اخر المواضيع في المدونة

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

خواطر بالاسود والابيض - قيمر الصباح


من الاكلات التي احببتها منذ طفولتي (ولحد اليوم) هي القيمر العراقي . لم يكن القيمر متوفرا بالبصرة حين كنت اعيش فيها وانا صغير ربما لحرارة الجو في صيفها الطويل نسبيا . لكني كنت استمتع بالقيمر صباح كل يوم في بيت جدي عند سفري الى بغداد في العطلة الصيفية من كل عام . كان اعداد وجبة الفطور في بيت جدي هو من اختصاص جدتي رحمها الله , حيث كانت تضع كتلي (غلاية) مملوء بالماء على اللمبة حين تأوي الى فراشها في ساعة متأخرة من الليل لتجده قد وصل الى درجة الغليان عند استيقاظها لاداء صلاة الفجر . وبعد شروق الشمس تحمل نفسها وتذهب الى سوق قريب حيث تشتري صمون حار وقيمر وجبن لوجبة الفطور . وحين اكون موجودا عندهم اثناء العطلة الصيفية فانها تستريح من هذه المهمة اذ توقظني مبكرا كل صباح وترسلني الى السوق لشراء الصمون والقيمر والجبن . ومع اني كنت احب نومة الصباح لكني كنت لا ابالي من ايقاظي مبكرا طمعا بوجبة قيمر شهية بالصباح الباكر . كانت تعطيني سلة اضع بها الصمون والجبن وماعون (صحن) اضع فيه القيمر . كنت اذهب اولا الى الفرن لشراء الصمون الذي كان كبيرا وحارا والابخرة تتصاعد منه لكونه قد خرج من الفرن لتوه , ثم اعرج بعدها على البقال لشراء الجبن والقيمر , دون انسى بان اطلب من البقال بوضع قليلا من الحليب على القيمر لكي يبقى طازجا لفترة اطول مما كان يتطلب مني حمل الماعون بصورة افقية طيلة رحلة العودة . كانت عيناي لا تفارق منظر القيمر الشهي الذي احمله اثناء عودتي , خصوصا الطبقة اللماعة منه متمنيا لو استطيع ان التهم قطعة كبيرة منه في الطريق , لكني كنت لا استطيع ان امسه لان كلا يداي كانتا مشغولتان , واحدة بحمل السلة والاخرى بحمل ماعون القيمر . وحين اصل للبيت تأخذ جدتي مني المواد التي جلبتها ثم تقطع بعض الجبن في ماعون اخر وتصب عليه بعض الماء الساخن لينقع قليلا . بعد ذلك تطلب مني الجلوس لتناول الافطار بينما كل من بالدار لازال نائما , وهذا ما كان يسعدني لأنه سيجعلني احظى بحصة الاسد من القيمر اللذيذ . كانت تعطيني صمونة حارة وتضع امامي ماعون الجبن وماعون القيمر ثم تصب لي استكان (قدح) شاي . كنت اقطع قطعة صغيرة من الصمون لكني اضع عليها قطعة اكبر منها من القيمر ثم ادسها بفمي مستمتعا بالمذاق الكريمي اللذيذ , اتبعها برشفة شاي ترطب ما في فمي وتضيف اليه مذاقا سكريا بما يجعل طعم اللقمة التي تجول بفمي رائعا . وما ان تنتهي اللقمة حتى اتبعها بثانية وهكذا دواليك , بينما جدتي تراقبني عن كثب وتراقب كل ما افعله مستشعرة باني ربما ساقضي على ما في الصحن كله لو ترك المجال مفتوحا لي . وحين تشعر باني تجاوزت اكثر من اللازم بأكل القيمر تقوم بسحب الماعون قليلا من امامي وتدفع لي بدله ماعون الجبن . لم اكن اكره الجبن , لكني كنت شبعانا منه في بيت اهلي بالبصرة طيلة ايام السنة , لذلك كنت لا احب تناوله هنا ايضا وتفويت فرصة اكل القيمر . كنت اجامل حركتها بعض الشيء فاصنع لنفسي لفة صغيرة من الجبن ما ان انتهي من اكلها حتى اغافلها واسحب ماعون القيمر نحوي مرة اخرى واصنع لنفسي لقمة جديدة منه . وحين ترى جدتي ما فعلت تعاود الكرة مرة اخرى وتسحب ماعون القيمر من امامي , بينما ارد انا عليها بعد قليل بسحب الماعون الي مرة اخرى , وهكذا بين كر وفر وكأننا توم وجيري . وبعد ان اشبع اذهب الى الحديقة واستلقي على المرجوحة لساعة او اكثر وانا في قمة الانتعاش واللذة من هذه الوجبة الطيبة . وحين اشعر بان الباقين قد استيقظوا وجلسوا لتناول الفطور اسارع وانضم اليهم واطلب من جدتي ان تسكب لي استكان شاي اخر . في الحقيقة لم تكن هذه غير محاولة دنيئة مني لنيل كمية اضافية من القيمر , لكني ما ان امد يدي اليه حتى تسحب جدتي الماعون بغضب وتقول لي (مو انت اتريكت , خلي غيرك يتريك , الكيمر مو كله بس الك) , فيضحك الجميع من كلامها ويقولون لها (دعيه يتهنأ قليلا في بيت جده , فما هي الا فترة ويعود الى البصرة مرة اخرى) . كان هذا الوضع يتكرر كل يوم تقريبا , لكنه كان جميلا وما غضبت من جدتي يوما , وحين رحلت عنا بكيت عليها بكاءا مرا . رحم الله جدتي الحبيبة , ورحم الله تلك الايام الجميلة .
وهذه صورة بالاسود والابيض تجمعني وانا صغير مع جدتي الحبيبة .






وسام الشالجي
4 نوفمبر 2014