اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 23 مارس 2015

مواقع سوء الحظ والظلم التي وقع تحتها الاخوان صالح وداود الكويتي

بقلم
وسام الشالجي



من يطلع على مسيرة حياة الفنانين صالح وداود الكويتي يجد بان حياتهما خيم عليها بعض سوء الحظ , وحتى شيء من الظلم بسبب ظروف المرحلة التي عاشاها والصدف التي مرت بهما . ان بعض وقائع سوء الحظ هذا والمظالم التي وقعوا تحت طائلتها قد صرح بها الفنانان فعلا في بعض المقابلات التي اجريت معهما , لكن هناك بعض منها مما لم يتطرقا اليه قط لانهما لم يكونا يريدان التصريح بها لانهما وجدا بان من غير المناسب ذكرها . ولاجل البحث عن هذه الوقائع والتقصي عنها سيتم الاعتماد على التحليل والاستنتاج المنطقي في اكتشافها والتوصل اليها . هذا المقال مكرس للحديث عن هذا الموضوع , مع تقديم المعذرة مسبقا لاي قاريء لن يكون متفقا مع بعض الطروحات التي ستاتي فيه لانها في كل الاحوال قد اعتمدت على التحليل والاستنتاج المنطقي , لكنها ربما تكون قريبة جدا من الواقع استنادا الى احداث ووقائع جرت فعلا .

ان سوء الحظ الاول الذي صادف الفنانين صالح وداود الكويتي يرجع الى ولادتهما بالكويت . قد يبدوا هذا الامر غريبا لانهما ظلا يمتدحان الكويت ويذكرانها طيلة حياتهما بكل خير . ان هذا هو بالضبط موقع سوء الحظ بهذا الامر لانهما كما يبدوا كانا يتمنيان لو كانا كويتيا الجنسية . لم يكن هذا ممكنا ابدا مع انهما ولدا بالكويت لانها كانت امارة (او مشيخة) لا تمنح الجنسية للمواليد الذين يولدون على ارضها ولا من يقيمون على ارضها مهما طالت مدة اقامتهم فيها , وان منح الجنسية فيها محصور بارادة من الامير (او الشيخ) فقط . لذلك نجد ان صالح وداود الكويتي لم يمنحا الجنسية الكويتية وظلا يعتبران من الاجانب بالكويت بالرغم من ولادتهما فيها وعيشهما هناك لمعظم العقدين الاولين من حياتهما . ان شعور الانسان بانه غريب وليس له حقوق في البلد الذي ولد وترعرع فيه واحبه لابد وان يترك اثر سلبي على حياته , ولو كان الشقيقان قد حصلا على الجنسية الكويتية لكان مجرى حياتهما قد تغير كليا , ولكانا ربما لم يفكرا بالانتقال مطلقا الى العراق ولسخرا كل امكانياتهما ومواهبهما لخدمة البلد الذي ولدا فيه وتفضل عليهما بمنحهما جنسيته . ومع ان الدافع الذي يبدوا ظاهرا للعيان في موضوع انتقال الشقيقين الى العراق هو البيئة الفنية والتقدم التقني الموجود فيه , الا ان هذا كان يمكن ان لا يكون مؤثرا لو كانا قد اصبحا كويتيي الجنسية , ولكان يمكن للشيوخ والوجهاء هناك ان يوفرا لهما كل ما يحتاجانه من تسهيلات ورعاية لموهبتيهما لان الاثر الذي ستتركه هذه الرعاية سينعكس بالنهاية على مكانة الكويت الفنية . لم يحسن رجال الكويت تقدير الموقف ولا رعاية تلك الموهبتان الشابتان حين كانتا على ارض الكويت مما ادى الى تسربها بسهولة وخروجها من البلد . وحتى حين جرى عرض الجنسية عليهما قبل سفرهما الى اسرائيل فان تلك الخطوة كانت متأخرة كثيرا وكانت الاوضاع والظروف قد تبدلت بحيث اصبح العرض ليس ذا قيمة ولا له فائدة في وقت عرضه . ومع ذلك نجد ان الفنانين صالح وداود الكويتي لم ينسيا قط الكويت بل ظلا يعتزان بها ويذكرانها بكل خير مما يؤشر بوضوح انهما كانا يتمنيان في قرارة نفسيهما لو كانا كويتيان بالجنسية , والدليل على ذلك انهما اندفعا بقوة في البداية الى دراسة الموسيقى الكويتية والخليجية, وكذلك اتخاذهما لتسمية (الكويتي) طيلة حياتهما مما يؤشر بانهما كانا راغبان بقوة بان يكونا كويتيا الجنسية , غير ان ما يتمناه الانسان شيء وما يقع فعلا شيء اخر .

