بقلم
وسام الشالجي
قرأت هذا العنوان في فترة السبعينات كعنوان لسلسلة مقالات وردت ضمن
افتتاحية جريدة الثورة تم فيها استعراض الاوضاع السياسية في المنطقة في
حينها . واود ان اقوم الأن باستخدام نفس العنوان لمقالي هذا الذي اتناول
فيها ذات الموضوع أخذا بنظر الاعتبار طبعا , الاختلاف الشديد بين تلك
الفترة ووقتنا الحالي . ويكمن هذا الاختلاف في كون فترة السبعينات كانت
لازالت تعد ضمن مرحلة تسيد التيار القومي العربي على احداث الساحة في منطقة
الشرق الاوسط في حين تتسم الفترة الحالية بصعود الحركات السياسية الدينية
وشيوع الفكر الديني المتطرف والذي على وشك ان يصبح هو المتسيد تقريبا على
ساحة الاحداث العربية .
ان فكرة القومية تأتي من شيوع نوع من الافكار في اذهان افراد ينتمون الى
عنصر معين يجمعهم لغة واحدة وتاريخ واحد وثقافة واحدة بما يجعلهم يشعرون
بالتميز والاختلاف عن افراد العناصر الاخرى من البشر . وبالرغم من ان
المفهوم القومي موجود بطبيعته من الازل , اي منذ ان وجدت عناصر بشرية
مختلفة , الا ان هذا المفهوم لم يأخذ شكله ومضمونه المؤثر الا في الثلث
الاول من القرن التاسع عشر بعد ان تبناه الزعيم والسياسى القومى الإيطالى
جويسيبى ماتزينى للمرة الأولى ـ نحو عام 1835 . وقبل هذا التاريخ كان الفعل
المؤثر بالافراد محصورا بالفكر الديني , لكن هذا الفعل اخذ بالتغير ليحل
محله الفكر القومي بعد ان اخذت السلطات الدينية تضعف بعد ان اصبح الانسان
اكثر شجاعة في مواجهة طغيان وتسلط العقائد الدينية الى درجة جعلته لا يخشى
في ان ينسب الكثير من اوضاعه السيئة التي يعيشها الى تلك العقائد . ويدفع
هذا الحال الى الاستنتاج بان حلول الفكر القومي في محل الفكر الديني الذي
ساد لمئات السنين جعلهما بشكل او باخر خصمان لدودان بالرغم من عدم وجود
عداء جوهري بينهما . لذلك سنرى في ما سيأتي بان هذا الامر تطور فيما بعد
ليأخذ شكل صراع حسمت نتيجته في دول العالم المتقدم لصالح الحركات القومية
والعلمانية منذ وقت طويل , لكن نتيجته لم تحسم بعد في عالمنا العربي .
__________________________________
(1)
نشوء التيار القومي العربي ووصوله الى الحكم
لم يبدأ الفكر القومي العربي بالتبلور الا بعد ان اعلن السلطان عبد الحميد
الثاني مشروعه بانشاء الجامعة الاسلامية فتأسست بعض الجمعيات القومية
العربية في لبنان في اواخر القرن التاسع عشر من قبل مثقفين مسيحيين لم يرق
لهم ذلك المشروع الديني . وبعد ان سيطر حزب الاتحاد والترقي على مقاليد
الحكم وقيامه بتطبيق سياسة تتريك الاقاليم الخاضعة للدولة العثمانية تكونت
المزيد من المؤسسات الفكرية القومية في العراق والشام الى ان وصل هذا الامر
الى ذروته باعلان الثورة العربية الكبرى في الحجاز من قبل الشريف حسين
والتي كانت تستند على مبدأ عربي قومي بحت . وبعد هزيمة تركيا بالحرب
العالمية الثانية وتقسيم ممتلكاتها العربية بين الدول الاستعمارية
(بريطانيا وفرنسا) بموجب اتفاقية سايكس - بيكو تكون عدد جديد من الجمعيات
القومية العربية لتشكل فعليا بداية تكون التيار القومي العربي كفكر ومجموعة
مباديء في البداية وفعل مؤثر , لتصبح في مراحل لاحقة كأحزاب وحركات سياسية
. كان هذا التطور في التركيبة يتوافق مع مسار الاوضاع السياسية في البلدان
التي خضعت للانتداب والسيطرة الاستعمارية بموجب تلك المعاهدة . ففي
البداية كان الامر لا يحتاج الى اكثر من ظهور فكر قومي يتمثل بصدور صحف
وجرائد ومجلات اخذت تنشر على صفاحاتها مقالات وقصائد تنادي بالتخلص من
الهيمنة الاستعمارية وتدعوا لنيل الاستقلال والخلاص من الهيمنة الاجنبية .
