الأسود الذي تعفر بتراب الشارع . وحين وصلت الجثة الى وزارة الدفاع كان
يتناوب على السحل اربعة من الفتيان لا يتجاوز عمر الواحد منهم الخمسة عشر عاماً يبدو
عليهم كأنهم تلاميذ مدرسة متوسطة ويتبعهم صبية حفاة الأقدام قذرين الملابس ، كلما
تعب واحد من السحل سلم الحبل لبديل من هؤلاء الأطفال والفتيان. وعلى جانبي الجثة المسحولة كانت
تسير مواكب غوغاء بغداد واوباشاها وهم في هرج ومرج وهتاف وصراخ . اغلقت النساء
شبابيك بيوتهن ورحن يبعدن أطفالهن عن التطلع على ذلك المنظر المرعب الذي تجمد له
الأطراف لهوله وبشاعته . وأخيراً وصل الموكب أمام البوابة الخارجية لمبنى وزارة
الدفاع، حيث وقف حشد كبير من الضباط والمراتب من مختلف وحدات بغداد يطلقون الرصاص
بالهواء ويهنئون بعضهم ويقدمون التهنئة والتأييد للثورة من خلال العقيد (عبد
اللطيف الدراجي) الذي احتل وزارة الدفاع . لم يتحرك أي من الضباط أو الجنود من
أماكنهم للتطلع على المنظر المقزز للميت المقطع الأوصال الذي جرى سحل جثته لمسافة
تقرب من ثلاثة كيلومترات ، بل لبثوا في أماكنهم يحيطون بالضابط الذي اصبح كما يبدوا سيد الموقف في ذلك المكان بمظهر يدل على مدى خنوع
الشخصية العراقية ومقدار تذللها امام اي مسؤول يشعرون بان القوة اصبحت الى جانبه .
وصلت
الجثة الممزقة أمام وزارة الدفاع حيث يوجد قبالتها مقهى كبير، والى جانب المقهى
يقوم بناء قديم من طابقين فصعد أحدهم متسلقاً العمود الكهربائي المجاور لذلك البناء
وعلق حبلا في شرفة الطابق الأول حيث وقفت في تلك الشرفة بعض النسوة والأطفال
يتفرجن على الشارع، وادليت الحبال وربطت بها حبال الجثة، وتصايح الواقفون، (ارفعوها)
، وبعد لحظات كانت الجثة ترتفع ثانية معلقة في الهواء وقد اندلقت امعاؤها ، وتسلق
عمود النور شاباً يحمل سكيناً بيده وطعن الجثة بالظهر عدة طعنات وراح بعدها يعمل بسكينه
في (الدبر) ثم اخذ يقطع اللحم صاعداً إلى فوق باتجاه الرأس . ومن الشارع جلبت عصا
طويلة بيضاء أدخلت في دبر الجثة ودفعت بها دفعا ، والضباط والمراتب ينظرون إليها
دون أن يتحركوا من أماكنهم . كان بعض الموجودين ينظرون باشمئزاز وامتعاض لما يجري
وعلى تلك المناظر الوحشية المقززة . وكانت خاتمة المطاف لجثة الأمير (عبدالإله) أن
تناوب عليها الغوغاء والأوباش تقطيعا ، وطافت اجزاؤها بمعظم شوارع بغداد ، أما ما
تبقى منها حتى مساء ذلك اليوم فقد صبت عليه صفائح البنزين ثم حملت البقايا
المحترقة وألقيت في نهر دجلة , كما ابتلع نهر دجلة ايضا أطرافها التي تبعثرت هنا
وهناك .