سوء الحظ الثاني الذي وقع على الاخوين صالح وداود الكويتي هو انهما كانا يدينان بدين هو ليس دين الدولة التي يعيشان بها . ليس المقصود هنا اي انتقاص بأي دين , بل المقصود هو الاضطرار للعيش كأقلية يهودية في بلد تهيمن عليه اكثرية مسلمة . فبالرغم من الحرية المحدودة التي كانت متاحة للطائفة اليهودية في ممارسة شعائرها الدينية في ذلك الوقت الا ان الشعور العام الذي كان سائدا لدى افراد تلك الطائفة هو انهم يبقون يعتبرون مجرد ضيوف تتفضل عليهم الطائفة الكبرى بالعيش بين افرادها , حتى وان كانت موجوديتهم بالبلد هي اقدم من تلك الطائفة . ان الحرية التي كانت تعيش بها الطوائف الغير مسلمة في البلاد الاسلامية هي حرية كفلتها لهم القوانين المدنية النافذة , وعلينا ان نعترف بان الامر كان يمكن ان يكون مختلفا جدا لو كان الحكم حكما دينيا تحت سلطة حكومة اسلامية , والدليل على هذا ما يجري في عصرنا الحالي . ان التخوف من ان تتغير الظروف في يوم من الايام وتتحول الحكومة فجأة الى حكومة دينية اسلامية كان باستمرار يشكل مصدر قلق لافراد كل الطوائف الغير مسلمة التي تعيش في البلدان الاسلامية . ان من الطبيعي ان يترك مثل هذا الأمر اثار سلبية على تصرفات وشعور افراد الاقليات الغير مسلمة , وحتى على تصرفات المسلمين تجاههم . ان التطورات السياسية والاجتماعية التي حصلت في عقد الاربعينات وحوادث القتل والنهب والسلب التي جرت في العراق لليهود يعكس بدرجة واقعية المخاوف التي كان يعيش بها اليهود , وطبعا من بينهم الاخوان صالح وداود الكويتي . ومع ان الشقيقان لم يظهرا قط ما يبين وجود مثل تلك المخاوف عندهما وعاشا في الاوساط الفنية بصورة طبيعية , لكن ما يخفى بالنفس ليس ما يظهر عليها دائما .

