وضعت هذا العنوان لخاطرتي الجديدة هذه
ولم اقل فيه (الثورات) او (الانقلابات) لان المفهوم الذي شاع بين الناس بشكل عام هو
ان (الثورة) هي تلك الحركة الناجحة التي هي على حق وتندلع من أجل مصلحة الشعوب , بينما
(الانقلاب) هو الحركة الفاشلة التي هي على باطل ويقوم بها مجموعة من المغامرين من اجل
مصالحهم الشخصية فقط , ولاني لا اعرف لحد يومي هذا وبعد كل هذا العمر الذي مر من هي
الحركة التي كانت على حق بالعراق ومن هي الحركة التي كانت على باطل, لذلك فقد سميتها
جميعا بـ (حركات التغيير).
نشأت , كما هو حال معظم جيل الخمسينات
في محيط هائج يفور كالبركان تتلاطم حممه مع بعضها نتيجة لما يجتاحه من صدامات وصراعات
ورجال كثر يدعون البطولات لا يعرف من هو الصادق فيهم ومن الكذاب المخادع . لم اكن واعيا
على حركة 14 تموز عام 1958 بالعراق ولا على اكثر ما جرى خلال عهدها من احداث , لكني
اتذكر اشياء قليلة من ذلك العهد كبرنامج (اقوال الزعيم) الذي كان يبث عصر كل يوم من
الراديو والذي يبدأ بعبارة (اقوال الزعيم عمل وبناء .. وكلماته قوة ومضاء) . كما لازلت
اتذكر بعض الاغاني الوطنية لذلك العهد مثل اغنية (عاش الزعيم عبد الكريم .. شعب العراق
شعب عظيم) واغنية (الحمد لله عالسلامة .. قائدنا ترف اعلامه) لمائدة نزهت . وفي نهاية
ذلك العهد اصبحت كبيرا بما يكفي فوعيت على كل ما جرى بعده من حركات تغيير , الناجحة
منها والفاشلة . لا زلت اتذكر جيدا اليوم الذي اندلعت فيه حركة 8 شباط عام 1963 حيث
كنا نعيش في دور شركة النفط في منطقة شارع دينار بالبصرة حيث استيقظنا صباحا وكان رمضان
ويوم جمعة وفتحنا الراديو على عادتنا على بغداد فاذا بصوت ذو بحة وغير جهوري لكنه عال
بعض الشيء كمحاولة من الناطق لان يجعل صوته نافذا فيمن يسمعه وهو يقول (بيان رقم واحد
صادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة) ثم يتابع اذاعة البيان , وقد عرفنا فيما بعد بان ذلك الصوت يعود الى (حازم
جواد) احد قادة تلك الحركة . لم افهم ما معنى هذا لكن اخي الكبير عصام الذي سمع البيان
ايضا شرح لنا ما يجري في بغداد وقال بان ثورة قد اندلعت هناك ضد الزعيم عبد الكريم
قاسم . ظل نفس الشخص يكرر قراءة البيان الاول ويتابع اذاعة البيانات اللاحقة بينما
يتخلل ذلك اذاعة نشيد (الله اكبر) المصري الذي لم يكن يذاع من أذاعة بغداد قبلها .
وبعد ساعتين او ثلاثة تغير صوت من يذيع البيانات ليصبح بصوت المذيع (قاسم نعمان السعدي)
, وكأن ظهوره واختياره لاذاعة بيانات الحركة قد جرى للافصاح عن طبيعتها وتوجهاتها لما
هو معروف عن توجهات هذا المذيع القومية . وقبل الضحى بقليل قال احد المذيعين من الراديو
بان الجماهير الثائرة قد انقضت على وزارة الدفاع حيث مقر (الطاغية) وقامت بقتله وسحلت
جثته بالشوارع ومزقتها اربا . لا زلت اتذكر هذا الخبر بوضوح ودقة , مع انه كان مجرد
كذبة لأشاعة روح الاقدام على المهاجمين وتحطيم الروح المعنوية للمدافعين عن النظام
. كان اهم ما جاء في بيانات الحركة صباح ذلك اليوم هو اعلان حظر التجوال وتشكيل الحرس
القومي وتعيين العقيد (عبد الكريم مصطفى نصرت) قائدا للقوات المهاجمة لوزارة الدفاع
, ومنح رتبة عسكرية لشخص اسمه (عبد المطلب ابو طالب) لا ادري ماذا كان دوره بالحركة
. وفي الليل اعلن عن تعيين (عبد السلام محمد عارف) رئيسا للجمهورية وترفيعه الى رتبة
مشير ليعرف الجميع بعدها صراحة هوية تلك الحركة ومن قام بها . نمنا في ساعة متأخرة
من ذلك اليوم بعد ان سمعنا الكثير من البيانات , وفي صباح اليوم التالي استيقظنا مبكرا
وكان يوما غائما وطبعا من غير دوام بسبب حظر التجوال واخذنا نواصل سماع البيانات التي
تذاع من اذاعة بغداد . وعند الظهيرة اعلن الراديو عن القبض على الزعيم عبد الكريم قاسم
واجراء محاكمة سريعة له ولبعض من كانوا معه وقد حكم عليهم بالاعدام رميا بالرصاص ونفذ
الحكم بهم فورا . خيم الوجوم علينا بالبيت ونحن نسمع هذا الخبر , وقد صادف بعد اذاعة
ذلك البيان بان نزلت زخة مطر قوية من السماء فقال لنا اخي الكبير عصام (انظروا الى
السماء كيف تبكي على اعدام الزعيم عبد الكريم) .
