اخر المواضيع في المدونة

الأربعاء، 7 يناير 2015

خواطر بالاسود والابيض - الامانة (باصات مصلحة نقل الركاب)




ما ان وعيت على هذه الحياة الا وكانت الامانة (باص مصلحة نقل الركاب) من اكثر الاشياء التي شدت انتباهي واثارت فضولي . فحين كنت صغيرا كنا نستعمل الامانة كثيرا كوسيلة للتنقل بين احياء بغداد المختلفة , لذلك انطبعت صورة هذا الباص بمخيلتي وحفرت معالمه بذاكرتي . كطفل , كنت احب كثيرا الخروج من البيت , لذلك كنت اتعلق بالكبار الخارجين لكي يأخذوني معهم بمشاويرهم , وعادة ما تكون الامانة هي وسيلتنا بالذهاب والاياب . كانت الامانة في بغداد تتكون من نوعين , باصات ذات طابق واحد وباصات من طابقين . لم يكن هناك خيار متاح لنا بنوع الباص الذي سنركبه لان الوجهة التي نقصدها ورقم الباص الذي ننوي ان نستقله هو الذي يحدد نوع الباص . كانت باصات الامانة حسب ما تفسره تليفات مخي الصغير هي مخلوقات تتحرك , وما السائق الا الفارس الذي يسيرها ويقودها كما يقاد الحصان . وكان لهذه المخلوقات بمنظوري وجه كامل ضاحك يقابل به من ينتظرونه في محطة الباص التي تسمى "المنطقة"ويتكون من عينين (احداهما مفقوءة) وجبهة وانف وفم . وكما للامانة وجه امامي كنت ارى لها وجه خلفي ايضا تودع به الواقفين بالمنطقة الذين لم يستقلونها .  وكان لهذا الوجه الخلفي بمنظوري شكلين , حسب الرقم الموضوع على الجانب الايسر من الباص , احدهما وجه مبتسم شبه ضاحك والثاني وجه عابس شبه باكي . وكان عقلي الصغير قد طور في اليافه تفسيرا لهذا , فالباص ذو الوجه الخلفي الباسم هو سعيد بما يقوم به وفرح بالطريق الذي يسلكه , اما الباص ذو الوجه الخلفي العابس فهو تعيس لانه مقاد رغما عنه ولا يحب المسار الذي يسلكه .

في ذلك الوقت كانت باصات الامانة بدرجتين , اولى ذات المقاعد الجلدية واجرتها 15 فلسا موجودة في مقدمة الباص , وثانية ذات المقاعد الخشبية واجرتها 10 فلوس تشغل الحيز الخلفي . وكان الباب الامامي مخصص لصعود ركاب الدرجة الاولى والباب الخلفي لمستقلي الدرجة الثانية , وكثيرا ما كنت ارى الناس يكتضون على الباب الخلفي ويملئون المقاعد الخشبية بسرعة مما يضطر بعضهم الى الوقوف في ذلك الجانب من الباص بينما لازالت هناك مقاعد شاغرة بالجزء الامامي . وكان في سقف الباص عمودين طويلين تتدلى منهما تعاليق يمسك بها الركاب المتوقفون . كان احب مكان بالنسبة لي في الجلوس هو المقعد الامامي الايسر الذي يقع خلف السائق مباشرة حيث توجد ستارة جلدية بشكل اكورديون تتدلى من جهة السائق لكي تحجبه عن الجالسين بالباص , لكني كنت ارى فتحة مربعة مقصوصة بهذه الستارة في زاويتها اليمنى العليا تتيح للسائق النظر لما يجري بالباص عند الحاجة . كنت حين اجلس بذلك المقعد ارسل نظراتي من اي فتحة متاحة في النافذة الموجودة امامي لكي اراقب ما يفعله السائق وكيف يقود هذا المخلوق العجيب . كنت اراه يدير عجلة ضخمة امامه وحين يتوقف في المنطقة يرسل يده اليمنى لتدوير عتلتين موجودتين خلفه لفتح ابواب الباص , وحين يسمع نقرة الجرس الذي تأتي من ضغط الجابي لدكمة موجودة بالسقف يقوم بتدوير تلك العتلتين بالعكس فتغلق الابواب ثم يباشر بالمسير . كما كنت ارى في مقدمة مقصورة الجلوس قطعتين , واحدة مكتوب عليها (التدخين ممنوع) والثانية مكتوب عليها (ساعد الجابي باصغر نقد كافي) . لم اكن افهم ما تعنيه هذه العبارة الاخيرة , وكل ما استطاع عقلي تفسيره لها هو ان الجابي انسان مسكين ومعدم لذلك تطالب هذه العبارة الراكبين بمساعدته باي مبلغ يتوفر عندهم . كما كان رقم الباص ومساره معلن في جبهة ومؤخرة الباص بشريط قماشي يمكن تدويره من بعتلة دوارة , ولا زلت اذكر الباص رقم (7 الميدان - الوزيرية)  الذي كنت استقله للذهاب الى بيت عمتي الكبيرة .

