اخر المواضيع في المدونة

الخميس، 26 مارس 2015

هل كان قرار صالح وداود الكويتي بالهجرة الى اسرائيل صائبا ؟



بقلم
وسام الشالجي




بعد ان اطلعنا على تفاصيل كثيرة عن حياة الفنانين الكبيرين صالح وداود الكويتي في البلدان الثلاثة التي عاشا بها , الكويت والعراق واسرائيل , حان الان الوقت للتطرق الى سؤال مهم جدا هو : هل كن قرار صالح وداود الكويتي بالهجرة الى اسرائيل صائبا ؟ لابد وان يبدر على ذهن القاريء جواب سريع بعد ان عرف مقدار المعاناة التي صادفت الاخوين بعد الهجرة بان قرارهما ذاك كان حتما خاطئا , خصوصا وانهما خسرا بسببه مكانتهما الفنية وشهرتهما وصيتهما , علاوة على ممتلكاتهما وامولهما . غير ان الامر لا يمكن النظر اليه من هذه الزاوية فقط بل يجب ان تأخذ بنظر الاعتبار جميع الظروف التي كانت سائدة ساعة اتخاذ هذا القرار , وحتى الظروف السابقة واللاحقة له وما حصل بعده من احداث .

كان صالح وداود الكويتي يعتزان بعراقيتهما ويمتلكان روحا وطنية لا تختلف عن مشاعر اي عراقي أخر . لقد كانا يشاركان في جميع المناسبات الوطنية التي تجري بالبلد , ولهما اعمال وضعت خصيصا للاحتفالات بمناسبات تتويج ملوك العراق , ومن بينها احتفالات تتويج الملك غازي بعد وفاة والده الملك فيصل الاول . وفي نفس الوقت كان الاخوان ناشطين في مجال الحفاظ على حقوق الجالية اليهودية بالعراق وحماية قيمها ومرتكزاتها . لم تكن جهودهما تلك بدافع سياسي وليس لها علاقة ابدا بقيام دولة اسرائيل . لذلك ظلت علاقة الرجلين بسياسي البلد علاقة متينة وسليمة , وكانا يدعيان لاحياء اغلب الحفلات العامة والخاصة . غير ان الحال تغير في قرارة نفسيتهما بعد احداث مايس 1941 , اذ كان للاعمال التي جرت لليهود وحوادث القتل والسلب والنهب اثر كبير اثر سلبي كبير جعلهما يشعران بان اوضاع الجالية اليهودية , واوضاعهما الخاصة ليس فيها من ضمان ابدا وان الاخطار يمكن ان تصيبهما في اي وقت ولاي سبب .

ذهبت احداث فرهود عام 1941 ونسيت من قبل العامة , لكنها لم تنسى من قبل اغلب اليهود , وعلى راسهم صالح وداود الكويتي , ومع ذلك , فقد ظل الرجلان يمارسان اعمالهما بنشاط كبير ابرزه افتتاحهما لملهى ابو نواس وكذلك قيام صالح الكويتي بتلحين اغاني فلم (عليا وعصام) وهو اول فلم عراقي . كما استمر عطاء الفنانين ولم يتوقف وظلت اغاني المطربين والمطربات العراقيات من الحانهما تصدح حتى صارا مدرسة فنية بحد ذاتها يسعى كل الملحنين الجدد للتعلم منهما والاقتباس من موسيقاهما واسلوبهما بالتلحين . اصيبت اوضاع الجالية اليهودية بالعراق بنكسة اخرى جراء اندلاع الحرب العربية الاسرائيلية بعد الاعلان عن قيام دولة اسرائيل عام 1948 . اصبح الوضع محرجا وصعبا نتيجة الصراع بين شعورين داخليين متناقضين , شعور فيه تأييد لمساعي اليهود بانشاء دولة لهم وشعور مضاد أت من الولاء للوطن الذي يعيشون فيه والذي اصبح بحالة عداء مع تلك الدولة . كان الشعور الثاني متغلبا لدى صالح وداود الكويتي , ولم يفكرا قط بانتمائهما لاسرائيل بل ظلا يتعبران انفسهما عراقيين اصيلين . كانا يزيلان من تفكيرهما اي فكرة تمر على بالهما , ولو بخاطرة سريعة بانهما يجب ان يتعاطفا مع دولة اسرائيل ويؤكدان في عقلهما بان مثل هذه الافكار يجب ان لا يكون لها وجود في تفكيرهما .

