بقلم
وسام الشالجي
كان صالح وداود الكويتي قد اعدا نفسيهما واسرتيهما جيدا
استعداد لرحلة الهجرة النهائية من بغداد الى اسرائيل بعد ان اسقطت عنهما الجنسية
العراقية . فقد اخذوا معهم كل ما تحت ايديهم من نوتات للالحان التي ألفوها وغنوها
, وكلك كلمات الاغاني والالات الموسيقية التي يعزفون عليها استعداد لاي فرصة عمل
يمكن ان يلتحقوا بها في اسرائيل , غير ان الامور لم تمضي كما كانا يتصوران . لقد
مر الاخوان بيوم الرحيل بسلسلة من المواقف المحزنة والمبكية , وحتى المضحكة بنفس
الوقت . ففي
مطار بغداد تعرض الرجلان واسرتيهما الى حملة دقيقة من تفتيش الحقائب والأجساد
بحثاً عن أي اموال او مستمسكات خاصة او معدات قد يكونوا حملوها معهم , وذلك بأمر
من وزارة الداخلية . فتح جلاوزة موظفي كمارك المطار بعنف وكراهية مسعورة حقائب
الاسرة فعثروا على نوتات أغاني الأخوين فصادروها شامتين بملكي الطرب العراقي والعربي
الأصيل , وصادروا
كل ما معهما من الاوراق التي تحمل كلمات الاغاني التي غنوها بألحانهم الشجية وهم
يقهقهون بضحكات الشماتة والاستهزاء بهم . بعد ذلك انتقلوا الى صناديق الصفيح التي تحتوي
على ألألات الموسيقية ففتحوها عنوة وهم يقولون لهما: "ها حسقيل ؟ شلك بهاي
الألات ؟ وين موديهن ؟ مو قلنالك أسلًم (أي اعتنق الاسلام) حتى تبقى هنا , ليش ما
سمعت كلام ؟" , ثم صادروها جميعها وسط ضحكاتهم العالية . وقف الفنانان صالح
وداود الكويتي مع افراد اسرتيهما بوجوه وجله ومكفهره ومتوجسة , وحتى خجلة بسبب ما يجري , وروحهم ترف وتغيب بعد أن
اخذوا يرون بأم اعينهم كيف ان تاريخهم وماضيهم كله اخذ يداس بالاحذية , وكيف ان
فضلهم على الفنون العراقية الحديثة راح ينكر بصفاقة وجلف وبطريقة لم يكونا
ينتظرانها ابدا . كانوا بتلك اللحظات يتحسرون بألم على كل ذلك الماضي الذي مرَ , متذكرين أيام عزهم عندما كانوا يحيون الليالي الملاح في
قصور زعماء العراق والكويت في أفراحهم وأتراحهم . صعد الرجلان الى الطائرة
ودموعهما تنهمر على خدودهما بعد ان شعرا بان اربعين عاما من حياتهما قد شطبت تماما
من قبل موظفين لا يقدرون أثر ما فعلوه . سلم الرجلان امرهما الى الله وقررا ان يخنعا
لما كتب عليهما , عسى ان يفتح لهما بابا جديدا يمكن ان يواصلا مسيرتهما فيه . وقبل انطلاق الطائرة اقتربت سيارة مسرعة منها ثم هبط من رجل
يرتدي زي كويتيي وصعد الى الطائرة وتحدث مع المضيفة . بعد لحظات انطلق صوت السماعة
داخل الطائرة طالبا من السيد صالح الكويتي الحضور الى كابينة الطائرة لامر مهم . قام
صالح وتقدم نحو المضيفة وسالها عن الامر فقالت له ان هناك شخص كويتي طلب الاذن بالتحث
اليك قبل المغادرة . رافقت المضيفة صالح الكويتي الى مقدمة الطائرة حيث يوجد الشخص
الكويتي واقفا مع الكابتن والذي سلم بسرعة على صالح الكويتي وقال له : ( استاذ صالح
انا مبعوث خاص اليك من سمو امير الكويت لاعرض عليك العدول عن الهجرة لاسرائيل مقابل
ان تأتي الى الكويت انت وافراد اسرتك وتمنحون الجنسية الكويتية وكل ما يترتب على هذا
من حقوق ) . فوجيء صالح بهذا العرض وقد اغتبطت
له نفسه كثيرا , خصوصا وانه يكن للكويت محبة خاصة وان لها مكانة كبيرة في قلبه , لكنه
اجاب المبعوث من غير تردد : ( ابلغ سمو الامير يا عزيزي باني اقدر عاليا عرضه هذا واشكره
جدا عليه , لكني اسف على عدم تلبيته لان الظروف اصبحت معقدة بعض الشيء وأن سلامة اليهود
في البلدان العربية اصبحت غير مضمونة , وهذا يعني بان امكانية الاستجابة لهذا العرض
القيم صعبة جدا) . سلم صالح على المبعوث ثم عاد الى مقعده ليحدث بقية افراد اسرته عن
هذا العرض الذي جاءه الان , ولكنه للأسف جاء متأخرا جدا .