ولزيادة التأثير ضمن نفس هذا السياق تطور الامر قليلا فأدى الى تشكيل
جمعيات ونوادي أخذت تعقد الندوات والاجتماعات والتي بقيت بشكل لا يتجاوز
مضمونها الى اكثر من تدارس حالة البلاد وطرح الافكار من اجل تغيير اوضاعها
والمناداة بضرورة انهاء الانتداب ونيل الاستقلال التام . وما ان بدأت الدول
العربية تنال استقلالها من الدول الاستعمارية حتى تطور شكل هذا التيار
القومي من خلال قفزة ادت الى تشكيل حركات سياسية تمثلت في احزاب تنادي
صراحة باسقاط الحكومات التي نشأت بعد الاستقلال بحجة عمالتها للاجنبي
واقامة انظمة جديدة ذات حكومات وطنية . ان مجرد اطلاق رؤية موضوعية على هذا
التطور سيلفت الانتباه الى امر جدير بالملاحظة يتمركز جوهره حول "لماذا لم
تتشكل حركات واحزاب سياسية عربية تعتمد اسلوب الكفاح (سواء ان كان سلميا
او مسلحا) للتخلص من الهيمنة الاستعمارية حين كانت الدول العربية تحت
الانتداب المباشر (في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي) وهو امر كان له ما
يبرره في حينها , في حين تشكلت تلك الحركات والاحزاب واخذت تعمل على الساحة
وتسعى للوصول الى الحكم بعد نيل الاستقلال ؟" . ان الجواب على هذا التساؤل
ربما سيمكن فهمه من خلال ما سيأتي لاحقا .
مرت طرق تعامل الدول الاستعمارية مع الدول التي اصبحت تحت انتدابها بمراحل
مختلفة حسب الظروف الموضوعية السائدة . فبعد فترة من حصول الانتداب وادارة
الدول التي خضعت للسيطرة تبين للدول الاستعمارية بان استمرار الادارة
المباشرة لتلك الدول هو امر مكلف ماديا وبشريا وحتى معنويا بالاضافة الى
كونه لا ينسجم في بعض الاحيان مع نظمها السياسية والاجتماعية . ومع ان
الغاية الرئيسية من السيطرة الاستعمارية كان استنزاف ثروات الشعوب , لكننا
نجد انه قد حدثت في بعض الاحيان احداث في الدول الخاضعة للهيمنة
الاستعمارية ادت الى خسائر مادية وبشرية كبيرة احدثت هزات عنيفة ادت الى
سقوط حكومات الدول الاستعمارية وتنامي الرأي العام فيها الداعي الى انهاء
تلك السيطرة . لذلك كان يتعين ايجاد طرق جديدة بالتعامل لكن دون فقدان
وسائل الهيمنة والنفوذ على تلك الدول . وقبل الاستمرار باستعراض الاحداث
يتعين علينا ان نعي بان ما من تجربة او اسلوب يجرب من قبل الدول الكبرى في
مكان ما من العالم ما لم لم يكن قد وضع له مسبقا الوسيلة المضادة لتغييره
عند الحاجة . لذلك فحين بدأت الدول الاستعمارية بتطبيق تجارب جديدة في