سوء الحظ الثالث الذي عاش تحت طائلته صالح وداود الكويتي وهو ايضا نابع من الصدفة هو انهما ولدا وهما من اصل عراقي وحملا نتيجة له الجنسية العراقية . ولد عزرا يعقوب الارزوني في ايران ثم عاد للعراق , ومن هناك هاجر الى الكويت حيث ولد له فيها ولدين هما صالح وداود , ومع ذلك فان جنسيتهم جميعا ظلت الجنسية العراقية فقط ولم يكتسبوا اي جنسية اخرى . حين عاد الفنانان صالح وداود الى العراق عام 1927 وعاشا به بعد ذلك لم يتلقيا من البلد اي رعاية ولا دعم خاص , بل هما من كان لهما فضل على البلد نتيحة لما عملاه وقدماه من روائع فنية قفزت بفنونه التي كانت متأخرة قفزة نوعية الى الامام جعلت من الاغاني والموسيقى العراقية تشغل حيزا مرموقا بين الفنون العربية . وحين تغيرت الظروف وتبدلت الاحوال السياسية لم يتوانى العراق عن اسقاط الجنسية العراقية عنهما بالرغم من كل ما عملاه وفعلاه لاجل البلد , ولم يجري استثنائهما من هذا القرار لضرورات وطنية بل تخلى عنهما البلد بكل سهولة دون اي مراعاة لقيمتهما ومكانتهما الفنية . والمقابل من هذا الموقف نجد ان بلد اخر هو الكويت ابدى استعداده لقبولهما على اراضيه ومنحهما الجنسية الكويتية , وهو موقف يمكن ان يسجل لذلك البلد بالرغم من مجيء تلك الدعوة متأخرة بعض الشيء . وحتى حين سافر الفنانان الى اسرائيل نجد ان السلطات قد جردتهما من كل ما يمتلكونه ,  بل سحب منهم حتى نوطاتهم واسطواناتهم وألاتهم التي حملوها معهم عند السفر بحيث غادروا وطنهم وقد عادوا الى مربع الصفر مجردين من اي ملكية فنية ومادية . وبعد سفرهم قام البلد بطمس جميع اعمالهم ولم يعد تذكر اسمائهم مع الاغاني والالحان التي الفوها وكانها لم تكن من نتاجاتهم . وبعد اكثر من عشرين عاما على سفرهم تم الاجهاز على كل ما تمتلكه دار الاذاعة والتلفزيون العراقية من اعمالهم وجرى تدميرها ضمن حملة شوفينية عنصرية ليس لها اي ضرورة , فضاعت بذلك ثروات لا تقدر بثمن ولم تبقى اعمالهم الا بحوزة الهواة واصحاب التسجيلات الخاصة . ليس هذا الموقف بغريب على بلد مثل العراق , فقد جرى مثله الكثير على ابناء هذا الوطن , حتى اصبح العرق هو البلد الاول بالعالم في تشريد مواطنيه وتضييع كفائاته واعلامه حتى صار معظمهم يموتون خارج البلد في المنافي وديار الغربة .

سوء الحظ الرابع الذي وقع على صالح وداود الكويتي جاء بسبب الظروف التي صادفتهما بعد هجرتهما الى اسرائيل . رحل صالح وداود وهما يظنان بانهما ذاهبين الى ارض الميعاد حيث ينتظرهما المستقبل الرغيد والفرص الفريدة التي لم تتوفر لهما في اي مكان اخر . ومع ان صالح الكويتي صرح في اكثر من مناسبة بانه لم يكن راغبا بالسفر لكنه اضطر لذلك بضغوط من زوجته واسرتها , الا ان الشكوك تحوم حول هذا الادعاء . لقد كان معظم اليهود المهاجرين راغبين بالهجرة بالرغم من انهم تركوا اموالهم وثرواتهم ورائهم , لكنهم لم يبالوا بذلك والسبب وراء هذا الاندفاع هو ما بيناه اعلاه من مخاوف وضغوط نفسية كان يخضع اليها هؤلاء حتى بات السفر والهجرة هي المنفذ الوحيد المتاح امامهم للتخلص من تلك الضغوط . غير ان الوسط والبيئة التي وصل اليها المهاجرون من البلدان العربية لم تكن كما كانوا يتصورونه لان الهيمنة في المجتمع الاسرائيلي كانت للطبقات المهاجرة من اوربا واميركا , اما المهاجرين الشرقيين فلم يجدوا فرص متاحة امامهم غير ان يكونوا اما ايدي عاملة او جنود مقاتلين . ضاعت كل احلام صالح وداود الكويتي حين لم يجدا فرص عمل بتخصصهما لان الاغاني والموسيقى العربية كانت تعتبر من فنون الاعداء وهي غير مقبولة بالاوساط الاسرائيلية . وبعد سنين طويلة وجهد جهيد تم منحهما فترة لا تتجاوز النصف ساعة اسبوعيا لعزف وتقديم اغانيهما , وربما كان الدافع وراء هذا هو مليء فقرات البث العربي في دار الاذاعة الاسرائيلية . لذلك انحسرت اعمال الفنانين ولم تلقى اعمالهما الجديدة اي رواج ولا شعبية فذهبت شهرتهما وغاب اسميهما عن الساحة وظلا يعيشان بالماضي ومجده ويتحسران على ايامهما السابقة بالعراق . لقد صدق الاستاذ سليمان صالح الكويتي حين قال في احدى تصريحاته بان والده وعمه ظلما بنفس القدر من بلدهما الاصلي العراق , ومن بلدهما الثاني اسرائيل .

