اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 19 يناير 2015

خواطر بالاسود والابيض - عشق الموسيقى الكلاسيكية


عشت في بيت جدي في اوائل السبعينات مع خالي (سعد) الذي كان قد تخرج للتو من الجامعة العربية في بيروت وعاد لبغداد حيث اصبحنا أصدقاء قريبين جدا من بعضنا , ليس بسبب القرابة لكن لأننا كنا متوافقين في الكثير من اخلاقياتنا وميولنا . ومن هذا الخال والصديق تعلمت الكثير من الاشياء الجميلة منها الاناقة والروح المتألقة والرقي وعشق وتذوق الجماليات . كنا نخرج كثيرا معا الى اماكن جميلة وراقية منها اسواق ومطعم اورزدي باك الذي تكلمت عنه سابقا , والقهوة البرازيلية بشارع الرشيد , وكافيه بغداد قرب مطعم ابو يونان , ومطعم المطعم الجميل بشارع السعدون . ومن اكثر الاماكن التي كنا نرتادها مطعم فوانيس بشارع السعدون الذي قضينا فيه اجمل السهرات حيث كنا نأكل السكالوب والمشوي مشكل والسباكيتي على انغام الموسيقى الكلاسيكية التي تنبعث من سماعات المحل المخفية . كانت جلساتنا بهذا المطعم تمتليء بأحاديث جميلة وممتعة تنعش الروح وتجعل القلب يحلق ويطوف في احلام وردية زاهية تتوافق مع اعمارنا الشابة وتطلعاتنا بالحياة والمستقبل الزاهر . ومن هذه الممارسات المذوقة نشأت شابا احب الحياة واحب ان أعيشها واتوق لتحسس جمالياتها .

ومن الاشياء التي تعلمتها من خالي العزيز سعد هو حب الموسيقى بشتى انواعها , وبالذات الموسيقى الكلاسيكية . كانت الوسيلة الشائعة في تلك الفترة للاستماع للموسيقى في البيوت هي عن طريق الاسطوانات لان مسجلات الكاسيت كانت قد ظهرت لتوها ولم تكن قد انتشرت بعد . وكان والدي الذي يعمل في الكويت بتلك الفترة قد بعث لاختي الاكبر مني كرامفون احمر اللون الماني ماركة (تلفونكن) لم تستعمله كثيرا بل تركته لنا انا وخالي لكي نستخدمه باشباع هوايتنا في الاستماع للاسطونات والموسيقى . كنا نجلس انا وهو بغرفة الخطار بعيدا عن ضوضاء البيت ونستعمل هذا الكرامفون لسماع اجمل الموسيقى العالمية من مقطوعات بتهوفن وموزارت وشتراوس وباخ وغيرهم . لم نكن نقتصر بحبنا على الموسيقى الكلاسيكية بل كنا نستمع ايضا الى اجمل الاغاني الغربية التي كانت شائعة بذلك الوقت مثل اغاني توم جونز وشارل ازنافور وانريكو ماسياس والفيس بريسلي وغيرهم , لكن والحق يقال كان ميلنا للموسيقى الكلاسيكية اقوى واشد . كانت مصادرنا في الحصول على الاسطوانات هي من الكويت حيث كان خالي سعد كثير السفر الى هناك لزيارة اشقائه العاملين بذلك البلد . وفي كل مرة كان يسافر فيها الى هناك يقتني مجموعة فاخرة من احدث الاسطوانات , او يأخذها من مجموعة خالي الاكبر منه الذي كان يحمل نفس الهواية . وحين يعود من سفرته كان اول سؤال اوجهه له هو عن الاسطوانات التي جلبها معه من غير ان اعير اهمية الى اي شيء اخر جلبه معه . لازلت لحد الان اتذكر حين جلب معه لاول مرة اسطوانة بالحجم الكبير لموسيقى فلم (دكتور زيفاكو) الذي مثله عمر الشريف والتي كانت بحق من اجمل موسيقى الافلام التي سمعتها بحياتي . استمعنا انا وهو الى تلك الاسطوانة لمئات المرات ولازلت لحد الوقت الحالي استمع اليها باستمرار دون ان امل منها . ومن الاشياء التي كان يفعلها خالي سعد على انغام موسيقى تلك الاسطوانة هي ممارسة رياضته اليومية , حيث كان يشغل الاسطوانة ثم يبدأ جولة من الهرولة مبتدئا من غرفته بداخل البيت مجتازا الممرات الى الحديقة حيث يلفها ليعود داخلا البيت مرة اخرى مكملا دورة كاملة يعاود تكرارها على انغام تلك الموسيقى .

ظل خالي سعد لفترة طويلة من غير عمل بعد تخرجه , لذلك كان في الكثير من الصباحات يزورني في كلية العلوم القريبة من بيت جدي حيث كان يقضي معي بعض الأوقات بنادي الكلية لتناول الفطور وشرب القهوة والتحدث الى اصدقائي الذين تعرف عليهم هناك . وفي حالات أخرى كنت أقوم انا بدعوة بعض اصدقائي بالكلية لزيارتي بالبيت لتناول القهوة معي والاستماع لاي موسيقى جديدة حصلت عليها , وكانت هذه مناسبات اخرى يلتقوا فيها بخالي سعد . ومع ان هؤلاء الاصدقاء كانوا يجاملوننا باظهار اعجابهم لما يسمعون من تلك المقطوعات العالمية , لكن بالحقيقة فان بعضهم كان يجد حبنا للموسيقى الكلاسيكية غريبا بعض الشيء . لقد كان هؤلاء يجدون ميلنا لهذا النوع من الموسيقى غير مفهوما ولا يتناسب مع اعمارنا ولا مع الوسط الذي نعيش فيه خصوصا ونحن كنا شبانا بعمر يافع ونعيش في بيئة شرقية بحتة . انا كنت احس بهذا الاحساس بداخل بعض هؤلاء لكني كنت افهم وأعي لماذا وجد بداخلي مثل هذا الميل لهذا النوع من الموسيقى . لقد جاء هذا الميل كنتيجة للاحساس المرهف الذي كنت احمله , والذي قد يكون فطريا لان جميع اخوالي كان عندهم ميول مشابهة . ان الاحساس المرهف والمشاعر الرقيقة الموجودة عندي زرعت بداخلي خاصية تذوق الجمال من خلال جميع الحواس التي امتلكها ومن بينها الاذن , وما من شك بان الموسيقى ومنها الموسيقى الكلاسيكية هي احدى احلى جماليات هذا العالم الذي نعيش فيه . اشكر خالي وصديقي سعد الذي علمني كيف اكون راقيا بكل شيء , واشكره ثانية لانه اشبع في نفسي حبي للموسيقى ووفر الفرصة لهذا الحب بان يأخذ مداه ويعيش فرصته . 

وهذه صورتي مع خالي سعد (الثاني من اليسار) في نادي كلية العلوم مع بعض الاصدقاء .










وهذه المقطوعة الاولى من اسطوانة

 (دكتور زيفاكو)










وسام الشالجي

19 كانون الثاني (يناير) 2015