كان الجابي والسائق يرتديان زيا قهوائيا بالشتاء ورصاصيا بالصيف مع كاسكيت للرأس , ويستبدلون هذه الملابس الموسمية في نفس وقت استبدال ملابس الجيش . كما كان الجابي يضع في حزامه محفظة جلدية فيها عدة جيوب يضع فيها النقود ودفاتر البطاقات . وكان الجابي يسقط التذكرة للراكب بيده , فاذا كان الباص ذاهبا لوجهته يسقطها بقطعها بشكل نصف دائرة من وسطها , اما اذا كان عائدا من وجهته الى نقطة انطلاقه فيسقطها بشقها طوليا من اسفلها . واذا اعطى الراكب فئة كبيرة للجابي ليس عنده رد بقاياها فانه يوقع له على البطاقة لكي يراجع اقرب مكتب للامانة لاسترداد الباقي . كما كان هناك دفاتر بسعر مخفض تباع للمشتركين . وفي اي منطقة  بالطريق يحتمل ان يصعد المفتش الذي يحمل الة قارضة يقوم بتفتيش وملاحظة بطاقات الراكبين واحدا واحدا ويقرضها بألته . وبعد ان ينتهي يوقع على دفتر بطاقات الجابي ثم ينزل من الباص ليستقل باص اخر . وحين ننزل من الباص كنا نجد على جانب سلم المخرج حافظة معدنية مخصصة لرمي البطاقات المستعملة , ومع ذلك كانت ارضية الباص تملئها مثل هذه البطاقات .

وحين انتقلنا الى البصرة وجدت بان باصات الامانة هناك تختلف كثيرا عن الامانة ببغداد , فالسائق موجود في داخل الباص مع الركاب , والجابي كان يستعمل دكمتين بالاعلى واحدة لدق جرس للسائق والثانية يغلق بها الباب الخلفي , كما لم يكن هناك باصات ذات طابقين . وبسبب حنيني لبغداد لم تعجبني باصات البصرة مع انها كانت افضل واحدث وقد استعملتها لسنوات في الذهاب والمجيء من المدرسة . وقد صادف ان رأيت يوما ما باحد شوارع البصرة باص متوقف امام احد الكراجات يشبه كثيرا باصات الامانة في بغداد , وكم كنت اتوق لان يمر ابي بسيارته في ذلك الشارع علي ارى ذلك الباص مرة اخرى . وحين كنا نذهب بالعطلة الصيفية الى بغداد كان تغمرني سعادة طاغية حين يدخل القطار مدينة بغداد وابدأ برؤية باصات الامانة في بغداد من جديد . ثم مضت السنون وتغير الزمان وتغيرت شكل باصات الامانة في بغداد وغابت تقاليدها وانطمرت اصولياتها حتى اصبحت باصات اليوم ينطبق عليها قول (باصات شله واعبر) .  

















وسام الشالجي

8 كانون اول (يناير) 2015