انطلقت الطائرة بمن يركبها من المهاجرين وجميع من فيها تنطلق من افواههم تأوهات من الالم وصيحات خافتة من البكاء وزفرات ملتهبة من قلوب دامية تدق بقوة . كانت بعض الوجوه شاحبة صفراء من الخوف من المستقبل المجهول , والبعض الاخر محمرة من كثرة البكاء والنشيج . استغرقت الرحلة حوالي ساعتين , وقبل وصولها بقليل , وما ان بدأت بالهبوط حتى التصقت العيون كلها بشبابيك الطائرة لكي تلقي نظرة على الوطن الجديد الذي ضحوا بالغالي والنفيس بما تركوه ورائهم من اجل الوصول اليه والالتحاق به . هبطت الطائرة وعادت القلوب تدق بقوة بعد ان هدأت قليلا خلال الرحلة بانتظار ان تتوقف الطائرة وتفتح الابواب ليطلوا من عندها على منظر طالما تخيلوه , وليبدأوا يوما طالما انتظروه . انطلق صوت قائد الرحلة طالبا من الركاب عدم التحرك من أماكنهم حتى تاذن سلطات المطار لهم بذلك . تسائل كل واحد منهم مع نفسه , لماذا علينا الانتظار ؟ ولماذا التأخير ؟ اليست هي رحلة ككل الرحلات ؟ وصول الطائرة ثم هبوط المسافرين ثم تدقيق الاوراق وفحص الامتعة ثم الانطلاق . انتظر المسافرين داخل الطائرة لحوالي نصف ساعة وهم يشاهدون تجمع رجال الشرطة والعساكر حول الطائرة , وبعد برهة أذن لهم بالنزول . هبط صالح وداود الكويتي مع اسرتيهما وبقية الركاب المهاجرون درجات سلم الطائرة وما ان مست اقدامهما ارض مطار تل ابيب حتى شعرا بقشعريرة تنساب في كل جسديهما . لم يعرفا ما تلك القشعريرة ؟ أهي قشعريرة فرح ام قشعريرة خوف ؟ ام لا هذه ولا تلك ؟ . كان رجال الشرطة والعساكر في كل مكان حاملين اسلحتهم وبنادقهم يوجهونها نحو الهابطين من الطائرة . شعر الرجلان بان شيئا غريبا على وشك ان يحصل , وانهما ربما سيواجهان موقفا صعبا اخرا لا يقل صعوبة عن الموقف الذي مرَ بهما في مطار بغداد . بعد ان اكتمل هبوط جميع المسافرين من الطائرة قام افراد الشرطة والعساكر باحاطتهم من كل جانب واخذوا يصيحون بهم بان يسيروا لكي يتجمعوا في نقطة بعيدة عن الطائرة تقع بالقرب من مأوى للطائرات . تحرك الجمع الى تلك النقطة , وبعد ان انهوا تجمعهم هناك طلب منهم الوقوف بشكل صفوف متتالية , ثم اخذوا يقتادون كل صف على حدة داخلين به الى داخل المأوى المجاور لهم . دخل الصف الذي فيه صالح وداود الكويتي وافراد اسرتيهما الى داخل المأوى فاذا ببعض رجال الشرطة يوزعون عليهم كمامات ثم يطلبون منهم وضعها على انوفهم . كان الموقف غريبا ولم يعرف الواقفون ماذا يجري وماذا سيفعل بهم . ما هي الا دقائق حتى جاء بعض الرجال وهم يرتدون اقنعة واقية على وجوههم ويحملون على ظهورهم قناني تشبه مطافيء الحريق التي تعلق على الحائط تمتد منها خراطيم تنتهي بفتحات رش . توزع بعض هؤلاء الرجال مقابل الصف الواقف ثم بدأوا يرشون عليهم دخانا ابيضا يشبه الدخان المنبعث من سيارات الدخان التي كانوا يرونها في بغداد والتي تستعمل لمكافحة الحشرات . اخذ الجميع يكح ويسعل ويصيحون: ماهذا ؟ وماذا تفعلون بنا ؟ فتأتيهم الاجابة (هذا دي دي تي لتطهيركم من القمل والمكروبات التي يمكن ان تكون قد اتت معكم) . كانت دقائق عصيبة اكثر ما فيها المهانة التي أحس بها صالح وداود الكويتي بعد ان صاروا يعتبرون اشخاص يمكن ان يكونوا مصدرا للاوبئة والامراض وحاملين للحشرات . بعد انتهاء هذه العملية اقتيد الصف الى الخارج من الفتحة الخلفية للمأوى حيث الهواء الطلق وطلب منهم الجلوس على الارض ريثما تدقق اوراقهم داخل بناية المطار وتفحص امتعتهم هناك . احتج الرجلان على ابقائهم هنا بينما تفتح امتعتهم من غير وجودهم , فقيل لهم هذه هي الاوامر من وزارة الداخلية وليس هناك من سبيل غير تنفيذها بدقة . مرت ساعات طويلة وهم جالسين تحت أشعة الشمس ينتظرون الفرج منتظرين ان يأخذوا الى الصالات الدخلية كما هو حال المسافرين بكل مطارات العالم . لكن , وبعد ان تم تدقيق الاوراق وفحصت الامتعة التي يحملونها جيء بها اليهم ووزعت عليهم . بعد ان استلم كل شخص امتعته جيء بباصات وتم المناداة عليهم بالاسماء لكي يصعدوا اليها , كما صعد معهم في كل باص اثنين من رجال الشرطة مع اسلحتهم ليضمنوا بان لا احد سيتسرب من القافلة قبل وصولهم الى المكان المخصص لهم . انطلقت الباصات التي حملت المسافرين مع امتعتهم في طريق خارجي وهم لا يعرفون الى اين يسيرون بهم . سأل صالح الكويتي احد رجال الشرطة عن الوجهة التي ياخذونهم اليها فقال له بانهم ذاهبين الى احدى المستعمرات الواقعة في ضواحي مدينة حيفا . سيطر الوجوم على وجوه المسافرين الذين كان من المفروض ان يكونوا سعداء وفرحون لانهم وصلوا اخيرا الى المكان الذي حدثتهم عنه كتبهم الدينية (ارض الميعاد) , لكن الفرح تحول الى خوف وذعر لانهم اصبحوا لا يعرفون ما ينتظرهم بعد ذلك الاستقبال البشع الذي مروا به في مطار تل ابيب .
وبعد رحلة لم تستغرق طويلا دخلت الباصات الى منطقة ريفية محاطة بالبساتين يقع على احد جوانبها مجمع سكني مسيج فيها عدة عشرات من الكرافانات موضوعة بشكل صفوف متتالية . دخلت الباصات الى المجمع واستبشر الجميع خيرا ظنا منهم بان تلك الكرافانات مخصصة لاسكانهم , لكن الباصات ظلت تسير وتسير مجتازة كل صفوف الكرافانات من غير ان تتوقف , واستمرت بالمسير بعد المجمع بمسافة ليست بقصيرة حتى وصلت الى منطقة مفتوحة فيها خيام منصوبة . طلب من المهاجرين النزول وانزال امتعتهم معهم ثم جمعوا والقي عليهم بيان طويل . قيل لهم بان هذه الخيام قد اعدت لمكوثهم بصورة مؤقتة في هذه المستعمرة ريثما تمضي فترة فتجلب لهم كرافانات كتلك التي رأوها ببداية المستعمرة او تنشيء لهم دور لاسكانهم . ثم قيل لهم بان عليهم ان يعملوا بالمزارع المحيطة بالمستعمرة باشراف زراع متخصصين لكي يكونوا مؤهلين لاستلام المعونات الغذائية من الدولة مع مصروف يومي يكفيهم لشراء احتياجاتهم الضرورية . كما اخبر الجميع بان هناك سجلات خاصة موجودة لدي ادارة المستعمرة عليهم ان يوقعوا فيها يوميا لتثبيت وجودهم ولكي يستمر منح المساعدات اليهم . ثم نودي على الشباب الذين هم بسن التجنيد بالاسماء وأخذوا على جانب حيث طلب منهم ان يستعدوا للمغادرة باليوم التالي لانهم مشمولين بالخدمة العسكرية الالزامية .
