خاطرتي لهذا اليوم هي في الواقع نادرة من النوادر التي مرت بحياتي والتي لازلت
اتذكرها تفصيليا من غير ان انسى اي شيء فيها على الرغم من مضي حوالي 40 عاما عليها
. بالسبعينات حين كنت بالكلية كنت اسكن ببيت جدي , وكانت الاجواء فيه بذلك الوقت دينية
يملئها قدر كبير من التفكير الروحاني . فالممارسات الدينية واحياء المناسبات كانت تجري
بالبيت بكثرة , والتقرب من الاولياء والصالحين يجري على قدم وساق طيلة ايام السنة من
خلال زيارات نساء البيت الى اضرحة الائمة لكي تحل البركة على البيت وتدوم النعمة .
كما كانت الكثير من الظواهر الحياتية اليومية تؤول وتفسر بشكل روحاني بحت , فاذا احترق
مصباح بالبيت مثلا فهذا يعني بان الله فعل هذا ليحذرنا من أمر ما على وشك الحدوث ,
واذا دخل الى البيت الشخص الفلاني فأن مصيبة يمكن ان تحصل بالبيت لانه مشهور بكثرة
الحسد ويجب ان يشعل الحرمل بعد خروجه لطرد عينه قبل ان تصيب احدا بالبيت , وشجرة النبك
الموجودة في الحديقة يجب ان لا تمس ولا ترمى بالحجارة لاسقاط النبك لانها شجرة مباركة
, واذا دخلت بزونة (قطة) للبيت صدفة واخذت تلحس شعرها فهذا يعني بان هناك خطار (ضيوف)
سيأتون للبيت , واذا ركب حذاء فوق حذاء بعد
خلعه فان صاحب الحذاء سيسافر بسفرة قريبة , وغير ذلك الكثير من الافكار والتأويلات
مما يطول ذكره وليس من السهل حصره . ومن بين ما كان يجري هو وضع اشياء معينة هنا وهناك
لان لها قدرات عجيبة في حفظ الاشخاص وطرد العين وجلب الملائكة الصالحين , فغالبا ما تجد في مكان ما عقدة ملفوفة لا
يعرف ماذا بداخلها لجلب البركة , او ترى في مكان اخر ورقة مطوية فيها ايات قرأنية وادعية
لتحفظ من السوء , او تعثر في مكان ثالث على خرزة مباركة تطرد الارواح الشريرة , وغير
ذلك . ومع اني لم اكن متدينا , لكني لم اكن اتضايق من تلك الاشياء ابدا واعتدت عليها لأن طابعها خير ,
وربما حتى يجلب الطمأنينة الى النفس .
ومن بين ما كان يجري في يوم معين من ايام
السنة هو وضع صينية فيها بعض الطعام قرب شجرة النبكة بالحديقة وتشعل بها شمعة
وتفتح حنفية الماء الموجودة بالقرب منها لينساب منها قليلا من الماء وتترك حتى
الصباح على اساس ان روح الولي الفلاني ستحضر في تلك الليلة وتزور البيت , فاذا
وجدت الطعام واكلت منه وشربت من الماء فان بركة الولي ستحل على البيت وساكنيه طيلة
العام التالي , وفي اغلب الاحوال كانوا يجدون الصينية على حالها بالصباح مما يصيب نساء
البيت بالاحباط ويظنون بان الولي لم يأتي لان شيئا ما في البيت لا يرضيه . ومن
النوادر التي كانت تحصل هو انه قد يصادف في مثل تلك الليالي ان نسهر انا وخالي
(سعد) خارج البيت ونعود بساعة متأخرة , وحين نرى الصينية كنا نأكل شيء مما موجود
فيها ونغلق حنفية الماء ونحن خربانين من الضحك على ما سيحدث بعدها . وفي الصباح
كنا نسمع التكبيرات والتهليلات من قبل نساء البيت لان الصينية قد أكل منها مما
يعني بان الولي المقصود جاء بالليل وأكل من الطعام فرضي بذلك عن البيت وان بركته
ستحل علينا طيلة العام . كنا انا وخالي (سعد) نسمع تلك التهليلات ونضحك بداخل
انفسنا , لكننا كنا نكتم الامر ولا نبوح بشيء حتى لا نكسر الفرحة ونعكر الاجواء
العامة ونحبط من فرح وهلل بهذه الواقعة .
