اخر المواضيع في المدونة

الاثنين، 4 نوفمبر 2013

تدمير التراث الثقافي العربي , هل هو مؤامرة ؟ - (5)

الحلقة الاخيرة

بعد ان اطلعنا على ما جرى بالعراق خلال السنوات الثلاثين الماضية وعمليات التدمير المنظمة التي جرت لكل شيء في هذا البلد , بما في ذلك تدمير أرثه الثقافي والحضاري والفني وكل ما له صلة في بناء بلد متحضر ومتقدم يمكن القول بان هذه الاحداث برمتها لم تكن غير انابيب اختبار لدراسة ما يمكن ان يطبق منها بنجاح في بقية الدول العربية . وبالفعل فقد بدأ في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين هذا التطبيق من خلال مسلسل احداث مفاجئة وصعبة الفهم تدلل على ان دور الدول العربية الاخرى , وبالذات الدول التي كانت في الماضي ولازالت مواقع يمكن ان تنموا فيها بذور الصحوة العربية , قد أتى وان عمليات تدمير منظمة بضمنها تحطيم التراث الثقافي والحضاري لهذه البلدان قد أزفت ساعته . لذلك سيكون لب هذه الحلقة من هذه الدراسة مخصص لمعرفة ما جرى في بعض الدول العربية , وما ينتظر حدوثه في المستقبل المنظور ضمن موضوع هذه الدراسة . وسنحاول لدى استعراضنا للأحداث التي حصلت ان نبقي الموضوع بعيدا عن السياسة ودهاليزها , وان نجعل الطرح حياديا وموضوعيا قدر الامكان .

ثورات الربيع العربي

في بداية عام 2010 بدأت سلسلة من الانتفاضات والثورات الشعبية تنطلق فجأة في شوارع بعض الدول العربية دون سابق انذار . فقد قامت انتفاضات متتالية خلال فترات متقاربة لا يفصلها عن بعضها البعض سوى اسابيع في دول عربية سادت فيها أنظمة دكتاتورية لعشرات السنين , وهي : تونس , مصر , ليبيا , اليمن , البحرين , وسوريا . كانت تلك الحركات سلمية في بدايتها تتمحور في نطاق القيام بمظاهرات شعبية عارمة وحاشدة تنادي باسقاط الانظمة السياسية في تلك البلدان . عرفت هذه الحركات في بدايتها بأسم (ثورات الربيع العربي) كنوع من الاشارة الى انها حركات شعبية وطنية صرفة تهدف الى انهاء حالة الظلام الحالك الطويل الذي مر ببعض البلدان العربية بعد عقود من الأحكام الدكتاتورية المتسلطة . وقد تعاطفت كل شعوب العالم مع ما جرى في تلك الدول العربية , حيث انطلقت مظاهرات شعبية مؤيدة في العديد من دول العالم لمساندة كفاح الشعوب العربية المنتفضة ودعم نضالها من اجل اسقاط الانظمة التي تسلطت عليها لمدد طويلة . لم يقف الامر عند هذا الحد بل ان التمجيد وصل الى حد ان بعض شعوب العالم نادت في تظاهراتها الى اعتبار ما يجري في الدول العربية أنموذجا واتخاذه امثولة يمكن ان تستخدمها بقية الشعوب للتخلص من اي ظلم وتسلط يحيق بها . لكن ما جرى لاحقا بين بأن هذه الثورات لا تمت للربيع بشيء , أذ بعد فترة قليلة اتخذت تلك الحركات مسارات جعلتها ابعد ما تكون عن مجرد حركات سلمية ذات اهداف وطنية . لا يعرف بالضبط كيف تغير مسار تلك الأنتفاضات وكيف استطاعت قوى وجهات معينة ان تجير ما حدث لصالحها , ولا الاسلوب الذي استخدم لتوظيفها باتجاه اهداف بعيدة جدا عن ما كان ينتظر منها  . ولألقاء المزيد من الضوء على هذه الحقيقة يجب ان يعرف اولا ما حصل .