الدول التي تخضع لهيمنتها كانت قد وضعت ايضا معها تجارب بديلة يمكن اللجوء
اليها عند يستدعي الامر . الامر الاخر الذي يجب عدم تجاهله هو ان الممتلكات
التي جرى تقسيمها بموجب اتفاقية سايكس بيكو ظلت سارية الى يومنا هذا ,
فعلى سبيل المثال ظل العراق شأنا بريطانيا وظلت سوريا ولبنان شأنان فرنسيان
منذ تلك المعاهدة حتى يومنا هذا بالرغم من منح تلك الدول الاستقلال منذ
زمن طويل . ومع ذلك فقد حصلت بعض التغييرات في هذا التقسيم نتيجة لدخول دول
اخرى الى النادي الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية مثل اميركا مما
جعل الدول الاستعمارية تعيد تقسيم تلك الحصص فيما بينها مثلما جرى بالتخلي
عن المملكة العربية السعودية من قبل بريطانيا في الثلاثينات والعراق في
التسعينات لصالح الولايات المتحدة , وتخلي ايطاليا عن ليبيا لصالح فرنسا في
وقتنا الراهن .
كانت التجربة الاولى التي بدأت بتطبيقها الدول الاستعمارية بعد انتهاء
مراحل الانتداب هي في منح الدول التي خضعت لسيطرتها استقلالا صوريا مع
تنصيب حكومات ظاهرها العام وطني لكن باطنها كان مرتبطا بالدول الاستعمارية
التي كانت تحتل تلك الدول . في البداية هللت الشعوب العربية على نيلها
الاستقلال واعتقدت بانها قد تحررت فعلا من سيطرة الدول الاستعمارية , لكن
بعد فترة ليست بطويلة اصبح واضحا لتلك الشعوب بان هذا كان محض خيال وان
الحكومات المنصبة لم تكن غير حكومات عميلة ومكبلة بالاتفاقيات والمعاهدات
التي لا تضمن لها اي نوع من الحرية في التصرف حتى وان كان ذلك فقط على
مستوى الفعل المحلي . لذلك عاد الشعور بالسيطرة الاستعمارية الى البروز على
السطح من جديد بالرغم من وجود الاستقلال الظاهري . كان هذا الشعور احد
العوامل وراء تطور الفكر السياسي القومي من صورة النضال الفكري الى شكل
النضال السياسي الذي يسعى الى تغيير الاوضاع السياسية واخذ هذا الفكر يتحول
نحو تشكيل احزاب وحركات سياسية عربية في دول المشرق العربي في فترة
الاربعينات , وبالذات بعد الحرب العالمية الثانية تناضل من اجل تغيير هذه
الاوضاع والوصول لحالة الاستقلال الحقيقي والتخلص من الهيمنة الاستعمارية
بشكل فعلي . بل ان الشعور الوطني والنزعة القومية اخذت علائمها تظهر حتى
على الحكومات المنصبة التي اخذت تسعى مع مرور الوقت الى فك شباك السيطرة
المفروضة عليها لنيل المزيد من الاستقلالية القدرة على التحرك سواء على
المستوى الداخلي او الخارجي .
