بعد ان انهيت دراستي الابتدائية في
مدرسة عتبة بن غزوان في الطويسة بالبصرة اراد ابي ان يسجلني بكلية بغداد بالعاصمة
. كان يترتب على هذا ان انتقل الى بغداد , وكان هذا الامر مفرحا بالنسبة لي لاني ساكون
في مدينة بغداد التي احبها ولاني ساعيش في بيت جدي الذي ارتاح جدا فيه . وبعد سفرنا
الى بغداد كما اعتدنا كل عطلة صيفية ذهبنا انا واخي الكبير عصام الى كلية بغداد للتقديم
اليها . بهرت بالمدرسة حين رأيتها قياسا بالمدارس التي انتظمت بها سابقا بالبصرة ,
فقد اعجبت بتنظيمها وابنيتها وصفوفها وثلاجات الماء الموجودة في ممراتها والفاذرية
الذين يعملون بها والذين يبدون وكأنهم قساوسة . استلمنا استمارة التقديم وعدنا الى
البيت لملئها , وكانت معقدة ومكتوبة باللغة الانكليزية ولم افهم منها شيئا , لكن اخي
قام بملئها بسهولة لانه يعرف كلية بغداد جيدا فقد سبق وان داوم فيها لمدة سنتين قبل
انتقالنا الى البصرة . وبعد مليء الاستمارة ذهبنا الى الكلية
في يوم اخر لتسليمها فتم اعطائي باج فيه اسمي طلب مني ان اضعه على صدري يوم الامتحان
. كان امتحان القبول يتكون حسب ما فهمت من امتحان تحريري ومقابلة , وكنت اتصور باني
ساجتازه بسهولة اعتمادا على مستوى معرفتي باللغة الانكليزية . في يوم الامتحان استيقظت
مبكرا وارتديت ملابسي ووضعت الباج على صدري وذهبت الى الكلية بعد ان ركبت باص الامانة
رقم (48) الذي يمر بساحة عنتر حيث يقع بيت جدي ويصل بنهاية مساره الى شارع الاخطل حيث
تقع الكلية . ترجلت من الباص ومشيت قليلا ثم دخلت الى الكلية من بوابتها الرئيسية ونظرت
حوالي فرأيت جموعا كثيرة من الطلبة مع اهاليهم متجمعين امام الباب الداخلي . اخذ قلبي
يدق بقوة من الخوف والرهبة مما ينتظرني , فمع ان سني كان 12 سنة او اقل قليلا لكني
لم امر بمثل هذه التجربة وحدي من قبل . وفي تمام الساعة الثامنة فتحت الباب الداخلية
وظهر منها عدد من الفاذرية واخذ احدهم يتكلم بلغة عربية (مكسرة) طالبا من الاهالي الابتعاد
ومن الطلبة المتقدمين الاصطفاف بخط طولي امام الباب استعدادا للدخول . اندسيت بين الطلبة
المصطفين وتقدمت مع الركب السائر الى داخل
الكلية , وكان في الباب فاذر يتأكد من الباجات الموضوعة على الصدر والتي فيها رقم القاعة
ورقم الرحلة التي ساجلس عليها . تم توجيهي الى الصف المقرر حيث دخلت اليه وتوجهت الى
المقعد المخصص لي . كان المقعد يختلف عن الرحلات التقليدية التي اعتدت الجلوس عليها
بمدارس البصرة , وقد علمت فيما بعد بانه رحلة جامعية . تسلمت ورقة الاسئلة وبدأت بقرائتها فصعقت لاني
لم افهم منها شيئا وقد كانت من النوع الذي يجب فيه اختيار الجواب الصحيح من بين
الاجوبة المتاحة , وهي طريقة لم اعهدها من قبل . كانت مشكلتي الاساسية هي بعدم فهم
السؤال وليس بعدم معرفة الجواب , لذلك اضطررت الى وضع الاجوبة عن طريق الاختيار
العشوائي وليس بناء على ما اعرفه . خرجت من قاعة الامتحان الى الساحة الخارجية فتعجبت
حين رأيت بعض الطلبة يتناقشون في الاسئلة ويتجادلون بالاجوبة التي وضعوها بينما
كنت انا غير عارفا الجك من البك فيها . بعد انتهاء الفترة المقررة للامتحان التحريري
طلب منا الاصطفاف مرة اخرى للدخول الى المقابلة , وكما في الصباح تم توجيهي الى احدى
الغرف التي دخلتها فرأيت فيها فاذر يجلس وراء مكتب كبير عليه عدد كبير من الكتب
والاشياء الاخرى . استقبلني الفاذر بوجه بشوش ومبتسم وسألني عن اسمي , وربما كان
هذا السؤال الوحيد الذي عرفت ان اجاوبه طيلة ذلك اليوم . بعدها اخذ يسألني اسئلة
اخرى لم افهمها طبعا لكني استنتجت من بعض الكلمات التي وردت فيها بانه كان يسالني
عن عمل والدي واين اسكن ولماذا اريد التسجيل بالكلية واين ساقيم خلال فترة الدراسة
وغيرها من الاسئلة العامة . جاوبت ما استطيع ان اجيبه بصعوبة بالغة , ثم غادرت الغرفة والعرق يتصبب من جبيني