الامير عبد ألاله
ومع ان هذه الافعال لا يمكن تبريرها ابدا وهي تقع خارج نطاق تصرفات اصحاب العقول ومن يمكن ان يحسبوا على قوائم البشر السويين , لكن دعونا نلجأ الى الأعتقاد بان كل ما حدث بذلك
اليوم قد فرضته احداث ذلك اليوم الرهيب وان الجماهير التي انفلت عقالها وفعلت تلك
الافاعيل ربما قد فقدت صوابها من هول وجسامة ما حدث , لكن كيف يمكن لنا ان نفسر يا ترى
ما حصل باليوم التالي مع جثة الباشا نوري السعيد . فبعد مقتل نوري السعيد
في منطقة البتاوين بالقرب من ساحة النصر جاءت سيارة
عسكرية وحملت الجثة الى وزارة الدفاع ليطلع عليها عبد الكريم قاسم الذي لم يهدأ له
بال الا بعد ان تأكد بنفسه من انها جثة نوري سعيد . وفي مساء يوم 15 تموز اخذت الجثة من مركز الطب العدلي ودفنت في
مقبرة باب المعظم المجاورة بامر من عبد الكريم ودفن معها زجاجة تضم ورقة كتب فيها
اسم المتوفي وتاريخ الوفاة . لم ينتهي الامر عند هذا الحال لان احد الذين قاموا
بالدفن اذاع الخبر فجاءت جموع الغوغاء ونبشت القبر واستخرجت الجثة وربطت بالحبال
وجرى سحلها بالشوارع بنفس الطريقة التي سحلت بها جثة المرحوم عبد الاله . لم يكتفي
الامر بالسحل بل مثل ايضا بالجثة ابشع تمثيل وبشكل اثار اشمئزاز كل من رأى صور تلك
المشاهد البشعة . وفي احدى الساحات امر ضابطا كان يقود مجنزرة عسكرية جنوده بان
يمروا على الجثة بسرفة مجنزرته . مرت المجنزرة على الجثة من جهة الاطراف فما كان
منها غير ان ينتصب ظهرها بمنظر بدا للبعض وكأنها قامت من نفسها وانتصبت ففر كل من
حولها خائفين مما يدلل على مدى جبنهم . ظلت جموع الغوغاء تسحل الجثة طيلة يوم كامل
حتى وصل منظرها الى حال بشع تقشعر منه ابدان حتى الحيوانات , اذ اصبحت الجثة كتلة من اللحم الاسود ورائحتها تقزز النفوس . وفي
بداية شارع غازي (ألكفاح) تقدم احد الناس لينهي هذه المأساة وصب البنزين على الجثة
واشعل النيران بها فأحترقت وتحولت الى رماد انتشر في سماء وارض بغداد ثم اخذت
البقايا ووضعت في كيس (كونية) اخذها احد الناس الخيرين ودفنها في مقبرة الكاظمية في
منطقة لا يعرفها احد .
نوري السعيد
هذا ما جرى
بالنسبة للباشا نوري السعيد , غير ان مصيرا مماثلا قد حصل لابنه صباح نوري السعيد
. فبعد ان علم صباح بان والده قد قتل يوم 15 تموز ذهب الى دار الاذاعة الذي اصبح
المقر الرسمي لقادة الحركة مطالبا تسليمه جثة والده . وبينما هو في طريقه الى دار
الاذاعة إذا بشاحنة تحمل عددا من الشرطة يعترضون طريقه ويلقون القبض
عليه . كان
صباح السعيد مشهورا بالشجاعة فعندما أوقفوه ، قال لهم باستهزاء وشموخ ومن غير
خوف إنني ذاهب الى الاذاعة مطالبا بجثة
والدي ومع ذلك فانا مستعد إن اركب معكم حتى نصل بسرعة الى هناك , وبالفعل ركب معهم
. وعند وصولهم الى الاذاعة اراد صباح السعيد إن يدخل إلى مكتب احد المسؤولين
للمطالبة بجثة أبيه فمنعه احد الحرس من التقدم وبدأ الصراع بينهما إمام الباب وهو
يسمع المذياع يحرض الشعب على القتل والسحل والتمثيل علننا بكل رموز العهد الملكي ,
فبدأ يسب ويلعن جهرا من قاموا بالحركة التي تجاهلت أفضال أبيه على البلد والشعب .
