بعد وصول صالح وداود
الكويتي الى اسرائيل شعرا بالفراغ الروحي في هذه الدولة الجديدة التي قدموا إليها
وذلك نتيجة لهيمنة الثقافة والفنون الاوربية التي سادت بين مؤسسي دولة إسرائيل .
فليس هناك من راديو شرقي يستمعان اليه
, وليس هناك من شخص يمكن
ان يحدثهما بموضوع فني عملا به ، وليس هناك من احد يتمنى ان يستمع الى غنائهما او
عزفهما . وبالواقع لم يكن هناك حتى ألة لديهما يستطيعان ان يعزفا عليها , اللهم
باستثناء ادوات المطبخ الموجودة في خيمتيهما والتي كانا في بعض الاحيان يدقان بها
على القدور لاصدار بعض الاصوات الموسيقية .
بقي صالح وداود الكويتي في المجمع السكني التابع للمستعمرة القريبة من مدينة حيفا عدة شهور , ثم قررا بعدها محاولة البحث عن عمل في مدينة حيفا او في تل ابيب . اخذ الشقيقان يطوفان على المحلات الشهيرة والنوادي الليلية عارضين خبرتيهما باحثين عن فرصة عمل . لم يكترث لهما احد لان اغلب النوادي كانت عبارة عن مراقص تعزف الاغاني والموسيقى الغربية , او مطاعم تعزف مقطوعات من الموسيقى الغربية الكلاسيكية . لم يكن هناك قط محل يعزف اغاني او موسيقى عربية او عراقية . كانا يسألان عند مراجعتهما اي محل او نادي (هل تستطيعان العزف على الغيتار ؟ هل تستطيعان غناء اغاني غربية ؟) وحين يأتي الجواب (لا) يتم الاعتذار لهما فورا . من ناحية اخرى فان كل من كان يقابلانه يعرضان عليه خبرتهما يقول لهما على الفور (عن ماذا تتحدثان ؟ من في اسرائيل يرغب بان يسمع اغاني وموسيقى الاعداء ؟ اذهبا وغيرا من عملكما لكي تستطيعا ان تعيشا هنا) . يعود السبب في كل هذا الى المحاولات الحثيثة من قبل قادة الدولة الذين هم من اصول اوربية وامريكية الى اشاعة روح الحياة الغربية في المجتمع الاسرائيلي وعدم ترك الفرصة لاي ثقافة شرقية بالتسلل الى مفردات المجتمع . ومن جملة ما كان مخطط له هو دمج جميع القادمين الجدد من البلدان العربية بالمجتمع عن طريق صهر ثقافتهم التي يحملونها في بودقة الثقافة الغربية بسرعة .
ادرك الشقيقان بعد مدة من البحث
بان فرصة ان يشتغلا بما تخصصا به بالماضي باتت صعبة جدا , ان لم تكن
مستحيلة في مجتمع تهيمن عليه الجاليات اليهودية القادمة من اوربا وامريكا .
اما المهاجرين اليهود القادمين من البلدان العربية , فهم على كثرتهم ليس
لهم اي تأثير لا مادي ولا اجتماعي في الدولة كما يبدوا , وليس من المنتظر
على المستوى القريب ان يكون لهم اي دور في ادارة الدولة الجديدة . بعد فترة
من السكن في المستعمرة الزراعية قرب مدينة حيفا قرر صالح وداود الكويتي
مغادرة المستعمرة واستئجار بيت في ضواحي مدينة حيفا وفتح دكان صغير يبيعان
فيه الأواني المعدنية وبعض مواد البقالة . استطاع الاخوان القيام بهذا من
خلال ما كان يتوفر لديهما من مال قليل كان معهما من البداية , اضافة الى
بعض ما جمعاه من عملهما بالمستمرة بالاعمال الزراعية . اشتغل المحل لكن ليس
بيسر , لكنه استطاع ان يسد نفقات ايجار البيت والمعيشة , وفي بعض الاحيان
يبقى شيء قليل فوق ذلك يوفرانه . ويذكر المفكر والباحث الموسيقي حسقيل قوجمان في معرض ذكرياته عن الاخوين صالح وداود الكويتي فيقول : عندما خرجت من السجن في بغداد ورحلت
مرغماً إلى إسرائيل سكنت عند أختي هناك , والمكان الذي كانت تسكنه في
أسرائيل كان بجوار سوق يشبه إلى حد كبير سوق حنون في بغداد . في ذلك
السوق يجد الزائر نفسه كأنه في سوق عراقية , المأكولات والمشروبات وكل شيء
هناك عراقي . أخذتني أختي إلى هناك وهناك أصابتني الدهشة والذهول حين رأيت
داود الكويتي واقف في كشك صغير يبيع الأواني المعدنية , وهذا الكشك كان
بالشراكة مع أخيه صالح . كان داود في حينها يتعامل مع أمرأة حول ثمن قدر
وحول قرش زائد أو قرش نازل , عندها فاضت عيوني بالدموع وقلت فهل من المعقول
أن يصل هذان العملاقان في عالم الموسيقى إلى هذا الحد من الفاقه .