من شدة المواقف المحرجة التي مرت بي بذلك اليوم . وبعد انتهاء المقابلة
تجولت مع عدد من الطلبة المتقدمين في ارجاء الكلية وشاهدت الكنيسة الملحقة بها حيث
لاحظت وجود بعض القبور بحديقتها فقال لنا احد الطلبة بانها قبور بعض المدرسين
الذين عملوا بتلك المدرسة , كما شاهدت باصات المدرسة الصفراء والكراج الذي تنتظم
فيه . عدت الى بيت جدي بالظهيرة وانا احمل خيبة كبيرة , فلأول مرة بحياتي ادركت كم
انا ضعيف باللغة الانكليزية وكم ان طريقة تدريسها لنا كانت فاشلة ومغلوطة . بقيت انتظر
نتيجة القبول التي تأخرت بعض الشيء , حتى ان شهر ايلول كان قد بدأ واصبحت الدنيا تميل الى
البرودة خصوصا بالليالي بينما انا انتظر نتيجة التقديم الى كلية بغداد , وكانت هذه اطول
عطلة صيفية قضيتها في بغداد . وفي صباح احد الايام وصلنا ظرف بواسطة ساعي البريد من الكلية فيه رسالتين واحدة
موجهة لي شخصيا والأخرى لولي أمري . فتح اخي عصام الرسالة واخذ يقرأها لي , وكانت عبارة
عن كتاب اعتذار عن عدم قبولي بالمدرسة مصاغ بطريقة مؤدبة جدا اذ يقول بان قبولي سيكون
فيه مضرة لي اكثر مما هو مفيدا . اتصل اخي بوالدي وابلغه بالأمر فما كان منه غير ان
يطلب منا العودة للبصرة بسرعة لان العام الدراسي على الابواب . عدت للبصرة وكان الدوام
على وشك البدأ فسجلني ابي على عجل بمتوسطة المربد التي تقع خلف سوق الخضارة بالعشار
. وبتسجيلي بهذه المدرسة عدت الى نفس المشكلة التي عشتها كثيرا بالماضي بالبصرة , وهي
دوامي بمدارس ينتظم فيها طلاب ليس من شريحتي الاجتماعية بل اغلبهم من الفقراء جدا من
سكنة الصرائف والمناطق العشوائية . وكان ابي قد أستأجر في تلك الاثناء سائق لقيادة سيارته
, وكان هذا يأخذنا الى المدارس صباحا لكن كان يترتب علي العودة الى المنزل بعد الظهر
بنفسي حيث كنت اسير ماشيا سالكا الطريق من سوق الخضارة الى سوق المغايز فساحة ام البروم
لاستقل الباص الى منطقة الحكيمية حيث يقع بيتنا خلف معمل السينالكو , وكانت هذه تجربة
جديدة لي بحياتي اشعرتني بنوع من الاستقلالية واني قد كبرت قليلا . داومت
بتلك المدرسة البائسة للفصل الاول وتضايقت جدا من اوضاعها ومستوى الطلبة الذين
يدرسون فيها مما جعلني لا اطيق الاستمرار بها , ومع ذلك فقد تعرفت ببعض الطلاب
الذين هم من مستوى اجتماعي جيد مثل رعد كاظم بريج وابن عمه فالح حسن بريج الذي
اصبح فيما بعد المطرب فؤاد سالم . اصبحت اسمع بين الطلاب من يتحدثون عن متوسطة
التحرير الواقعة بشارع الجزائر وعن مستواها ومستوى الدارسين فيها فما كان مني غير
ان اطلب من ابي ان ينقلني اليها , وبالفعل استجاب والدي الى طلبي ونقلني الى تلك
المدرسة . احسست بالفرق الكبير منذ اليوم الاول لدوامي بتلك المدرسة لان المستوى
الاجتماعي لطلبتها كان يفرق كثيرا عن طلبة متوسطة المربد , وحتى مدرسيها كانوا مدرسين
مشهورين على مستوى البصرة . كانت المدرسة تقع مقابل مدرسة راهبات التقدمة بشارع الجزائر
, وتتكون من بناية ذات طابقين ومن غير سياج خارجي . داومت بتلك المدرسة سنتين ونصف
تقريبا وكانت ايامها من اجمل ايام حياتي لاني فيها بدأت مرحلة المراهقة وفيها
اصبحت أعي الاشياء , وفيها تعرفت على مدرسين انطبعت ذكراهم في خواطري . كما تعرفت
بتلك المدرسة على بعض الاصدقاء الاعزاء جدا والذين ظلت صداقتي متواصلة مع بعضهم
لسنين طويلة حتى بعد ان فارقتها . وطبعا من بين الاصدقاء الذي احببتهم وأحمد الله
باني على صلة به لحد الان صديقي العزيز نبيل جميل يونو . حقا لقد كانت مرحلة الدراسة
المتوسطة مرحلة جميلة , وربما كانت الاجمل من بين جميع مراحل دراستي . وهذه بعض صور كلية بغداد كما كانت في
اوائل الستينات حين تقدمت اليها .
وسام
الشالجي
3 حزيران
(يونيو) 2015