بقلم
وسام الشالجي
اظهرت الكثير من المقالات التي نشرت عن الفنانين
العظيمين صالح وداود الكويتي , وحتى ما نقل عن لسانهما شخصيا بعد هجرتهما بأنهما
كانا يحنان كثيرا الى وطنهما الاصلي العراق والى ايامهما فيه . ليس هذا فقط , بل
انهما كان يحنان وربما بشكل اكبر الى مرتع طفولتهما ومراهقتهما (الكويت) ويذكرانه
باجمل الاوصاف , فهل يا ترى اصيب الرجلان بمرض الحنين للوطن بعد هجرتهما الى
اسرائيل عام 1951 . وقبل ان الخوض بتفاصيل هذا الموضوع أحب ان اعرض على القاريء
تجربة شخصية حدثت لي قد تساعد بالوصول الى الجواب الحقيقي لهذا السؤال . حين كنت
بالثلاثين من عمري سافرت من العراق الى لندن لاكمال دراستي العالية , واثناء
دراستي زارني الوالد رحمه الله . وقد سألني الوالد في حينها في هل اني ارغب
بالمعيشة بالخارج ام لا فلم اجبه لا بالأيجاب ولا بالنفي . شعر الوالد من صمتي
باني ربما اريد ان افعل ذلك لكني لم اكن قد توصلت الى قرار قطعي بعد فوجه لي نصيحة
لم انساها قط . قال لي بالحرف الواحد (اذا كنت يا ولدي تريد ان تهاجر الى بلد اخر
غير وطنك فافعل هذا الان وقبل ان يمر المزيد من العمر لان الانسان كالشجرة كلما
مضى بها العمر امتدت جذورها بالارض الى مناطق اعمق حتى تصل الى مرحلة يصعب
اقتلاعها بعدها , واذا اقتلعت بالقوة فانها ستموت) . لم اعمل بنصيحة والدي رحمه
الله وعدت الى الوطن وبقيت فيه حتى تجاوزت الخمسين ثم اضطرتني الظروف الى الهجرة
الى الخارج , وحين فعلت هذا عرفت بعدها كم كان والدي صادقا في حينها وشعرت
بالمعاني الدفينة التي جاءت في نصيحته . اردت من هذه المقدمة فقط ان اعرف القاريء
بان الهجرة من الاوطان في الاعمار المتأخرة غالبا ما يصاحبها مصاعب جمة , اولها
واشدها تأثيرا الاصابة بمرض الحنين للوطن Homesick ,
وثانيها صعوبة الاندماج مع المجتمع الجديد , اضافة الى
مصاعب كثيرة اخرى لا تقل اهمية مثل صعوبة الحصول على عمل والمتاعب وصعوبة تعلم لغة
واخلاقيات البلد الجديد وغيرها
.
هاجر صالح وداود الكويتي الى اسرائيل عام 1951 حين كان الاول بالثالثة والاربعين من العمر والثاني بالحادية والاربعين . ومع ان هذه السن هي متأخرة بعض الشيء بمقاييس الاعمار المناسبة للهجرة لكنها لا تعتبر متأخرة كثيرا من الناحية العمرية , الا انه حسب ما يبدوا فانهما قد تعرضا الى جميع المصاعب والمعوقات التي يواجهها اي مهاجر يقدم على مثل هذه الخطوة في عمر متقدم . لقد كان الفنانان صالح وداود الكويتي في اوج نجاحهما الفني في بغداد قبل تلك الهجرة وكانا يمتلكان مصادر رزق جيدة جدا . فمن الناحية الفنية كانت نتاجاتهما من الاغاني الملحنة قد تجاوزت الـ 500 اغنية للكثير من الاصوات العراقية الاهم في تلك الفترة مثل زكية جورج , سليمة مراد , منيرة الهوزوز , عفيفة اسكندر , صديقة الملاية ونرجس شوقي وغيرهم , كما اكتشفا بعض الاصوات الجديدة مثل حضيري ابو عزيز وزكية جورج . اما من الناحية الاقتصادية فقد كان الاخوان يمتلكان ملهى ابو نواس الذي افتتحاه عام 1943 والذي اصبح بعد فترة قليلة موقعا فنيا رئيسيا في بغداد لكونه تحت ادارة اشهر ملحنين وعازفين هما صالح وداود الكويتي ويعمل فيه اشهر مغنيي ومغنيات ذلك الوقت . ومع كل هذا النجاح فقد كان ينتظر الاخوان الكويتي نجاحات كبيرة اخرى لو بقيا في بغداد ولو ظلت الظروف بنفس ما كانت عليه بالسنوات السابقة . غير ان الرياح لم تجري وفق ما تشتهيه سفنهما , فالتحولات السياسية التي استجدت في عقد الاربعينات , خصوصا تلك بعد الحرب العربية الاسرائيلية , وكذلك ضغوط الاسرة الاجتماعية والدينية والتهديدات التي حصلت لليهود والاعتداءات المتكررة عليهم وعلى ملكياتهم مما دفعت بالرجلين الى اتخاذ القرار الصعب واصطحاب اسرتيهما والرحيل الى اسرائيل.