ولما طال الصراع آمر المسئولون الحرس بإنهاء المعركة بإطلاق الرصاص علية فأسقطوه
صريعا . وما ان قتل المسكين وسالت دمائه حتى جن جنون الموجودين مرة اخرى وراحت
هرمونات الرغبة بالسحل والتمثيل تنصب في شراينهم فجرى اخراج الجثة من الاذاعة وربطت
بالحبال ووجرى سحلها والركض بها في الشوارع بمثل ما فعل بوالده الباشا . ثم جرى صلب الجثة على احد الاعمدة وقام
البعض بتقطيع الأيدي والأرجل في عملية تكررت كثيرا بتلك الايام حتى لم تبقى لجثث
الموتى اي حرمة اجتماعية او اعتبار ديني .
صباح نوري السعيد
نفس الامر تكرر مع اثنين من وزراء
الاتحاد الهاشمي العربي . فقد كان هناك اردنيان في بغداد صبيحة الرابع عشر من تموز
هما ممثلا الحكومة الاردنية وقد جاءا لحضور اجتماع وزارة الاتحاد التي كان يرأسها
المرحوم نوري السعيد هما المرحوم ابراهيم هاشم الذي كان نائب رئيس وزراء حكومة الأتحاد العربي وهاشم طوقان وزير دولة في تلك الحكومة , وكانا يقيمان في فندق بغداد الواقع بشارع السعدون . وبعد
اعلان الحركة لاسقاط النظام الملكي خرج المسكينان واستقلا سيارة تكسي في محاولة
للهرب من بغداد , لكن عند مرور السيارة في المنطقة الواقعة قرب ساحة النضال جرى ايقاف السيارة وانزل
منها الوزراء وجرى قتلهم وسحل جثثهم بالشوارع . كما جرى ايضا قتل وسحل ثلاثة مواطنين
أمريكان ومواطن ألماني كان قد قبض عليهم عن طريق الخطاء في اماكن متفرقة لكن
الغوغاء الذين فقدت الدولة السيطرة عليهم قاموا بقتلهم وسحلهم بالشوارع ايضا .
ان الاحداث
التي تم سردها اعلاه مما حدث بعد حركة الرابع عشر من تموز لايوجد لها اي تفسير سوى
ان الشخصية العراقية مصابة كما يبدوا في بواطنها بمرض (السادية) الذي هو واحد من
الامراض النفسية التي يمكن ان تصيب الانسان . غير ان الشخصية السادية العراقية تتصف
بناء على ما مر ذكره بصفتين اساسيتين , اولهما هي انها شرسة للغاية حين تتمكن من
ضحيتها وان ما يمكن ان يصدر عنها ليس له حدود ولا يمكن السيطرة عليه مطلقا اذا اصبح منفلتا , وهذا
يفسر الى حد كبير الاعمال المروعة التي وقعت بعد حركة الرابع عشر من تموز . الصفة
الثانية التي تتصف بها الشخصية السادية العراقية هي معاكسة للأولى , وهي انها خنوعة
وضعيفة الى درجة كبيرة امام القوة الجبروت , اي حين تتمكن منها القوى الخارجية ويسيطر
عليها الحاكم المتسلط الذي يحكمها . لذلك نرى بان العراقي يمكن ان يفعل اي شيء يطلبه
منه الحاكم القاسي , وانه مستعد حتى للتنكيل باقرب اقربائه كسبا لرضا الحاكم
الجبار القوي . لكن ما ان تدور الدائرة ويهوي ذلك الحاكم ويفقد قوته وجبروته حتى نرى
نفس من كان خنوعا له ينقلب عليه انقلابا كاملا ويصبح مستعدا لان يفعل به ما يعجز
المرء عن تصوره . ان هذا يؤيد ما خلص اليه علماء الاجتماع بان الشخصية العرقية ذات
ازدواجية مرضية , لكن مالم يفطن له هؤلاء العلماء هو ان تلك الازدواجية موجودة كما
يبدوا في كل حلقة من حلقات التصرف البشري في حالة الانسان العراقي . اي بكلمة اخرى
انها غير محصورة بنطاق واحد كما تصور البعض , وهو الخلط بين اخلاق وعادات الحضر
والبدو , بل انها موجودة كما يظهر في معظم ان لم يكن كل تصرفاتهم .
(نعتذر عن نشر صور المناظر المروعة احتراما للموتى ومراعاة لمشاعر القراء)
وسام
الشالجي
14 تموز
2015