بدأت هذه الحركات في تونس اولا , ثم انتشرت لتشمل مصر وليبيا واليمن والبحرين واخيرا سوريا . بدأت الحركات بمظاهرات شعبية تنادي بشعار مشترك هو : (الشعب يريد اسقاط النظام) انطلق من حناجر المتظاهرين في اكثر من دولة . وفي الواقع ان مجرد وجود شعار مشترك ينطلق نفسه من قبل متظاهرين في دول متباعدة جغرافيا يدعوا الى الريبة ويدفع الى الظن بان هذه الحركات ربما كانت تدار وتنظم من قبل جهة واحدة . في تونس ومصر حصل التغيير بسرعة , فبعد اسابيع قليلة من التظاهر والاحتجاج ومماطلة الرئيسين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك تنحى حاكما هذان البلدان عن السلطة طوعيا وتركا الحكم . كان الوصول الى هذه النتائج السريعة يفترض منه بان الثورات في هذين البلدين قد حققتا اهدافهما وان الاستقرار سيسود بهذين البلدين , لكن ذلك لم يحصل بالمرة . أما ما حصل في ليبيا فقد كان مختلفا بشكل كبير , فقد تحولت المظاهرات السلمية بعد فترة قصيرة الى حركة مسلحة وحرب حقيقية تلقت دعما مباشرا من الجامعة العربية ومنظمة الامم المتحدة وبعض الدول العربية والغربية . ثم توسع الدعم ليصبح تدخلا عسكريا مباشرا لدعم قوات الثورة من خلال حظر جوي فرضته الامم المتحدة وغارات جوية شنها حلف شمال الاطلسي على قوات الرئيس الليبي . وبعد حوالي ثمان اشهر من القتال الضاري وفقدان اكثر من 50 الف قتيل سقط نظام الحكم وقتل الرئيس الليبي معمر القذافي وانتهى بذلك نظام يعتبر اعرق واطول نظام دكتاتوري في العالم . في البحرين قمعت المظاهرات بقوة وشدة مما جعلها تنتهي بعد فترة قصيرة من بدأها وباشرت الحكومة باجراء عمليات اصلاح سياسي لاحتواء الازمة الموجودة في البلاد . ومع ذلك فقد ظلت حالة عدم الاستقرار سارية بهذا البلد وظلت جمرات النار متوقدة تحت الرماد مما ظل يهدد بعودة نشوب نيرانها في اي وقت , وهذا ما تكرر حدوثه فعلا لاكثر من مرة . اما ما جرى في اليمن فقد جرى احتوائه بعد عدة اشهر من المظاهرات من قبل الدول الخليجية المجاورة التي قدمت مبادرة لانهاء الثورة سلميا من خلال اقناع الرئيس اليمني عبد الله صالح على التنحي وترك السلطة لنائبه مقابل ضمان امنه وعدم ملاحقته قضائيا عن اي تهمة . ويبدوا بان اشتعال الصراع على مقربة من بوابات الدول الخليجية غير مسموح به لا اقليميا ولا عالميا مما دفع الى احتواء الاحداث في البحرين واليمن بسرعة فائقة واطفاء النيران التي أنطلقت شرارتها في هذين البلدين . اما في سوريا فقد كان الامر مختلفا تماما عن كل السيناريوهات الاخرى , فقد اندلع قتال شديد وتدفقت جموع المحاربين من كل الدول العربية لمحاربة نظام دكتاتوري عريق أخر . ظلت المعارك مشتعلة بضراوة لا مثيل لها وقتل لحد ساعة اعداد هذا المقال اكثر من 100 الف شخص وتشرد حوالي اربعة ملايين مواطن ودمرت معظم المدن السورية , وتحطم جيش يعتبر من اعرق واقوى الجيوش العربية , لكن رغم ذلك لم يسقط النظام وظل صامدا يقاتل بشدة منذ ثلاث سنوات لحد الان . لا يفهم بالضبط كيف ان هذا النظام استطاع الصمود طيلة هذه الفترة رغم طرده من الجامعة وتحجيم عضويته في منظمة الامم المتحدة وتكالب معظم دول العالم ضده . ولا يفهم ايضا كيف ان دولة كانت الى الامس القريب ذات علاقات ممتازة مع كل الدول العربية وكل دول العالم اصبحت فجأة دولة مارقة ينادي الجميع بضرورة اسقاط نظامها وتحرير شعبها وطرد رئيسها من السلطة بينما هو وعائلته موجودين بالحكم منذ حوالي نصف قرن حتى الان . غير ان ذلك يمكن ان يعزى الى عاملين , اولهما هو الدعمين الروسي والصيني لهذا النظام ووقوفهما الى جانبه في مجلس الامن حيث استخدما حق الفيتو ضد جميع القرارات التي كانت تدينه وتدعوا الى التدخل لاسقاطه . الامر الثاني هو ان الثورة المسلحة ضد هذا النظام فقدت الكثير من الاسناد والدعم نتيجة لحمام الدم الذي تحول اليه الصراع بعد ثلاث سنوات من القتال الشديد .

