اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 23 مارس 2015

ايهما اكثر موهبة وعطاء صالح , ام داود الكويتي ؟

بقلم
وسام الشالجي



ارتبط اسما صالح وداود الكويتي ببعضهما البعض حتى صار لا يذكر احدهما الا ويذكر الثاني معه . غير ان هذا الثنائي الفني لم يكن ثنائي بالمعنى المتعارف عليه لان اعمالهما المشتركة قليلة نسبيا واكثرها غنائية , وان اغلب اعمالهما عادة ما ترتبط باسم واحد منهما . ولان هذين الاخوين ظلا متلازمين معا , وعملا معا ومضيا في مسيرة حياتهما بشكل مترافق فقد ارتبط اسميهما بشكل وثيق مع بعضهما البعض . ومما يجدر ذكره هو ان صالح الكويتي احترف التلحين والعزف على الكمان اكثر من اي شيء اخر , بينما احترف داود الكويتي الغناء والعزف على العود . غير ان هذا التباين لم يمنع ابدا لاي واحد منهما بأن يشارك بفعالية برز بها الشقيق الاخر , فصالح الكويتي غنى مثلما غنى اخيه داود , كما ان داود الكويتي لحن مثلما لحن شقيقه صالح . ومن الطبيعي ان يبدر على ذهن اي متتبع او مراقب سؤال وجيه هو : ايهما اكثر موهبة واغزر عطاء من الاخر , صالح ام داود الكويتي ؟ وللاجابة على هذا التساؤل لابد ان نمضي برحلة نطلع فيها على اعمال كل من الشقيقين , ثم نرى اي الاعمال حازت على شهرة اكثر ؟ ومن هم المطربون الذين عملوا معهما ؟

انتقل الفنانان صالح وداود الكويتي من البصرة الى بغداد عام 1929 لأنها كانت واحدة من المراكز الفنية المهمة بالشرق الاوسط بعد القاهرة وبيروت , وليكونا قريبان من الأوساط الفنية الرئيسية والفنانين المشهورين بالعراق . لم تكن هناك اعمال خاصة بالفنانين عند انتقالهما الى بغداد بل كانا ليس اكثر من عازفين يغنيان احيانا بعض الاغاني المنسوبة لغيرهما . أشتغل الاخوان صالح وداود الكويتي في البداية كعازفين في ملهى الهلال الشهير في بغداد . ومن هذا الموقع انطلقت شهرتهما وذاع صيتهما ليصبحا اسمان لامعان في مجال الفن بالعراق . وضمن الاهتمام بالفن والموسيقى اسس الاخوان الكويتي عام 1931 معهدا لتدريس علوم الموسيقى في بغداد , غير ان اهتمامهما به قل بعد ان كثرت وتطورت اعمالهما في مجال الموسيقى والغناء . وقد شكل الشقيقان فرقة موسيقية عراقية قبل افتتاح دار الإذاعة العراقية كانت تقيم الحفلات , وكانت هذه هي النواة لفرقة الاذاعة التي شكلاها لاحقا عند افتتاح دار الإذاعة العراقية عام 1936 . وعن نجاحهما وكثرة عطائهما قال عنهما الأديب العراقي (أنور شاؤول) حين كتب في مجلة "الحاصد" بقوله (صالح وداود كنز ثمين عثرت عليه الإذاعة العراقية) .

واذا اردنا ان نتدارس مسيرة الفنان صالح الكويتي على حدة لرأينا بانه بعد فترة قصيرة من عمله كعازف في فرقة ملهى الهلال قام بتأليف أول لحن له من خلال تلحينه لقطعة شعرية لاحد الشعراء ثم قدمه للمطربة العراقية الشهيرة سليمة مراد لتغنيه بصوتها فنجح نجاحا منقطع النظير . وعن هذه البداية وظروف مجيئه مع اخيه إلى بغداد واستقرارهما فيها وبدايته بالتلحين يتحدث صالح الكويتي في حوار إذاعي اجري معه قائلا : بعد وصولنا إلى بغداد وسكننا فيها اتفقنا مع المطربة الكبيرة سليمة مراد على الاشتغال معها كعازفين في ملهى (الهلال) التي تعمل به والذي كان إقبال الجمهور فيه كبيرا . وذات يوم سألتني سليمة ما إذا كان بإمكاني أن ألحن لها بعض الأغاني فقلت لها سأحاول . أخذت بعض القطع الشعرية للشاعر عبد الكريم العلاف وبدأت بتلحينها وهي (هوة البلاني) و(آه يا سليمة) و(كلبك صخر جلمود) و(خدري الجاي) وغيرها ثم عرضتها على الفنانة سليمة فاعجبت بها . قدمت سليمة هذه الاغاني ونجحت فيها كثيرا . ومن بين الاغاني التي ذاع صيتها في بداياتي هي اغنية (كلبك صخر جلمود) التي لحنتها اولا للفنانة منيرة الهوزوز ثم اعادتها سليمة مراد بصوتها ونجحت فيها نجاحا باهرا , ومن هذه البداية وهذا النجاح الكبير انطلقت في مجال التلحين بعد ذلك واحترفته وجعلته اهتمامي الاول .