استلم كل من صالح وداود الكويتي خيمة منفصلة لاسكان اسرتيهما , وحين دخلا الخيمة وجدا فيها اسرة بعدد افراد كل اسرة ومعدات طبخ وطباخ صغير وبراد صغير مع بعض المأونة الغذائية . كان الموقف كله عبارة عن صدمة كبيرة غير متوقعة , فليس هذا هو الوضع الذي كانا ينتظرانه , وليس هذا هو الحال الذي ضحيا بكل شيء من اجله , وليس هذا هو المكان الذي كانا يخططان للاستقرار به , لكن ماذا يفعلان ؟ وهل هناك من طريقة لاعادة الحال الى ما كان عليه ؟ مستحيل واكثر من مستحيل . مرة اخرى سلم الرجلان امرهما الى الله وجلسا يستريحان قليلا من عناء السفر وهما ينظران الى بعضهما البعض . كان اكثر الاشخاص حسرة وتألما هما زوجتيهما لانهما هما من كانتا السبب في كل هذا بعد ان الحتا عليهما بضرورة الهجرة الى هنا . وحين حل الليل أوى الجميع الى الاسرة الموجودة محاولين اخذ قسط من الراحة من خلال النوم قليلا , لكن لم يغمض جفن لاي واحد من افراد الاسرتين . ظل صالح وداود الكويتي يتقلبان في فراشيهما ويفكران بوضعهما الذي صارا به ويرون فيما اذا كانا قد اتخذا القرار الصحيح بالهجرة بدل البقاء بالعراق . كان كل ما توصلا اليه هو انه ليس هناك من شيء واضح بعد , وما جرى لحد الان لا يعول عليه لاعطاء جواب حاسم ونهائي على التساؤلات التي تدور بذهنيهما .
حل الصباح فاذا بصفارات تنطلق من كل مكان في المخيم طالبة من الجميع التجمع في الساحة الموجودة وسط المخيم . قام الجميع من اسرتهم وارتدوا ملابسهم بسرعة ثم هرعوا الى منطقة التجمع ليعرفوا ما في الامر . تم المناداة على الموجودين بالاسماء وطلب منهم التوقيع بسجلات معدة لتثبيت وجودهم يوميا , ثم طلب من الرجال تناول فطورهم بسرعة والتهيؤ للصعود في بيكبات جلبت لاخذهم الى المزاع المحيطة بالمستعمرة لجني البرتقال . احتج الرجال على العمل بهذا الوقت المبكر , فقيل لهم بان السبب في اخذهم بشكل مبكر هو لتفادي حرارة الشمس بعد ان يصعد قرصها الى الاعلى لانهم سيكونون بالعراء اثناء عملهم . اذن اصبح الوضع اشبه بمعسكرات الجيش , او ربما اشبه بمعسكرات الاعتقال او الاسر . سأل صالح وداود الكويتي المسؤولين فيما اذا كان من الممكن ان يأخذوا اسرهم ويرحلوا من هذا المكان فقيل لهم "نعم هذا ممكن , لكن اين ستذهبون ؟ وكيف ستعيشون وانتم لا تملكون تصاريح عمل بعد , ولا تملكون نقود لاستئجار بيوت او لشراء ما تحتاجونه من غذاء وغيره من الاشياء . لن يشغلكم احد قبل ان تأتيكم تصاريح العمل , وهذا يستغرق من 6 الى 8 اسابيع" . اذن هذا هو واقع حال , وليس هناك من مفر ولا بديل غير هذا . تناول الاخوان صالح وداود الكويتي طعامهما بسرعة فائقة ثم ركبا باحدى سيارات البيكاب جالسين بالخلف . اخذ الرجلان يضحكان على بعضهما البعض , وكل واحد منهما يقول للأخر : (ها حسقيل ؟ أشجابك هنا ؟ تكول رايح لأرض الميعاد ؟ هيه هاي ارض الميعاد , اشو صرت بيها تحوي برتقال ؟ مو كلنالك صير أدمي وأبقى , ليش ماسمعت كلام ؟) . كان الرجلان يقولان هذا وهما يضحكان بعفوية من كل قلبهما بمحاولة للتخفيف عن مسلسل الاحداث الصادمة التي مرت بهما منذ ان وطأت اقدامهما ارض مطار بغداد صباح الامس . ثم تواصل في رحلة طويلة من المقاساة لتنتهي اخيرا بهما وهما يسيران من غير موعد نحو البساتين لجني البرتقال , ليتحولا من فنانين كبيرين الى "حاويين" .
وسام الشالجي
25 اذار 2015