نتائج ثورات الربيع العربي

ان ما حصل لاحقا في معظم الدول التي حصلت فيها ثورات وانتفاضات الربيع العربي يبين بوضوح بان الاهداف الاصلية لهذه الثورات قد تغيرت بعد فترة قليلة من انطلاقها ووظفت باتجاهات مختلفة . ومن النتائج الغير مباشرة لما حصل هو وصول حركات اسلامية سياسية للحكم بنوعيها المعتدل والمتشدد . هذا هو ما حصل في تونس ومصر وكاد ان يحصل في ليبيا , وينتظر حصوله في سوريا في نهاية المطاف . اما ما حصل في البحرين واليمن فهو مختلف بعض الشيء لان وكما يبدوا فان وجود هذه الدول على بوابة دولة امنها حساس بالنسبة للعالم جعلهما حالة مختلفة . وبصورة عامة , فأن الامال التي كانت معقودة على تحرر الانسان العربي في بلدان الربيع العربي وبناء دول ديمقراطية متحررة قد تبددت وذهبت ادراج الرياح وتكونت بدلا عنها دول فاشلة تعمها الفوضى ويسودها فقدان الامن ويعم فيها غياب القانون وتنتشر فيها الجماعات والميليشيات المسلحة . كما ان الحصيلة المادية لتلك الثورات اسفرت عمليا عن تدمير بلدان عربية كبيرة وعريقة وبث روح الفرقة والانقسام فيها ودفع شعوبها الى الاقتتال فيما بين مكوناتها منذرا بحصول حروب اهلية في معظمها . تبقى هناك ملاحظة لابد من الاشارة اليها وهي ان معظم البلدان التي جرى اسقاط انظمتها هي دول عربية تمتلك جيوش لا يستهان بقوتها . كما انها تشترك ايضا برفعها لشعارات القومية العربية منذ عقود ومناداتها المستمرة بضروة حل القضية الفلسطينية وتسوية الصراع العربي الاسرائيلي من خلال قيام دولة فلسطينية مستقلة . ومن الملاحظ ايضا بان عمليات التغيير التي جرت في هذه البلدان اسفرت بشكل او بأخر الى تساقط الجيوش العربية بالتتابع كما تتساقط قطع الدومينو , والتي بدأت حركتها الاولى بتدمير جيش العراق لينتقل بعدها تأثير الحركة الى باقي دول المنطقة .