غير ان الاوضاع استمرت بالتغير والتطور بسرعة , ومن مصادر لا تتعلق بهما شخصيا . فالشعور العام في البلد اصبح معاديا لليهود , والشكوك والريبة اصبحت تحوم حول كل يهودي بانه ربما يدعم بالباطن والسر قيام دولة اسرائيل . كما ان الاخطار اصبحت محدقة باليهود من جديد , وبات من المتوقع ان تتكرر اعمال مايس 1941 باي وقت . ظل الرجلان صامدان لبعض الوقت غير مباليان بما يحدث مواصلين اعمالهما الفنية في ملهاههما . غير ان الظروف ظلت تسير نحو الاسوأ حتى وصلت الى اسوأ مستوياتها عند صدور قرار من مجلس الوزراء صادق عليه مجلس النواب في اذار عام 1951 يقضي بالسماح لليهود العراقيين بالهجرة الى اسرائيل على ان تسقط الجنسية عن كل من يقرر الهجرة . واشترط القرار ان يكون السفر برغبة شخصية مفعمة بتقديم طلب رسمي يتضمن رغبة اليهودي العراقي بالهجرة الى اسرائيل وعدم ممانعته من اسقاط الجنسية العراقية عنه . وفي معرض التعليمات التي صدرت لتنفيذ هذا القرار جاء ما يقضي بتجميد الاموال المنقولة وغير المنقولة لليهودي المهاجر وعدم السماح له باخذ اي شيء يزيد عن امتعته الشخصية كمسافر عادي .

كان صدور هذا القرار هو منعظف حاسم في حياة اغلب اليهود العراقيين , ومن بينهم الاخوين صالح وداود الكويتي . قررت اسرة زوجة صالح الاستفادة من هذا القرار والهجرة , واخذت زوجته تضغط عليه لكي يتخذ نفس هذا القرار . اخذ الرجل يفكر مليا وطويلا قبل ان يتخذ مثل هذا القرار الغير سهل . وفي اثناء التفكير قرر اخذ رأي الفنانة سليمة مراد والتي هي يهودية ايضا . قالت له سليمة (انا لن اهاجر يا صالح وسابقى هنا بالعراق . لمن اغني باسرائيل اذا ذهبت اليها ؟ ومن سيستمع لي ؟ ان حياتي في العراق مع جمهوري ولا حياة للفنان من غير جمهوره حتى لوكلفني ذلك حياتي , لذلك فانا باقية هنا ) . كان هذا الكلام ينطبق الى حد ما على صالح الكويتي ايضا , لكن هناك بعض الفروقات التي كان يفكر بها ويرى بان من الواجب ان ياخذها بنظر الاعتبار . ان صالح الكويتي رجل وليس امرأة مثل سليمة , ووضع الرجل هو حتما اخطر واكثر حساسية من وضع المرأة . كما ان لصالح اولاد يخاف عليهم وليس مثل سليمة ليس لها اي اولاد تخاف عليهم .

ظل الرجل يفكر بعمق وبقوة , وظلت ايضا ضغوط زوجته وتأثيراتها يزداد مع الوقت . كان يعلم بان عليه ان يضحي بالكثير , وكان استياء الاوضاع وكثرة اليهود الذين قرروا الرحيل يقربه باستمرار من اتخاذ قرار الرحيل ايضا . كان يناقش الامر باستمرار مع اخيه داود الذي ربط قراره بالهجرة بقرار اخيه الاكبر صالح . ظلا يفكران بكل الاحتمالات ويتصوران ما يمكن ان يحدث بالمستقبل كاندلاع حرب اخرى بين العرب واسرائيل , أو حصول نفس احداث عام 1941 مرة اخرى , او صعود حكومة اسلامية الى الحكم . وبعد دراسة عميقة قرر صالح اتخاذ قرار بالهجرة وتقديم طلب رسمي بذلك , وعلى الفور اتخذ شقيقه داود نفس هذا القرار وقدم طلب مماثل . بعد ذلك بدأ الرجلان واسرتيهما يعدان انفسهم للرحيل واتصلا بالجهات التي تنظم موضوع السفر من بغداد الى تل ابيب .