ومن المظالم التي وقعت على الفنانين صالح وداود الكويتي يتلخص بان الكثير من اعمالهما قد سرقت ونسبت الى اشخاص اخرين . السرقة الاكبر التي حصلت بهذا المضمار هي ما قامت به الدولة العراقية نفسها حين نسبت كل الحانهما واعمالهما الى (التراث العراقي) , وكأن هذا التراث كان موسيقار قد عاش في زمن من الازمان واخذ يلحن الاغاني ويتبرع بها كصدقة لله على العراقيين . وحين شعر بعض الفنانين بان أسمي صالح وداود الكويتي قد اصببح من المحرمات ومنع تداولها على المستوى الفني اغتنموا هذه الفرصة واخذوا ينسبون الحان بعض اغانيهم الى انفسهم , مع ان الكثير منهم لم يعهد به بانه يعرف التلحين او يجيد العزف على احدى الألات الموسيقية , او حتى يعرف كتابة وقراءة النوتة الموسيقية . ان كاتب هذه السطور يدرك تماما مدى قساوة هذه الحالة لانه مرَ بحالات مماثلة حين جرى سرقة بعض مؤلفاته ودراساته واعماله وادعى اخرون 0بينهم اصدقاء) بانها كانت من نتاجاتهم واعمالهم . ان اشنع ظلم يشعر به الانسان حين يرى مثل هذه الاعمال تجري امام عينه وفي حياته , خصوصا اذا كان ليس بيده شيء يفعله ازائها .

ظلم اخر طال الفنانان صالح وداود الكويتي هو عمر العطاء القصير بالرغم من مقدرتهما الفنية العالية . كان كل عطاء صالح وداود الكويتي من موسيقى غناء محصور تقريبا في عقدي الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي . ومع انهما عاشا بعدها لحوالي ثلاثة عقود الا ان نسبة عطائهما في هذه العقود وصل الى ادنى المستويات , وربما كان قريبا من الصفر في اوقات طويلة خلالها . لقد فقد الفنانان مستمعيهما وفقدا جمهورهما , وفقدا ايضا البيئة التي نجحا فيها لذا فان من الطبيعي ان نجد متوى انتاجهما يهبط الى القعر . ان هذه الحالة تشبه حالة عازف في قاعة يعرف مقدما بان جميع الحاضرين هم أصماء لا يسمعون , فهل سيدفعه الى العزف والابداع شيء بعدها . لنا ان نتصور مستوى العطاء وعدد الالحان والمعزوفات التي ستظهر كنتاجات لهما لو ان الاوضاع استمرت كما كانت في عقد الثلاثينات . كان حتما سيكون هناك ما يزيد على ضعف ما أنتجاه خلال حياتهما الفنية بالعراق من اعمال . 

يتضح مما جاء اعلاه بان جميع وقائع سوء الحظ والظلم التي خيمت على حياة الاخوين صالح وداود الكويتي كانت ترجع اسبابها الى الصدفة البحتة ولم يكن لهما اي يد في حدوثها او تسبيبها . ان الحظ الذي ابتسم للرجلين لحوالي عقدين من الزمن , في الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي رافقه حظ تعيس لحوالي اربعة عقود او اكثر من حياتهما . ولو اخذت الامور من زاوية اخرى لرأينا في الواقع ان  الظروف والتطورات السياسية التي اشتعلت بالمنطقة في اواخر اربعينيات القرن الماضي لم تؤثر عليهما فقط بل امتد تأثيرها على الملايين من الناس , وان الاخوين الكويتي ربما كانا محظوظين حين خسرا فقط حياتهما الفنية ومستقبلهما فيها ولم يخسرا حياتيهما كما خسر الكثير من الناس .

وسام الشالجي
24 أذار 2015