من الناحية العسكرية يمكن الاستنتاج من الاحداث التي مرت بان تحطيم مراكز القوة العربية وتفكيك قدراتها العسكرية وتكسير عظام الدول التي تدعي الوطنية وترفع رايات القومية العربية كان هو المقصود بالدرجة الاولى من كل ما جرى ويجري في البلدان العربية التي حصلت فيها ثورات الربيع العربي . وليس صعبا ايضا ادراك بان كل ما جرى صب في النهاية بمصلحة اسرائيل وانها توصلت من دون حروب الى تحطيم الجيوش العربية القوية وتدمير كل القوى التي حصلت عليها البلدان العربية في حقبة الاتحاد السوفيتي السابق بما يجعلها الدولة المتوفقة عسكريا وحضاريا وثقافيا على كل دول المنطقة مجتمعة , وانها ضمنت بهذا امنها وبقائها وسيادتها على منطقة الشرق الاوسط من الان والى قرون قادمة . كما ان اسرائيل ضمنت ايضا بان لا تحصل اي دولة عربية مرة اخرى في المستقبل على اي فرصة لامتلاك قوة يمكن ان تتفوق بها عليها بشكل ما بعد ان اصبحت روسيا مجرد مطية تابعة للسياسة الغربية لا تستطيع ان تقوم باي شيء لا ترضاه دول الغرب , وكذلك خشية الصين من التفوق العسكري الغربي بما يجعلها تتراجع امام اي عين حمراء توجه اليها من تلك الدول . ومما يؤكد هذه الحقيقة بما لا يقبل الشك هو ما حدث مؤخرا من اتفاق على تدمير ترسانة السلاح الكيمياوي لسوريا مقابل عدم ضربها عسكريا .

أما من الناحية السياسية , فأن ما حصل بدول الربيع العربي يهدف كما يبدو الى تشكيل هلال سني يقابل الهلال الشيعي الذي تكون قبله بسنوات ابتداء من ايران مرورا بالعراق وسوريا ومنتهيا بلبنان . كما ان تعقد الوضع بسوريا وامتداده لفترة طويلة يبين بان الوقت كان يمهد لانتهاء تشكل الهلال السني واكتسابه لنوع من التحالفات القوية . وبعد اكتمال تكون هذا المحور من المنتظر ان تدفع الاوضاع في سوريا نحو الحسم بما يؤدي في النهاية الى اقتراب مرحلة سقوط النظام مما سيدفع الهلال الشيعي الى التدخل بكل قوته لأيقاف حصول هذه النتيجة . ان هذا سيؤدي بدوره الى تدخل الهلال السني لصالح القوى التي تحارب النظام السوري بما يؤذن بانفجار الاوضاع ودخول المنطقة في اتون صراع طائفي رهيب لا تعرف نتائجه ولا مدة اشتعاله . ومن المنتظر ايضا بان تستثمر اسرائيل هذا الوضع فتقوم بتحطيم كل المفاعلات النووية الايرانية مما سيجعل ايران لا تستطيع ان ترد لانهماكها بحرب ادخلت نفسها في لهيبها .

كان ما تقدم هو من ناحية الاوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة , اما من ناحية الموضوع الرئيسي لهذه الدراسة وهو التراث الثقافي والحضاري والفني العربي فاننا نجد بان ما بدأ يحصل في دول الربيع العربي وما ينتظر ان يحصل بها في المستقبل هناك لا يختلف كثيرا عن ما جرى في العراق . ان تدمير التراث الثقافي لاي شعب او امة يمكن ان يتمثل في عدة اجراءات , منها :  

 تدمير المواقع والاثار التاريخية والاماكن التراثية
 تدمير الرموز والمواقع الدينية والروحانية
 تدمير المتاحف وسرقة موجوداتها
 تدمير المكتبات وسرقة وحرق موجوداتها
 تدمير مواقع الارشفة والتوثيق وسرقة وتحطيم موجوداتها
 تدمير التراث الحضاري والاجتماعي والفني وتطويق فرص عمله
 قتل المثقفين والعلماء وتهجيرهم وتكميم الافواه