ان قرار صالح وداود الكويتي بترك العراق والهجرة الى اسرئيل هو صائب وصحيح مئة بالمئة للاسباب التالية :
1-    لم تمضي مدة طويلة بعد عام 1951 حتى اندلعت حرب عربية اسرئيلية اخرى مما فاقم في ازمة اليهود الذين يعيشون بالبلدان العربية .
2-    تعرض الكثير من اليهود الذين بقوا في البلدان العربية الى التضييق على حرياتهم ومن بينها موضوع ممارسة شعائرهم الدينية , كما اغلقت معظم معابدهم .
3-    اتهم الكثير من اليهود المتبقين بالتجسس لصالح اسرائيل وقد اعدم اعداد كثيرة منهم .
4-    كان قرار السماح بالهجرة نافذا لمدة سنة واحدة , ومن لم يستفد منه ثم قرر الرحيل بعدها تعرض الى صعوبات كبيرة في السفر .
5-    لم يكن هناك من ضمان لان يستمر مستقبل الاخوين صالح وداود الكويتي الفني كما كان من قبل , خصاص بعد تطور الاحداث واشتداد حالة العداء بين اسرائيل والدول العربية .

سافر الاخوان صالح وداود الكويتي الى اسرائيل وانطوت صفحتيهما بالعراق ولحق بماضيهما ظلم كبير ليس له من مسوغ . لم يكونا الوحيدان الذي حصل لهما مثل هذا بالعراق , فكم من مبدع مظلوم في هذا البلد تناساه التاريخ وجار عليه الزمان , وانقض الرعاع على ما تركه بكل قسوة . فكل من ياتي لحكم العراق لابد ان تطول يداه الابداع والمبدعين بالقسوة وكانهم خصوم , كما هو اليوم حال مبدعينا وعلمائنا محاربين ومطاردين ومهمشين يجوبون بقاع الارض بحثآ عن ملاذ ومكان فيه بعض الامن والامان , حتى صارت بلاد الرافدين الاولى في التنكر لمبدعيها وابنائها المخلصين .

رحم الله الفنانان العراقيان العظيمان الاخوان صالح وداود الكويتي برحمته الواسعة واسكنهما فسيح جناته . لقد كانا حقا نخلتان عراقيتان ملأ رطبهما كل ارض العراق , وتحول عطائهما الى ارث فني غني ورفيع كان ولايزال يتغنى به الاجيال . وتحية لهذين الوفيين اللذين عاشا وماتا بحب العراق واهله حتى وان جار عليهما الوطن والزمان لفترة من الزمن وصارا من المنسيين . وسلاما لكما يا صالح وداود , يا أبنا العراق وابناء دجلة والفرات , يامن شربتما منهما وارتويتما بمائهما العذب فنمت بداخلكما روح الوفاء فغرستما بالحانكما مشاعر الحب بين نفوس ابناء وطنكما الام . اليوم نقول لكما سامحوا بلدكم على ما حصل لكما فيه من غبن , واغفروا لاخوتكم على ما بدر منهم نحوكم من ظلم . وبارك الله بالمخلصين والخيرين الذين اجتمعوا هنا لكي يكرموكما ويستذكرون عطائكما وفنونكما ويعيدوا اليكما شيء مما سلب منكما , عسى ان يكونوا قد أدوا الامانة واوفوا بالعهد الذين اخذوه على انفسهم بحفظ تراث بلادهم وصيانته من كل سوء ونقله بامانة الى من سيأتي بعدهم من الاجيال , والله من وراء القصد .

وسام الشالجي
27 اذار 2015