كانت مباديء الحركات القومية العربية المشكلة تتمحور حول اهداف احياء
الماضي واعادة امجاده والنضال من اجل اسقاط الحكومات التي نصبتها الدول
الاستعمارية . وبسبب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول
التي عملت بها تلك الحركات نجدها قد حظيت بتأييد جماهيري واسع واصبحت
مدعومة من قبل الشرائح الرئيسية في المجتمع , وبالذات من قبل الشريحتين
المتوسطة والفقيرة . ان دعم هذه الشرائح لهذه الحركات يعود الى ظروف القهر
التي كانت تعاني منها والعوز والفقر الذي يلم بها مما جعلها تتطلع بقوة
لتغيير حالها المسحوق الى حال افضل عن طريق خلق ظروف سياسية واقتصادية
جديدة . وقد انخرط في صفوف تلك الحركات معظم الشباب المثقف الواعي الذي كان
يلاحظ عن كثب حالة التأخر الموجودة ويتطلع نحو خلق حال جديد تتغير فيه
حياة المجتمعات بشكل جذري . ولو عدنا الى الكتب والمنشورات التنظيرية لتلك
الحركات ابان فترات نضالها السري لوجدناها جميعا تبشر باحوال جديدة تنتقل
فيه الشعوب الى عهود تسودها الحرية والرخاء والرفاهية . كانت تلك الحركات
تؤمن ايمانا قاطعا بان ما من وسيلة يمكن لها ان تحقق اهدافها بواسطتها من
غير الوصول للسلطة . لهذا فان تطلع تلك الحركات للوصول الى السلطة كان قويا
وجارفا لعدة اسباب اولها هو ايمانها بانها لا يمكن ان تحقق لدولها الخلاص
من الاستعمار والسيطرة الاجنبية من دون ان تتمتع بقوة كبيرة لا يمكن ان
تتوفر لها بدون سلطة . والثاني هو ايمانها ايضا بانها لا يمكن ان تحقق
التغيير الذي تنشده للمجتمع من دون ان تكون على راس السلطة وبيدها دفة
الحكم لكي تتمكن من ادخال كل عناصر التغيير التي تريدها . وبالرغم من قيام
تلك الحركات بمحاولات عديدة لاسقاط الحكومات المهينة والتابعة للاجنبي من
خلال القيام بانتفاضات ومحاولات انقلابية الان جميع تلك المحاولات فشلت
لسبب بسيط هو ان تلك الحكومات كانت لا تزال مدعومة من قبل الدول
الاستعمارية التي سخرت كل امكانياتها العسكرية والاستخبارية لمساندتها .
ومع مرور الوقت وتجارب المحاولات الانقلابية الفاشلة والانتفاضات المقموعة
تأكد لتلك الحركات القومية بان امر وصولها للسلطة لا يمكن ان يتم الا من
خلال الحصول على دعم قوي من جهات متنفذة يمكن ان تضمن لها نجاح اي حركة
تقوم بها .
كان لخروج بعض الحكومات المنصبة عن الطريق المرسوم لها وسعيها للتخلص من
هيمنة الدول الاستعمارية والأنضواء تحت ظل قوى كبرى جديدة مثلما حصل في مصر
حين حاول الملك فاروق التحول الى المعسكر الالماني خلال الحرب العالمية
الثانية , وفي العراق حين بدأ نوري سعيد بخطة تدريجية للتحول نحو اميركا ,
السبب المباشر لتغيير سياسة الحكومات الاستعمارية تجاه تلك الحكومات . كما
ان قيام تلك الحكومات بمقاومة الحركة الصهيونية وقيام دولة اسرائيل ودخولها
في حرب لتحرير فلسطين سبب اضافي اخر في جعلها تفقد ثقة الدول الاستعمارية
وتقرر تغيير تلك الحكومات من خلال التوجه نحو الخطة (ب) والتفكير بالبديل
المطروح للتخلص منها . كانت هذه الخطة تتضمن ايصال حركات سياسية مضادة
للحكم بطريقة تضمن استمرار مصالح الدول الاستعمارية في تلك الدول . كان
هناك نوعان من الحركات السياسية الموجودة على الساحة والتي تعمل بالخفاء
لاسقاط الحكومات التي نصبتها الدول الاستعمارية لتحرير البلدان من الهيمنة
الخارجية والتبعية , الحركات القومية واليسارية . بالنسبة للحركات
اليسارية كان الامر صعبا حتى ولو بمجرد التفكير بطرق يمكن بواسطتها التقرب
من تلك الحركات لسبب بسيط هو ان تلك الحركات كان مهيمن عليها من القطب
العالمي المضاد المتمثل بالدول الاشتراكية . لذلك لم يتبقى من بديل غير
التقرب من الحركات القومية العربية والتغلغل في فكرها وعقائدها ورجالها من
اجل ان ترسم لنفسها سياسة تصب في نهاية الامر بمصلحة الدول الاستعمارية .