ولو راجعنا ما حصل في دول الربيع العربي والذي بدأ يتسرب الى بقية الدول العربية الاخرى لوجدنا بان بعض ما جاء اعلاه قد بدأ بالحصول فيها فعلا , وان الامر ليس غير مسالة وقت حتى يتحقق جميعه . وقد حذر عدد من الخبراء والمهتمين بالشؤون الثقافية والإرث الحضاري من التداعيات الوخيمة والمخاطر التي تحيط بالثروة الحضارية والثقافية الموجودة في دول الربيع العربي مما يجري في تلك البلدان والذي اتخذ أشكالا ممنهجة في تدمير الاثار التاريخية والمواقع الدينية وغيرها من المكتسبات الحضارية التي تم الحفاظ عليها على مر العصور. ان اغلب ما يجري في تلك البلدان حاليا هو ممارسات لجماعات دينية متشددة تعمل بفكر بختلف عن الفكر السائد والذي كان ساريا في تلك البلدان لمئات السنين . وقد تركز الامر في بدايته على تدمير الاضرحة والمواقع الصوفية على اساس انها مواقع لا تمت للدين بصلة وانها بدع ضالة يشكل وجودها والتقرب منها نوع من انواع الشرك بالله مما يقتضي ازالتها . وقد امتد الامر لاحقا ليضاف اليه اعمال عنف ضد اماكن العبادة للاديان الاخرى انطلاقا من فكر تلك الجماعات الذي يقضي بان كل الاديان الاخرى هي بالاساس اديان كافرة . ثم تطور الامر اكثر واخذ يجري بالعلن تداول موضوع أخر هو ان كل الاثار التاريخية الموجودة في تلك البلدان هي اثار ورموز لاديان وثنية كانت سائدة بالماضي , لذا وانطلاقا من نفس المبدأ فان هذه الاثار يجب ان تزال من الوجود . وقد بوشر فعلا بتنفيذ بعض هذه الافكار من قبل جماعات مسلحة مما الحق أضرار جسيمة ببعض الآثار التاريخية والدينية القديمة في جميع أنحاء المنطقة . وفيما يلي استعراض لبعض ما حصل من هذا القبيل في بلدان الربيع العربي :

أ‌- حصول عمليات تدمير او نهب لمراقد الاولياء في تونس حتى وصلت الى ما يفوق 30 ضريحا بعد الثورة . وقد وجهت اصابع الاتهام الى التيار السلفي واعتبر هو المسؤول عن هذه الاحداث . فقد احرقت زاوية سيد احمد الورفلي في مدينة اكودا بولاية سوسة (140 كلم جنوب تونس) . وقد احرق قبل عشرة ايام من ذلك ضريح سيدي بو سعيد الباجي الذي يعود إلى القرن الثالث عشر ، وهو العالم المتصوف والولي الذي منح إسمه للقرية الموجود فيها والتي تطل على خليج تونس بالضاحية الشمالية للعاصمة والتي تعتبر من افضل الوجهات السياحية في البلاد وقبلة للسياح الوافدين الى تونس من مختلف دول العالم . كما احرق ضريح سيدي علي بن سالم بولاية قابس (جنوب غرب) . لم يتعوّد التونسيون على مشاهد حرق وتخريب وهدم اضرحة الاولياء الصالحين التي تعتبر جزءً من التراث والذاكرة الوطنية لعموم التونسيين , لذلك فقد حصل ذهول في تونس مع تهاوي أضرحة الرجال الصالحين في نظرهم على أيادي متطرّفين بينما ظلت الحكومة عاجزة عن تحديد هوية الفاعلين أو معاقبتهم . من ناحية اخرى فقد اعربت فرنسا عن قلقها الشديد من تكاثر عمليات تدمير الاضرحة الصوفية في تونس ودعت السلطات التونسية الى حماية تراث البلاد وبذل كل ما يمكن لوقف تلك التجاوزات وحماية التراث التونسي الفكري والثقافي والفني .
ب‌- تعرض ضريح عائشة بنت الشيخ أبي موسى عمران بن الحاج سليمان المنوبي , الذي يقع في مدينة منوبة بتونس لحريق كبير أتى على جزء كبير منه ، بعد أن هاجمه ملثمون بهدف السرقة . والسيدة (منوبة) هي من أبرز قيادات الطريقة الشاذلية الصوفية في تونس ، وقد اشتهرت في القرن الـ 13 الميلادي بعلمها ، وبني لها مقام يزوره التونسيون تبركا بها ، وقد سميت محافظة "منوبة" نسبة لها . وقد أدانت إيرينا بوكوفا المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) تدمير وتخريب المقام المخصص لهذه المتصوفة التونسية في تونس . ودعت بوكوفا في بيان للمنظمة السلطات التونسية إلى اتخاذ التدابير اللازمة لحماية مواقع التراث الثقافي التي تحمل ذاكرة وهوية الشعب التونسي من أي أعمال تؤدي إلى تخريبها .

