من الاكلات التي احببتها
منذ طفولتي (ولحد اليوم) هي القيمر العراقي . لم يكن القيمر متوفرا بالبصرة حين
كنت اعيش فيها وانا صغير ربما لحرارة الجو في صيفها الطويل نسبيا . لكني كنت
استمتع بالقيمر صباح كل يوم في بيت جدي عند سفري الى بغداد في العطلة الصيفية من
كل عام . كان اعداد وجبة الفطور في بيت جدي هو من اختصاص جدتي رحمها الله , حيث
كانت تضع كتلي (غلاية) مملوء بالماء على اللمبة حين تأوي الى فراشها في ساعة
متأخرة من الليل لتجده قد وصل الى درجة الغليان عند استيقاظها لاداء صلاة الفجر .
وبعد شروق الشمس تحمل نفسها وتذهب الى سوق قريب حيث تشتري صمون حار وقيمر وجبن
لوجبة الفطور . وحين اكون موجودا عندهم اثناء العطلة الصيفية فانها تستريح من هذه
المهمة اذ توقظني مبكرا كل صباح وترسلني الى السوق لشراء الصمون والقيمر والجبن . ومع
اني كنت احب نومة الصباح لكني كنت لا ابالي من ايقاظي مبكرا طمعا بوجبة قيمر شهية
بالصباح الباكر . كانت تعطيني سلة اضع بها الصمون والجبن وماعون (صحن) اضع فيه
القيمر . كنت اذهب اولا الى الفرن لشراء الصمون الذي كان كبيرا وحارا والابخرة
تتصاعد منه لكونه قد خرج من الفرن لتوه , ثم اعرج بعدها على البقال لشراء الجبن
والقيمر , دون انسى بان اطلب من البقال بوضع قليلا من الحليب على القيمر لكي يبقى طازجا
لفترة اطول مما كان يتطلب مني حمل الماعون بصورة افقية طيلة رحلة العودة . كانت
عيناي لا تفارق منظر القيمر الشهي الذي احمله اثناء عودتي , خصوصا الطبقة اللماعة
منه متمنيا لو استطيع ان التهم قطعة كبيرة منه في الطريق , لكني كنت لا استطيع ان
امسه لان كلا يداي كانتا مشغولتان , واحدة بحمل السلة والاخرى بحمل ماعون القيمر .
وحين اصل للبيت تأخذ جدتي مني المواد التي جلبتها ثم تقطع بعض الجبن في ماعون اخر وتصب
عليه بعض الماء الساخن لينقع قليلا . بعد ذلك تطلب مني الجلوس لتناول الافطار
بينما كل من بالدار لازال نائما , وهذا ما كان يسعدني لأنه سيجعلني احظى بحصة
الاسد من القيمر اللذيذ . كانت تعطيني صمونة حارة وتضع امامي ماعون الجبن وماعون
القيمر ثم تصب لي استكان (قدح) شاي . كنت اقطع قطعة صغيرة من الصمون لكني اضع
عليها قطعة اكبر منها من القيمر ثم ادسها بفمي مستمتعا بالمذاق الكريمي اللذيذ ,
اتبعها برشفة شاي ترطب ما في فمي وتضيف اليه مذاقا سكريا بما يجعل طعم اللقمة التي
تجول بفمي رائعا . وما ان تنتهي اللقمة حتى اتبعها بثانية وهكذا دواليك , بينما جدتي
تراقبني عن كثب وتراقب كل ما افعله مستشعرة باني ربما ساقضي على ما في الصحن كله
لو ترك المجال مفتوحا لي . وحين تشعر باني تجاوزت اكثر من اللازم بأكل القيمر تقوم
بسحب الماعون قليلا من امامي وتدفع لي بدله ماعون الجبن . لم اكن اكره الجبن , لكني
كنت شبعانا منه في بيت اهلي بالبصرة طيلة ايام السنة , لذلك كنت لا احب تناوله هنا
ايضا وتفويت فرصة اكل القيمر . كنت اجامل حركتها بعض الشيء فاصنع لنفسي لفة صغيرة
من الجبن ما ان انتهي من اكلها حتى اغافلها واسحب ماعون القيمر نحوي مرة اخرى
واصنع لنفسي لقمة جديدة منه . وحين ترى جدتي ما فعلت تعاود الكرة مرة اخرى وتسحب
ماعون القيمر من امامي , بينما ارد انا عليها بعد قليل بسحب الماعون الي مرة اخرى ,
وهكذا بين كر وفر وكأننا توم وجيري . وبعد ان اشبع اذهب الى الحديقة واستلقي على
المرجوحة لساعة او اكثر وانا في قمة الانتعاش واللذة من هذه الوجبة الطيبة . وحين اشعر
بان الباقين قد استيقظوا وجلسوا لتناول الفطور اسارع وانضم اليهم واطلب من جدتي ان
تسكب لي استكان شاي اخر . في الحقيقة لم تكن هذه غير محاولة دنيئة مني لنيل كمية اضافية
من القيمر , لكني ما ان امد يدي اليه حتى تسحب جدتي الماعون بغضب وتقول لي (مو انت
اتريكت , خلي غيرك يتريك , الكيمر مو كله بس الك) , فيضحك الجميع من كلامها ويقولون
لها (دعيه يتهنأ قليلا في بيت جده , فما هي الا فترة ويعود الى البصرة مرة اخرى) .
كان هذا الوضع يتكرر كل يوم تقريبا , لكنه كان جميلا وما غضبت من جدتي يوما , وحين
رحلت عنا بكيت عليها بكاءا مرا . رحم الله جدتي الحبيبة , ورحم الله تلك الايام الجميلة
.
وهذه صورة بالاسود والابيض تجمعني وانا صغير مع جدتي الحبيبة .
وهذه صورة بالاسود والابيض تجمعني وانا صغير مع جدتي الحبيبة .
وسام الشالجي
4 نوفمبر 2014