كان هذا جانب مما حدث بذلك اليوم ,
والذي تكرر نفسه تقريبا لمرات كثيرة خلال السنوات اللاحقة ولمدة قاربت العقد ونصف لحركات
تغيير عديدة نجح بعضها وفشل معظمها . كان اكثر ما نفرح به بمثل تلك الاحداث هو اعلان
حالة حظر التجول لان هذا يعني ببساطة عدم وجود دوام ولا مدارس وهذا هو ما يتمناه معظمنا
نحن الصغار , وربما حتى الكبار . وعدا عن هذا فان اللقاءات بين الجوارين والاصدقاء
في البيوت المتجاورة تكثر بمثل تلك المناسبات حيث يقوم الاهالي بالتزاور وعقد جلسات
لتبادل الاراء وتفسير مجريات الاحداث وربما السهر مع بعض لعدم وجود امكانية للخروج
, بينما نلتهي نحن الصغار باللعب مع بعضنا والتسامر فيما بيننا . كما كانت الاكلات الخاصة يكثر طبخها بمثل تلك الايام لان الجميع في البيوت ومن غير عمل فتتفق عبقريات الامهات في طبخ اكلات غير عادية وغير دارجة . اكثر ما يستتب القلق عنه هو (الصمون) لان اغلب العائلات تشتري حاجتها من الصمون يوميا ولا تخزنه بدورها , لكن ما كان يجري في تلك الظروف هو ان الافران تفتح باليوم التالي بامر من السلطات لكي لتوفر هذه المادة للناس . وبعيدا عن الطبيعة
السياسية لتلك الحركات فاني حقيقة كنت احب اندلاعها وقيامها لما يرافقها من اجواء وظهور
لزعامات وبطولات , كاذبة بحقيقتها الجوهرية لكنها تصور شخوصها لنا وكأنهم ابطال اسطوريين
ولدوا من رحم التاريخ بعد مخاض طويل واختارهم القدر لتغيير الواقع السيء والمر الذي
نعيش فيه , وهو ما كان يؤثر فينا نحن اليافعين والمراهقين الذين تتأجج بداخلهم روح
الثورة والتمرد على الواقع . وضمن هذه الاجواء كنا نسمع الاناشيد الثورية والموسيقى
العسكرية حيث كنا نحلق معها باجواء حماسية لنتصور هؤلاء الابطال وكأنهم قادة فاتحين
يخوضون اعظم المعارك التاريخية من اجل احقاق الحق وازهاق الباطل . لذلك اقول باني
, وربما كل ابناء جيلي ايضا , قد نشأنا متأثرين بتلك الاجواء وعاشقين للاناشيد الوطنية
الثورية ومحبين للموسيقى والمارشات العسكرية . كما ان اغلبنا كان قد اصبح يحلم بان
يصبح ضابط او طيار يفجر الثورات ويخوض غمار الحروب داحرا الاعداء ليحرر الاوطان ويصنع
البطولات محققا المع الأنتصارات . لكننا حين كبرنا وفهمنا الواقع اتضحت لنا الحقائق
, فليس هناك من ابطال اسطوريين ولا قادة عظام ولا ثورات او معارك او فتوحات من اجل
الشعوب ومصالحها بل مجرد مغامرات لضباط متهوريين مهووسين بالسلطة لا يسعون لغير مصالحهم
حتى وان كان في ذلك تدمير للاوطان وقضاء على مستقبل الاجيال التي تعيش فيها .
وهذه صور لبعض اجواء حركة 8 شباط
1963 التي عشتها ولا زلت اتذكر مجرياتها بوضوح .
وسام الشالجي
27 شباط 2015