كان الامر اسهل في هذا الخيار لسبب بسيط هو لهفة تلك الحركات للوصول الى
السلطة بأي ثمن , بالاضافة الى ان الدول الاستعمارية لم تجد في المباديء
القومية خطرا يتهددها , لكن كان الامر المهم والمعضلة هو في كيفية استمالة
تلك الحركات التي تجاهر بالعداء للاستعمار والهيمنة الاجنبية . كان الحل
يكمن في طريقتين , الاولى هي في عقد اتفاقات سرية تضمن مصالح الدول
الاستعمارية مقابل مساعدة الحركة بالوصول الى السلطة . والطريقة الثانية هي
في عقد اتفاق سري مع شخص قيادي في الحركة بان يضمن مصالح الدول
الاستعمارية ومن ثم مساعدة حركته للوصول الى السلطة وفي نفس الوقت تهيئة
الظروف لتفرده بالحكم فيما بعد بما يضمن بان تحقق من خلاله اكبر قدر في
حماية وتأمين مصالحها . وحتى هذا الخيار الثاني كان يجري في بعض الاحيان
بشكل غير مباشر من خلال مساعدة شخص قيادي في الحركة السياسية للتفرد
بالسلطة المطلقة نتيجة للعلم المسبق الأتي من دراسة دقيقة لشخصيته توصل الى
الايمان بأنه اكثر شخص ضمن الحركة ستحقق سياسته الفوائد للدول الغربية .
لقد اتبع هذا السيناريو في معظم دول العالم الثالث وبطريقة متشابهة تدفع اي
متتبع الى الدهشة والاستنتاج بانه سيناريو معد سلفا باتقان للاستخدام في
اي جزء من العالم . غير ان هذا السيناريو لم يكن ناجحا دائما اذ كثيرا ما
كانت الحركات او الاشخاص ينقلبون على اتفاقات ما قبل الوصول الى الحكم
والتحول الى اعداء مباشرين للدول التي ساعدتهم بالوصول الى السلطة مما يدفع
بالدول الاستعمارية الى اللجوء مرة اخرى الى الخطط البديلة للتخلص من
هؤلاء , وهذا يفسر تعدد حصول الانقلابات بفترات ليست طويلة في بعض الدول .
وبالاضافة الى هذا علينا ان نعرف ايضا بانه ليس للدول الاستعمارية صاحب ولا
صديق مهما يقدمون اليهم من خدمت فهي دائما تعامل من يخدمون مصالحها
كالكلاب وكثيرا ما تجعل نهاياتهم دموية وبشعة . ليس هذا فقط بل هي ايضا
تتعمد في بعض الاحيان خلق مثل هذه النهايات حتى وان لم يكن هناك حاجة اليها
وبالرغم من كل الفوائد التي استفادوها من هؤلاء , وهناك امثلة كثيرة على
هذا الاسلوب الذي اتبع في اكثر من مكان في العالم .