ت‌- حصول هجمات مختلفة قام بها متشددين على بعض الاضرحة والمقامات الاخرى في تونس منها هدم الجزء العلوي لقبة الولي سيدي المحارب الكائن بمنطقة (الفالاز) النائية المطلة على شاطئ البحر بمحافظة المنستير , بالاضافة الى اعتداءات سابقة على مقامي وليين اخرين في نفس المنطقة من خلال نبش رفاتهما . وكذلك هدم قبة زاوية سيدي يعقوب بمنطقة مطماطة الجديدة التابعة لمحافظة قابس بالجنوب التونسي , وهدم ضريح الولي سيدي عسيلة في بادرو بالعاصمة ، وحرق مقام الولي عمر السماتي الموجود بمقبرة في ضواحي مدينة سبيبة من محافظة القصرين بالوسط الغربي وحرق مقام الولي علي الحشاني بمنزل عبد الرحمان بمحافظة بنزرت بأقصى شمال تونس . وحرق مقام سيدي عبد القادر بمدينة منزل بوزلفة بالوطن القبلي وحرق ضريح سيدي عبد السلام بالعاصمة وضريح سيدي عبد العزيز بالمرسى وحرق مقام سيدي صالح بجندوبة بالشمال الغربي للبلاد التونسية .
ث‌- حدوث أعمال تدمير للمواقع الصوفية في ليبيا بعد قيام متشددين بتدمير ضريح صوفي يعود للقرن الخامس عشر الميلادي . كما قام اسلاميون متشددون بهدم ضريح الشعاب الدهماني في العاصمة الليبية طرابلس وتفجير ضريح اخر للعالم الصوفي عبدالسلام الأسمر في زليتن التي تقع على بعد 160 كلم شرق العاصمة . وقد أعربت بوكوفا مديرة منظمة اليونسكو في بيان خاص عن قلقها البالغ حيال ما اسمته تدمير وتدنيس أضرحة صوفية ومكتبات في زليتن ومصراته وطرابلس مؤكدة استعداد اليونسكو لحماية هذه المواقع التاريخية وإعادة بنائها بحسب بيان منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة . وأضافت بوكوفا بانه لايمكن القبول بتدمير مواقع ذات أهمية دينية وثقافية مطلقا , وحثت السلطات الليبية والمجتمع المدني على تحمل مسؤولياتهم لحماية التراث الثقافي والمواقع ذات الأهمية الدينية في ليبيا من أجل الأجيال المقبلة .
ج‌- تعرض مكتبة وجامعة تحملان اسم الشيخ الأسمر لاعمال تخريب ونهب وفق مصادر أمنية محلية . وندد رئيس المؤتمر الوطني العام الليبي محمد المقريف بتدمير التراث الثقافي والإسلامي وتعهد بملاحقة مرتكبي هذه الأعمال .
ح‌- استهداف الاماكن والمواقع الدينية في سوريا سواء بصورة متعمدة او نتيجة للصراع الناشب منذ ثلاث سنوات , كما جرى في تدمير ضريح الصحابي الجليل خالد بن الوليد وماذنة الجامع الأموي في حلب وقلعة الحصن التي تعود إلى الحروب الصليبية في القرن الثالث عشر . وكانت اليونسكو قد أدرجت في دورتها السنوية التي عقدت مؤخرا بالعاصمة الكمبودية فنوم بنه ستة مواقع أثرية سورية معرضة للخطر بفعل المعارك الجارية على قائمة التراث العالمي المهدد ، ولا سيما الأحياء القديمة في حلب التي أصيبت بأضرار جسيمة منذ اندلاع الثورة في مارس/آذار 2011 . كما تشمل هذه اللائحة ايضا دمشق القديمة ، وحلب القديمة ، وآثار بصرى الشام ، وقلعة الحصن ، وموقع تدمر ، وقرى أثرية في شمالي سوريا .