اشتهر صالح الكويتي كملحن شهرة كبيرة بعد نجاح الحانه لاشهر المطربين والمطربات العراقيات , حتى ان عقد الثلاثينات في العراق يمكن ان يسمى باسمه . وكما هو حال الملحنين المشهورين بمصر مثل محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي فقد ألف صالح الكويتي مقطوعات موسيقية منفردة مثل (ملاقاة الحبيب) و (رقص البنات) , وله ايضا تقاسيم كثيرة من تأليفه على الكمان وحتى العود . وفي عام 1933 تعرف صالح الكويتي على الموسيقار المصري الشهير محمد عبد الوهاب خلال زيارته إلى بغداد والذي اعجب كثيرا بألحانه ومن بينها لحن أغنية (ويلي شمصيبة) من نغم اللامي العراقي . علم صالح الكويتي الفنان الكبير محد عبد الوهاب اصول مقام اللامي الذي لم يكن معروفا بمصر في وقتها , وحين عاد عبد الوهاب الى القاهرة استعار ذلك النغم ووظفه لأول مرة في أغنيتيه الشهيرتين (يا اللي زرعتوا البرتقال) و(أنا والعذاب وهواك) . وفي عام 1935 زارت المطربة الانسة ام كلثوم العراق واعجبت باغنية (كلبك صخر جلمود) واحبتها وغنتها بصوتها في بغداد وفي مصر بعد عودتها . ليس هذا فقط بل امتدت شهرة صالح الكويتي بعد ذلك الى عالم السينما ، فقد وضع الموسيقى التصويرية لمجمل أغاني فيلم (عليا وعصام) الذي هو أول فيلم عراقي انتج في عام 1947 . كما انه هوالذي اكتشف المطربة الشامية من حلب الفنانة زكية جورج , وقد نجحت ألحانه لها نجاحا لم يسبق له مثيل , وكان من أشهر تلك الالحان (آنه من اكولن آه واتذكر أيامي) . كما لحن لها قصيدة الشاعر الهندي طاغور التي مطلعها (يابلبل غني) التي ترجمها للعربية الشاعر جميل صدقي الزهاوي . وقد وقع الفنان صالح الكويتي بغرام الفنانة زكية جورج من اول لحن قدمه لها لكن دلعها الزائد والاختلاف بالديانة منعه من الارتباط بها . وقد كان لهجرها له وصدودها عنه اثر كبير على قلبه , حتى ان مضامين والحان الكثير من الاغاني التي لحنها لها ولغيرها كانت تعبيرا لقصة هذا الغرام الذي يجيش بقلبه .

يعتبر الفنان صالح الكويتي هو الأب الروحي للأغنية العراقية الحديثة ومؤسسها . ففي مجال العزف فان موهبته لم تقتصر على إتقانه للعزف فقط ، بل تخطته إلى تجديد وتحديث التخت الموسيقي العراقي عبر إدخال آلتي الكمان والقانون عليه بدلا من الجوزة والسنطور اللذان كانا سائدان فيه ، اضافة الى الجلو والناي . أما على الصعيد اللحني ، فقد جمع إرثه الفني باقة ألحان تنهل من أصول قواعد المقام العراقي والموشحات والمربعات والاغاني والموالات البغدادية إلى الغناء الموصلي عبر صياغات نغمية مركبة تحمل طابع التفرد في استجاباتها لمناخات البيئة المحلية وتنوعها . وقد لحن صالح الكويتي أكثر من 500 لحناً لأصوات عراقية مثل صديقة الملاية ونرجس شوقي ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وسليمة مراد وعفيفة اسكندر . فقدت الكثر من الاغاني التي لحنها صالح الكويتي بعد تدمير ارثهما الفني في الاذاعة العراقية بالسبعينات , وحملة النهب والسرقة التي جرت فيها عام 2003 . كما طمس الكثير من تلك الاغاني ايضا وربما نسبت الى فنانين اخرين حين منع استخدام اسميهما مع الاغاني بعد هجرتهما الى اسرائيل .