وبالفعل دخلت هذه الخطط موضع التنفيذ الفعلي ابتداء من مطلع النصف الثاني
من القرن العشرين وبدأ سقوط معظم الحكومات التي نصبتها الدول الاستعمارية
يدري بشكل متتابع يدعوا الى الدهشة . ومما يدعوا الى الاستغراب ان الدول
الاستعمارية لم تتخذ اي اجراءات مضادة للتغييرات التي جرت في انظمة الحكم
بالرغم من امتلاكها لكل الوسائل المضادة التي كان يمكن بواسطتها تطويق تلك
التغييرات وحتى اسقاطها ان اريد ذلك مما يقود الى الاعتقاد بان تلك الدول
كانت موافقة ضمنيا على تلك التغييرات . ان ملاحظة بسيطة يمكن ان تسهل مثل
هذا الاستنتاج هو ما حصل في العراق عام 1958 . كان العراق عضوا في حلف
بغداد الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وايران وباكستان , وكانت
احدى مواد اتفاقية هذا الحلف تنص على قيام جميع دول الحلف بالتدخل العسكري
اذا ما تعرض اي عضو فيها للخطر . كما ان العراق كان منخرطا مع الاردن ضمن
الاتحاد الهاشمي الذي اعتبر كلا الدولتين كيانا عسكريا واحدا . ومع ذلك نجد
ان فئة من الضباط يفكرون بتغيير نظام الحكم ويسعون الى ذلك فعلا وينجحون
به في 14 تموز عام 1958 بالرغم من وجود كل هذه المحاذير , فهل يعقل ان يتم
هذا دون ان يكون قد حصل ضوء اخضر بذلك . من ناحية اخرى فان الفشل المستمر
لمحاولات الحركات القومية العربية للوصول للحكم في فترتي الثلاثينات
والاربعينات ومن ثم النجاح المستمر في وصولها في فترة ما بعد الخمسينات هو
الاخر يدعوا الى التساؤل ويدفع الى الاعتقاد بان امرا ما قد تغير وان
النجاح اصبح هذه المرة معتمدا من قبل قوى خارجية قبل ان يكون بناء على
قدرات ذاتية . ان هذا الامر يمكن ان يجعل اي دارس يتوصل الى قناعة بان
الضوء الاخضر لتغيير الحكومات العميلة المنصبة كان قد صدر من عواصم الدول
الاستعمارية مما سهل من عمليات تغييرها واسقاطها . ان هذا يدحض الى حد كبير
ادعاء الحركات القومية العربية بأستقلالية ووطنية نضالها في فترات ما قبل
تسلمها الحكم , كما تبين بشكل واضح بان الدافع الرئيسي لمعظم تلك الحركات
كان الوصول الى السلطة من اجل السلطة فقط , وان كل ما ادعي به ونظر له في
السابق لم يكن في الواقع غير شعارات الغرض منها كسب الجماهير والحصول على
دعمها ليس الا . وبالفعل لو اطلعنا على جميع ما نادت به تلك الحركات وبشرت
به اثناء فترات نضالها السري لوجدنا بانها لم تحقق اي شيء يذكر منها بعد
وصولها الى السلطة بالرغم من تربعها على مقاليدها لفترات دامت لعقود .
- يتبع -
__________________________________________
(2)
تجارب الحكم للحركات القومية العربية
بدأ
وصول الحركات القومية العربية الى الحكم منذ مطلع خمسينات القرن الماضي
وبتتابع يدعو الى الدهشة . فخلال مدة لم تتجاوز الخمسة عشر عاما وصلت تلك
الحركات الى الحكم في كل من سوريا ومصر وتونس والعراق واليمن والجزائر
والسودان وليبيا وسقطت جميع الانظمة التي كانت تحكم في هذه الدول والتي
كانت تتهم بتبعيتها للدول الاستعمارية . وكانت جميع شعارات الحركات
القومية التي وصلت الى الحكم متشابهة , فكلها تنادي بأحياء الماضي وبعث
امجاد الامة وتحقيق الوحدة العربية وتحسين احوال الطبقات الفقيرة وتطوير
البلدان وتخليصها من حالات التأخر التي تعيشها وانهاء التبعية للاجنبي .