كان اول شيء فكر به الاخوان بعد ان صار عندهما بعض المال هو شراء الات موسيقية يستطيعان العزف عليها . لم يكن من الصعب العثور على كمان لانه الة موسيقية غربية قبل ان تكون شرقية , غير ان الحصول على عود لم يكن سهلا لانه الة شرقية بحتة , غير ان المثابرة وعدم اليأس جعلتهما يجدان عود لدى احد اليهود الشرقيين فاشترياه منه . بعد توفر هاتين الألتين وضع الاخوان اعلان في محلهما يعرضان فيه استعدادهما لاحياء حفلات الزواج والخطوبة واعياد الميلاد والطهور باغاني ومعزوفات موسيقية شرقية . كانت هذه خطوة جيدة وموفقة , لانه بالفعل اخذ بعض الناس الشرقيين يترددون عليهما طالبين منهما احياء مثل تلك الحفلات , وبمرور الوقت تحول الدكان الى مكتب صغير للتعاقد على احياء مثل تلك الحفلات . وفر ذلك للاخوين دخلا اضافيا انعش حياتهما بعض الشيء , كما ادخل بعض البهجة والسرور على حياتيهما لانهما عادا يمارسان تخصصهما القديم في الغناء والعزف ولو من فترة لاخرى . صحيح ان الاوضاع لم تكن تقارن باحوالهما قبل الهجرة , لكنهما اعتبرا ما حصل خطوة على الطريق تشبه بداياتهما بالعراق في اواخر العشرينات , متأملين بان الاحوال ستتغير نحو الاحسن وان الطلب عليهما سيتوسع ويزيد مع الوقت .
كان اول شيء فكر به الاخوان بعد ان صار عندهما بعض المال هو شراء الات موسيقية يستطيعان العزف عليها . لم يكن من الصعب العثور على كمان لانه الة موسيقية غربية قبل ان تكون شرقية , غير ان الحصول على عود لم يكن سهلا لانه الة شرقية بحتة , غير ان المثابرة وعدم اليأس جعلتهما يجدان عود لدى احد اليهود الشرقيين فاشترياه منه . بعد توفر هاتين الألتين وضع الاخوان اعلان في محلهما يعرضان فيه استعدادهما لاحياء حفلات الزواج والخطوبة واعياد الميلاد والطهور باغاني ومعزوفات موسيقية شرقية . كانت هذه خطوة جيدة وموفقة , لانه بالفعل اخذ بعض الناس الشرقيين يترددون عليهما طالبين منهما احياء مثل تلك الحفلات , وبمرور الوقت تحول الدكان الى مكتب صغير للتعاقد على احياء مثل تلك الحفلات . وفر ذلك للاخوين دخلا اضافيا انعش حياتهما بعض الشيء , كما ادخل بعض البهجة والسرور على حياتيهما لانهما عادا يمارسان تخصصهما القديم في الغناء والعزف ولو من فترة لاخرى . صحيح ان الاوضاع لم تكن تقارن باحوالهما قبل الهجرة , لكنهما اعتبرا ما حصل خطوة على الطريق تشبه بداياتهما بالعراق في اواخر العشرينات , متأملين بان الاحوال ستتغير نحو الاحسن وان الطلب عليهما سيتوسع ويزيد مع الوقت .
باءت جهود السلطات في دمج الجاليات اليهودية القادمة من الشرق بالمجتمع الغربي الاسرئيلي بالفشل الذريع , لذلك اضطر القائمون على الثقافة والتعليم في اسرائيل بعد سنين عديدة الى اللجوء الى التعددية الثقافية في المجتمع الاسرائيلي , من خلال اتاحة الفرصة امام القادمين الجدد من البلدان العربية في اشاعة تراثها الثقافي والفني الذي أتت به من مواطنها الاصلية وخلق ثقافة الشرق - أوربية في مجتمع دولتهم الجديدة . ومن الأجراءات التي صبت بهذا التوجه هو فتح قسم عربي في دار الاذاعة الاسرائيلية انطلق عام 1951 ونسب لادارته شخص من اصل عراقي هو شاؤل بار حاييم . اخذ شاؤول يهيء البرامج التي ينوي تقديمها بهذا القسم , ومن بين ما فكر به هو اطلاق برنامج أسبوعي بعنوان "من الغناء العراقي " للتخفيف من شدة الحنين الى العراق بين المهاجرين اليهود القادمين من العراق . كانت مدة البرنامج نصف ساعة , وقد قدمه عند بدايته شفيق كباي ونعيم توينه ، وقد صمم خصيصا لكي يغني فيه المغنون والموسيقيون العراقيون المهاجرون الى اسرائيل . ما ان انطلق البرنامج على الهواء حتى أستقطب بسرعة اسماع اليهود الذين هم من اصل عراقي والذين راحوا يستمعون له بشغف بالغ لشفاء الحنين والغليل المشتعل بصدورهم الى مسقط رأسهم . لم يغب عن بال المدير شاؤول في ان يتصل بالاخوين صالح وداود الكويتي اللذان يعرفهما جيدا منذ ان كان بالعراق من اجل احياء هذا البرنامج من خلال الغناء والعزف فيه , وطلب منهما تشكيل فرقة موسيقية غنائية لكي تقدم وصلاتها بهذا البرنامج الاسبوعي . وبعد جهد وبحث تمكن الاخوان من الاتصال بمن يعرفونه من الفنانين العراقيين اليهود الذين هاجروا الى اسرئيل وشكلوا فرقة موسيقية منهم تتكون من عازف القانون يوسف زعرور الكبير , يوسف زعرور الصغير , عازف السنطور حوكي تبو , عازف الايقاع يهودا شماس , عازف الناي البير الياس , قاريء المقام سليم شبث , قاريء المقام فلفل كرجي , أضافة الى الملحن صالح الكويتي وأخيه داود الكويتي . كما تم شراء الآلات الموسيقية التي يحتاجونها من إيران وتركيا وبعض الدول العربية .