اما الفنان داود الكويتي فهو عواد من الطراز الاول ويعتبر من أبرز عازفي العود في تاريخ الموسيقى العربية , كما انه مطرب ذو صوت شجي وعذب . تعلم داود الغناء واصوله على يد المغني والموسيقي الكويتي خالد البكر وقدم الكثير من الاغاني الكويتية والخليجية في جلسات الشيوخ ووجهاء الكويت بمطلع شبابه حين كان بالكويت , حيث كان يصاحبه ايضا أخوه الأكبر صالح الكويتي الذي كان يعزف على الكمان وعبدالرحمن الخميري كضارب على المرواس وسعود المخايطة . وحين استقر داود بالبصرة ثم في بغداد لاحقا شكل مع أخيه ويوسف مير زعرور وآخرين فرقة موسيقية اخذت تعزف في ملهى الهلال كما بينا اعلاه واخذ مقعده فيها كعواد . وكان داود قد اثبت مكانته كعواد ماهر قبل ذلك الوقت حين كان يصاحب العديد من المغنين الكويتين مثل عبداللطيف الكويتي وملا سعود المخايطة ومحمد زويد في تسجيلات غنائية برهنت على مكانته الكبيرة في العزف على العود وخبرته العميقة به . وفي بغداد جرب داود الكويتي ان يلحن لمطربات العراق الشهيرات بذلك الوقت مثل سليمة باشا وسلطانة يوسف ونرجس شوقي وغيرهم , وبالفعل فقد نجحت تلك الالحان , ومن أجمل واشهر ألحانه بستة مخالف (بالعشق حسدوني الخلق) . لم يكن انصراف داود الكويتي للتلحين بنفس اندفاع شقيقه صالح , لكنه اخذ يتطلع بعد ان اصبح في بغداد , وهي مركز فني شهير بذلك الوقت بان يصبح مطربا من خلال اداء اغاني خاصة به وليس بتقليد اغاني الغير . ساعده اخيه صالح بهذا المضمار حيث لحن له مجموعة من اجمل الاغاني التي ظلت بالذاكرة العراقية لزمن طويل مثل: (طولي يا ليلة) , (خدري الشاي خدري) , (خايف عليها) , (على درب الهوى) , (كَلي يا حلو منين الله جابك) , (أسمر بعينه كتلني) , (ميحانة) و( يا نبعة الريحان)  .

وبعد هجرته الى اسرائل أخذ داود الكويتي يغني بالحفلات الخاصة بالإضافة إلى تقديمه لاحقا لوصلات موسيقية في الإذاعة , وتحتوي تلك الوصلات على بستات وأبوذيات ومقامات عراقية اصيلة . كما قام بتسجيل الكثير من الأغاني الكويتية والخليجية في الإذاعة الإسرائيلية بصوته , منها صوت سادتي وصوت زر من تحب وصوت ملك الغرام وصوت في هوى بدري وزيني والكثير من ألحان الصوت , ليظهر بذلك كم كان مخلصا في اداء الفنون العراقية والكويتية والعراقية وبإسلوب قل نظيره الى اليوم  .

يتضح مما جاء العلاه بان الاخوين صالح وداود الكويتي كانا متقاربان كثيرا في فنهما وعطائهما , غير ان اي مراقب محايد يمكن يستشعر بسهولة بان مكانة صالح الكويتي الفنية تتفوق قليلا على مكانة شقيقه داود . يعود هذا الاحساس الى ان الالحان التي ألفها صالح الكويتي كانت اقرب الى وجدان المستمع العراقي والخليجي . كما ان المنافسين له من الملحنين كانوا قلة ولا يتفوق عليه منهم احد , لذلك فقد تسيد الساحة بمنطقة المشرق العربي لعقدين من الزمن تقريبا . اما داود , فبالرغم من نجاحه كمغني الا ان كثرة الاصوات المنافسة له , خصوصا الاصوات النسائية جعلت من مكانته الفنية لا تقفز الى الصدارة كما فعلت مع شقيقه صالح . كما ان شهرة اغانيه ظلت معتمدة بالدرجة الاساس على الالحان التي يؤلفها له شقيقه صالح . ومع ذلك فان مكانة الاخوين صالح وداود الكويتي معا كانت مكانة كبيرة تحتل موقعا مرموقا , ليس بالعراق فحسب بل بالمنطقة كلها لانهما صنعا معا مجدآ فنيآ كبيرآ لا يستهان به وقد اصبح ارثآ عظيمآ اضاف لتاريخنا الثقافي والفني والموسيقى الحضاري الحديث ما لا يقارن بما هو عليه بالوقت الحالي . ان المجد الذي تركه هذان الفنانان الكبيران يجب ان يصبح حلة زاهية يزين بها تراثنا الفني المتعدد الألوان والطيف , والذي لا ينتمي الى دين اومذهب اوطائفة , بل ينتمي فقط لقلعة شامخة تحمل اسم بيتنا الكبير (العراق) .


وسام الشالجي
23 أذار 2015