خ‌- أكد المدير العام المساعد في يونسكو فرانشيسكو باندارين أن أضرار كبيرة لا يمكن إصلاحها تصيب المواقع التاريخية والاثرية في سوريا تأتي من نهب التحف من المواقع الأثرية لتصديرها الى الخارج . واضاف قائلا "شاهدنا هذا يحدث في العراق وأفغانستان وليبيا ومالي ، وهو للأسف أحد الآثار الجانبية المعتادة للحرب ، ومن الصعب جدا إيقافه" . وتستغل عصابات مسلحة ومنظمة تضم في بعض الأحيان المئات من الأشخاص افتقار كثير من المواقع الأثرية للأمن والحماية فتقوم بنهبها وسرقتها وتصدير موجوداتها للخارد لغرض بيعها . وقالت منظمة اليونسكو إن صورا التقطت بالأقمار الصناعية قبل الأزمة وبعدها في مدينة أفاميا التاريخية تعرض بوضوح نطاق النهب والدمار . وأضافت المنظمة بأنه تم التعرف على أشياء نفيسة كانت معروضة للبيع في بيروت ، وصادرت الشرطة الدولية (إلأنتربول) 18 فسيفساء سورية و73 قطعة فنية أخرى على الحدود اللبنانية ، وناشدت الدول المجاورة لتحسين السيطرة على الحدود ومكافحة تهريب الآثار  .
د‌- بعد أعمال النهب التي تعرّض لها متحف (ملوي) الوطني الواقع في مدينة المنيا بصعيد مصر ، وتدمير آثار ذات أهمية دينية ، بما في ذلك كنائس ومساجد في صعيد مصر والفيوم والقاهرة ، ارتفعت أصوات المؤسسات الدولية منددة بالعنف والتطرف الذي تحدثه الجماعات المتطرفة في مصر من سلب ونهب للمتاحف والمناطق الأثرية وتدمير التراث الثقافي . في هذا الإطار أعربت إيرينا بوكوفا المديرة العامة لليونسكو عن أسفها للأضرار التي لحقت بالتراث الثقافي في مصر ، وقالت :"أدين بشدة الاعتداءات التي تعرضت لها المؤسسات الثقافية للبلاد ونهب ممتلكاتها الثقافية . إن هذه الاعتداءات تؤدي لا محالة إلى أضرار لا يمكن تداركها لتاريخ الشعب المصري وهويته".
ذ‌- تعرض متاحف أثرية وكنائس مصرية للتخريب والتدمير على أيدي جماعات متشددة. وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" قد أبدت أسفها للأضرار التي لحقت بمساجد وكنائس أثرية ومتاحف في هذا البلد .
ر‌- ظهور بوادر تضييق الخناق على الفنانين المصريين والحركة الفنية بصورة عامة في مصر والتي جاءت على السن اشخاص متنفذين بالحكومة قبل اقصاء الرئيس المصري (محمد مرسي) .
ز‌- صدور تصريحات لبعض كبار قادة الحكومة والاحزاب الدينية في مصر ايام حكومة الرئيس المصري (محمد مرسي) بان الاثار الفرعونية مثل الاهرامات وتمثال ابو الهول واثار النوبة وغيرها هي اثار وثنية يجب ازالتها .
 هذا نزر يسير مما جرى في بعض البلدان العربية وهناك الكثير الذي لم يكن من الممكن معرفته بسبب ندرة المصادر وقلة ما يعلن عن ما يجري تدميره وتحطيمه . كما ان الامر لم يتوقف عند هذا الحد بل ان عدواه انتقلت الى دول عربية مجاورة مثل لبنان والجزائر , ولا يمكن توقع المدى الذي ستمتد اليها اثاره .