ومن النوادر الكبيرة التي حصلت بتلك الاجواء
هو ان خالتي قد جلبت في احد الايام لوحة كرتونية كبيرة فيها حروف مسطرة وايات
قرأنية وقالت لنا بانها تعلمت كيف تحضر الارواح , وانها تنوي هذه الليلة القيام
بجلسة لتحضير بعض الارواح لتسألها عن المستقبل . وفي الليل اطفئت الانوار بصالة
البيت وشعلنا شمعة كبيرة ووضعنا اللوحة على الارض واجتمع كل من في البيت بدائرة حولها
ووضعنا فنجان قهوة مقلوب على اللوحة ووضع كل واحد منا اصبعه ليمس الفنجان مسة رقيقة
بينما خالتي تردد بعض الايات وتنادي على الارواح للحضور . اصبحت الاجواء التي تحيط
بالجلسة مرهفة والكل بانتظار ان يتحرك الفنجان , لكنه لم يتحرك ابدا . وبعد ساعة
او ساعتين يأس الجميع وقالت خالتي بان الارواح لم تحضر ربما لان احدنا غير (طاهر)
, وطلبت منا ان نتطهر في اليوم التالي لكي نعيد الكرة . كنت اؤمن بان الامر كله
خرافة في خرافة , لكن خطرت على ذهني فكرة بان انصب على من في البيت من خلال قيامي بتحريك
الفنجان بنفسي على اساس ان روحا ما قد حضرت . ولكي اجعل الامر غير مشكوكا به حفظت اية
(غير دارجة) من القرأن الكريم وحفظت ايضا رقم صفحتها وقررت ان امثل حضور روح الولي
(عز الدين) الذي كثيرا ما كان يذكر اسمه ببيت جدي . اجتمعنا بالليل مرة اخرى حول
اللوحة ووضعنا اصابعنا على الفنجان بينما خالتي تنادي وتقرأ الايات القرأنية ,
وبعد برهة بدأت باصبعي تحريك الفنجان قليلا . هللت الوجوه وانطلقت التكبيرات ,
وطلبت خالتي من الروح التي حضرت بان تعرف عن نفسها , فما كان مني غير ان احرك
الفنجان على الحروف الواحد تلو الاخر لاسطر الاسم بينما خالتي تدون الكلمات بدفتر
جلبته لهذا الغرض , وما ان اكملت الكتابة حتى صاحت (اللهم صلي على محمد وعلى أل
محمد , هذه هي روح الولي - عز الدين - قد حضرت) . ولكي اجعل الامر يبدوا صادقا قمت
بالحركة على الحروف لكتابة الاية القرأنية التي حفظتها ثم اعطيت رقم الصفحة
الموجودة فيها . فتحت خالتي القرأن الكريم على الصفحة وما ان وجدت الاية حتى اخذت تكبر
وتهلل وكأن معجزة قد وقعت . اخذت الاسئلة توجه الى الروح المفترضة عن الكثير من
الاشياء وانا اخترع الاجوبة من عندي وانا خربان من الضحك بداخلي على تلك النصبة ,
لكن من غير ان اظهر ذلك علنا . وبعد حوالي ساعة من الاسئلة والاجوبة تعبت من تحريك
الفنجان فسطرت لهم بان الروح تعبت وانها تستأذنا بالانصراف فاختتمنا الجلسة .
صدق الجميع بما حصل ومن بينهم حتى خالي سعد ,
لكني في اليوم التالي بحت بالسر له وخربنا معا من الضحك على العقول التي صدقت كل
ما جرى . صارت هذه الواقعة تروى لكل من يرونه من الاشخاص , وبعد فترة من الزمن بحت
لهم بالسر وقلت لهم باني دبرت كل شيء وان كل ما حصل كان مجرد تمثيلية انا بطلها ,
لكن لم يصدقني احد ابدا , وظل الامر مطبوع بذهنهم على انه واقعة حقيقية .
رحم الله نساء بيت جدي الذين اصبحوا في جوار
ربهم وتقبل منهم سعيهم وعباداتهم , وغفر الله لي تلك المزحة التي لم اكن انوي سوءا
فيها غير عمل نوع من الدعابة . هذه صورة لي مع اثنين من خالاتي رحمهما الله واسكنهما
فسيح جناته .
وسام الشالجي
7 نيسان 2015