كانت هذا التطور هو بالضبط ما ينتظرانه الاخوين صالح وداود الكويتي , اذ فتحت لهم هذه الخطوة افاق عمل جديدة ووضعت بارقة أمل لهما في ان يعودا لممارسة تخصصهما القديم في الغناء والموسيقى وتعود اليهما شهرتهما وصيتهما . نجح البرنامج نجاحا كبيرا , الا ان الامال لم تتجاوز اطاره العام لان عدد ونوع من يستمعون لهذا البرنامج ظل محصورا بالمهاجرين العراقيين , ولم يتعداه الى بقية افراد المجتمع الاسرائيلي . ومع ذلك فقد حفز هذا الوضع الجديد الاخوين على مواصلة عطائهما وانتاج المزيد من الاغاني وتقديمها من خلال برنامج "من الغناء العراقي" . وفي محاولة لكسر الطوق عن محدودية السميعة والسوق المحدودة المتاحة للاغنية العراقية المؤلفة باسرائيل بعث صالح الكويتي بعض الالحان عن طريق بعض الوسطاء الى بغداد لكي تغنيها المغنية سليمة مراد . غير ان هذه الخطوة لم تنجح , اذ لم تكن سليمة مراد مستعدة للمجازفة بوضعها بالعراق ومستقبلها الفني بغناء اغاني كان سيعرف بالأخر ان ملحنها هو صالح الكويتي وقد ارسلها اليها من اسرائيل . وبعد ان فشلت هذه الخطوة عاود صالح الكويتي تلحين المزيد من الاغاني التي قدمها بصوته وبصوت اخيه داود الكويتي حتى بلغ عدد ما لحنه في اسرئيل بعد هجرته اليها من اغاني حوالي 200 اغنية ظلت معظمها غير معروفة بالعالم العربي . ومن بين هذه الاغاني أعمال جميلة مثل : "مقام صالح في ثمود" و "شيبوني وأنا شاب" التي عرضها التلفزيون الكويتي بصوت عبد الحميد السيد بالستينات على انها من التراث الكويتي . غير ان نتاجات الاخوين صالح وداود الكويتي في اسرائيل لم يكتب لها الشهرة ولا حتى السماع في الدول العربية لانهما كانا يقدمانها من راديو اسرئيل الذي عدد من يستمعون اليه من المواطنين العرب محدود جدا .
ظل الاخوان صالح وداود الكويتي يعملان ببرنامج (من الغناء العراقي) طيلة ما تبقى من حياتهما في اسرائيل بالاضافة الى عملهما بمحلهما الذي ظل هو مصدر الرزق الاساسي لهما , كما انهما لم يتوقفا عن احياء الحفلات والسهرات الخاصة في كل مناسبة يدعون اليها . وكرد فعل على هذه المسيرة المحزنة بحياتهما نجد ان الاخوين صالح واداود الكويتي حرما على اولادهما بان يدرسون او يتخصصون بالموسيقى والغناء لانهما وجدا نفسيهما لم يكسبا شيئا من العمل بهذا المجال , بل ربما قاسا وعانيا كثيرا جراء سوء الحظ وما حصل لاعمالهما من طمس وتغييب وسرقة . وكخلاصة لما تم استعراضه , يمكن القول بان هجرة صالح وداود الكويتي من العراق الى اسرائيل عام 1951 كانت بداية رحلة النهاية الفنية لهما ، فقد خبا الصيت بعدها وانطفأت الاضواء التي كانت مسلطة عليهما من يومها . فأغانيهما وموسيقاهما لم تعد تعني شيئا في اسرائيل , حيث مجتمع كانت عناصره قد اتت من كل حدب وصوب لاتعني لهم فن والحان وصوت صالح وداود الكويتي اي شيء . بينما بالخلف , بالوطن الام كان هناك نكران للفضل في ما قدماه من فن وتراث وسرقة للجهود والاعمال من قبل هذا وذاك . انها رحلة قصتها عنوان كبير لسوء الحظ والظلم التي يمكن ان ينالا من موهبتين كان يمكن ان تكونا قصتان كبيرتان .
وسام الشالجي
25 أذار 2015