لم يلقى صالح وداود الكويتي ما كانا يتمناه بعد الهجرة , فاول شيء حصل لهما قبل السفر هو ان السلطات العراقية صادرت كل ما كان معهما من نوطات موسيقية وكلمات الاغاني والات موسيقية فسافرا وقد عادا الى مربع الصفر من غير اي شيء فني يحملاه معهما . وبعد وصولهما الى اسرائيل جرى استقبالهما مع بقية المهاجرين في مطار بن غوريون بشكل غير متوقع , اذ وضعوا على حدة وتم رش المبيد عليهم خوفاً من القمل والحشرات والجراثيم الذي يمكن ان يكونوا قد حملوه معهم . ثم جرى إسكانهم في مخيمات خاصة لا تقي بيوتها من برد الشتاء وامطاره ولا تنقذهم من حر الصيف . بعد ذلك جرى تشغيلهم في المزارع لجني الثمار أو في اعمال البناء . وبعد مدة تمكنا من السكن قرب احدى المدن حيث فتحا دكان صغير لبيع المواد الغذائية لكي يتمكنا من اعالة اسرتيهما . ومن المفارقات ان الموسيقى التي كانت وراء شهرتهما في العراق صارت مصدر شقاء لهما في إسرائيل لانها موسيقى تنطق بلغة الأعداء , كما انها موسيقى بدائية مقارنة بالموسيقى الغربية التي هي موسيقى الحكام الذين يمسكون مقاليد السلطة والذين يرفضون كل شيء يمت بصلة الى الفنون والثقافة العربية , ومن بينها الموسيقى العراقية . لذلك لم يجد الأخوان فرصا للعمل بمجال الموسيقى في الأماكن المعتبرة , مما اضطرهما الى العزف والغناء في الحفلات الخاصة كالزواج وأعياد الميلاد وتحول دكانهما الى اشبه بمكتب للتعاقد على احياء مثل هذه الحفلات . وبعد مدة طويلة تمكنا من العمل في دار الإذاعة الإسرائيلية بواسطة مديرها العراقي , فراحا يقومان بجمع من كان يعمل بالموسيقى من يهود العراق المهاجرين مثل عازف القانون يوسف زعرور الكبير وأبن عمه يوسف زعرور الصغير , عازف السنطور حوكي تبو , عازف الايقاع يهودا شماس , قارئي المقام سليم شبث وفلفل كرجي , وعازف الناي البير الياس اضافة اليهما وشكلا فرقة عراقية بعد الحصول على الآلات الموسيقية الضرورية عن طريق شرائها من إيران وتركيا وبعض الدول العربية . منحتهم دار الاذاعة فترة نصف ساعة اسبوعيا لكي يعزفوا الموسيقى ويقدموا الالحان العراقية , وكان هذا الوقت فرصة لاغلب المهاجرين العراقيين للتجمع حول اجهزة الراديو واستذكار وطنهم الأم وايامهم فيه . ظل الوضع على هذا الحال ولم يتطور اكثر , وقد حاول صالح الكويتي ان يرسل بعض الالحان الى سليمة مراد في بغداد لتغنيها لكن الامر لم ينجح . وكخلاصة يمكن القول بان نجم هذان العملاقان قد أفل نهائيا بعد هجرتهما ولم يتبقى شيء من فنهما الا ما حفظ بالذاكرة وهو ما أحز كثيرا في نفسيتهما . كما ان الكثير من نتاجاتهما الفنية قد طمرت , كما اعدمت الكثير من التسجيلات التي تعود اليهما في عقد السبعينات اثر موجة التطهير التي اوعزت السلطات العراقية بالقيام بها في محفوظات دار الاذاعة العراقية مما اصابهما بالمزيد من الخيبة والحسرة على كل ذلك الماضي المجيد الذي أسسوه .
هناك قول للامام علي (ع) يقول فيه (الفقر في الوطن غربة والمال في الغربة وطن) , وهو قول لو تعمقنا به لوجدنا فيه واقعية كبيرة . فالانسان الفقير بلا مال لا يستطيع عيش حياة حرة كريمة حتى لو كان في وطنه وبين اهله وناسه , بينما لو امتلك المال فمن الممكن ان يعيش حياة حرة كريمة حتى وان كان يعيش بين الغرباء بعيداً عن بلده . ان هذا بالضبط ما ينطبق على الفنانين صالح وداود الكويتي , فمع ان هجرتهما صورت لهما وكانهما عائدين من ديار الغربة الى وطنهما الأم , لكن الظروف التي عانا منها بعد تلك الهجرة والفاقة التي المت بهما جعلتهما بالضرورة يحنان الى الارض التي جاءا منها والتي شهدت نجاحهما وتألقهما . لذلك ليس من المستغرب ان نجدهما يتحسران على أيامهما في العراق ويتكلمان بمرارة عن مدى افتقادهما لخصوصيتهما العراقية في حياتهما بعد الهجرة . وفي هذا السياق يقول سليمان (او شلومو) الابن الاصغر للفنان صالح الكويتي بان والده رغم السنوات الطويلة التي عاشها في إسرائيل ظل إلى حين وفاته عام 1986، لم يتوقف عن التعبير عن خصوصيته العراقية . وفي كل الحوارات التي أجريت معه كان يقول باستمرار بانه خدم العراق بكل ما يملك من قدرات معتبرا ذلك من واجبه كعراقي . كما كان لا يكف من التعبير عن وطنيته العراقية الحقة من خلال اعتزازه بما لحنه من أناشيد وطنية عراقية قدمها بمناسبة تتويج ملوك العراق , وكذلك تقديم الحفلات في المناسبات الرسمية والدينية الاسلامية واليهودية .
نخرج من هذا المبحث الصغير باجابة قاطعة عن تساؤلنا
الذي اثرناه في بداية هذا المقال وهو: نعم ان الفنانين صالح وداود الكويتي قد
اصيبا بالفعل وبشدة بمرض الحنين الى الوطن بعد هجرتهما من العراق الى اسرائيل .
وان الظروف التي عاشا بها بعد تلك الهجرة ساهمت في تفاقم هذا المرض , وربما تعزى
وفاة الفنان داود الكويتي المبكرة بشكل او اخر الى هذا السبب .
وسام
الشالجي
22
أذار 2015