خاتمة

ان ما يمكن استخلاصه من هذا المبحث هو ان ما جرى في البلدان العربية , والذي ابتدأ مخططه بالعراق قبل ثلاثة عقود والمستمر حتى الان , لا يمكن ان يكون عفويا او انه حصيلة طبيعية لتتالي الاحداث والوقائع , بل ان الامر واضحا لاي دارس او متتبع في كونه حملة منظمة ودقيقة تقوم بها قوى وجهات معينة تهدف الى تحطيم الارث الثقافي والبنيان الاجتماعي والحضاري للامة العربية . ان من يدفع الامور بهذا الاتجاه هو على دراية اكيدة بان هذا التحطيم سينتج عنه بالنهاية شعوب مفككة بلا تاريخ حضاري ولا بناء فكري قومي ولا وجود لاهداف وطنية مشتركة , بل مجرد فئات قبلية او عرقية او دينية متصارعة ومتحاربة يقودها زعماء وامراء حروب لا يهمهم غير مصالحهم الشخصية وما يجنونه من اموال . اما الشعوب فلا بأس في ان تبقى تعتاش على الخزعبلات والدجل والعيش بالماضي وصراعاته . ولا بأس ايضا من تفشي الجريمة المنظمة وغياب القانون وانتشار الجماعات المسلحة وانتشار اعمال القتل والنهب والسلب طالما ان ذلك يضمن بقائهم وبقاء نفوذهم . ان القوى المعادية لامتنا العربية لا تريد للشعوب العربية ان تتطور فكريا وحضاريا , ولا ان ينتشر فيها التحضر الاجتماعي ولا التقدم العلمي , بل تريدها ان تبقى غارقة في اعماق التخلف والظلام الفكري لكي تزداد الهوة بينها وبين الشعوب المتقدمة يوما بعد يوم . فلو قارنا على سبيل المثال بين ما كان عليه العراق في اواخر السبعينات حين كان على وشك ان يغادر قائمة الدول النامية ويدخل قائمة الدول المتقدمة , وبين وضعه اليوم بعد حوالي اربعين عاما حيث اصبح اخر دولة في العالم في كل شيء , لعرفنا المغزى والغاية من هذه الحملة المنظمة التي تجري على بلداننا . ونفس الامر يكاد ينطبق على بقية الدول العربية , فبعد ان كانت تونس كمثال أخر , قبلة للسواح الاجانب لما تنعم به من تقدم واستقرار وهدوء نجدها اليوم دولة ضائعة تتقاذفها الرياح وتعم بها الفوضى وانفلات الامور ولا يعرف الى اين سيكون مصيرها . اما مصر , وهي قلب الامة العربية النابض لمئات السنين , فان ما ينتظرها لا يبشر بخير ابدا . ان من المتوقع ان تمر هذه الدولة بسلسلة من الاحداث الجسام التي ستحطم قواها وتغير نفسية الانسان المبدع الذي يعيش فيها لتنتج بالنهاية دولة فاشلة اخرى تضاف الى قائمة الدول الفاشلة في المنطقة . ليس من المعتقد بان هناك دول عربية ستنجوا من هذا المصير , خصوصا اذا اشتعلت نيران الحرب المذهبية الكبرى في المنطقة والتي لن يكون يومها بعيدا عن يومنا هذا . وختاما , يمكن القول بان تدمير التراث الثقافي العربي هو بالتأكيد مؤامرة , وهو جزء من مؤامرة كبرى تستهدف كل شيء في المنطقة , مؤامرة لا يعرف نتائجها الا الله سبحانه وتعالى .

-  تمت -