وبالرغم من تشابه هذه الاهداف والبرامج الا اننا نفاجيء بان الكثير من
مظاهر العداء قد وجدت بين تلك الدول مما يدعوا الى الاستنتاج بان اجندات
اجنبية كانت موجودة وراء تلك الانظمة الجديدة وانها لم تكن حرة في خياراتها
وتوجهاتها ولا مخلصة في مبادئها . وقد اتصفت تجارب الحكم التي مرت بها
الحركات القومية العربية بالصفات التالية :
1-
اختطاف الثورات : حدثت عمليات اختطاف كثيرة لمعظم الثورات والانقلابات
التي قامت بها الحركات القومية العربية في الدول العربية . ففي اكثر من مرة
وفي اكثر من مكان جرت عمليات تصفية دموية بين زعماء الحركات القومية الذين
قادوا عمليات التغيير التي حصلت في بلدانهم . كانت عمليات الاختطاف
للثورات تحصل نتيجة لمحاولة تيار ما من التيارات المنضوية تحت ظل الثورة ,
سواء ان كان هذا التيار قد اشترك فعليا في تنفيذها او لم يشترك , بالسيطرة
على مقاليد الامور واقصاء جميع التيارات والجهات الاخرى . ويبدوا كما يظهر
بان انفراد تيار معين بالسلطة كان يحصل في كثير من الاحيان بخلاف الاتفاقات
المسبقة التي سهلت حصول تلك الثورات ونجاحها في الوصول الى السلطة . ان
انفراد تيار معين بالحكم بشكل غير مخطط له غالبا ما يدفع القوى التي سهلت
نجاح الحركة الثورية باتجاه تطبيق الخطط ج و د ... الخ . ان اكبر دليل على
هذا هو تعاقب سلسلة من الانقلابات المتتابعة في بلدان معينة وخلال مدد ليست
بطويلة . وقد حدث هذا الامر بشكل واضح وجلي في العراق ومصر والجزائر
واليمن وسوريا والسودان . ففي العراق , على سبيل المثال انفرد التيار
اليساري بالحكم بعد اشهر قليلة من قيام ثورة 14 تموز وجرى تصفية واقصاء
التيار القومي تماما من الحكم . لذلك فاننا نجد بان الدعم انصب فيما بعد
نحو دعم الحركات المضادة لهذا النظام الجديد وتشجيع محاولات اسقاطه والذي
حصل فعلا في 8 شباط 1963 . كان الدعم لهذه الثورة الجديدة قد اتي من مصدرين
, بريطاني وامريكي , ومما يؤكد هذا تصريح الامين العام لحزب البعث العربي
الاشتراكي (علي صالح السعدي) بعد اشهر قليلة من تلك الحركة حين قال : "لقد
اتينا للسلطة بقطار امريكي" . نفس الامر حصل في مصر , فبعد فترة من حصول
ثورة يوليو 1952 تفرد جمال عبد الناصر بالحكم واقصى كل خصومه واخذ يطبق
برامج لا تنسجم مع مصالح القوى الاستعمارية مما جعلها تبدأ بالعمل على
اسقاطه . وعلى خلاف ما جرى في العراق فان عملية التغيير في مصر استغرقت
وقتا اطول تخللته حربان الى ان وصلت الى غايتها بوصول انور السادات الى
الحكم عام 1970 . نفس الامر حصل بالجزائر واليمن والسودان من خلال تتابع
الانقلابات لمرات عديدة . ولو نظرنا الى الاحوال الدولية في وقتنا الراهن
وكيف يتم تطويق اي حركة انقلابية تحصل في دول العالم الثالث (كما يجري في
بعض الدول الافريقية) من خلال العقوبات والحصار الاقتصادي بموجب قرارات
يصدرها مجلس الامن والتي كثيرا ما تؤدي الى فشلها وسقوطها لتوصلنا بنوع من
الاستنتاج المنطقي بان انقلابات العالم العربي في تلك الفترة كانت مرادة
وانها كانت جزء من الخطط الموضوعة للمنطقة .
2-
ظهور الديكتاتوريات : انتجت معظم تجارب الحكم التي مرت بها الحركات
القومية العربية في الدول العربية انظمة دكتاتورية وشمولية متشابهة تقريبا
في صفاتها . ولو حاولنا البحث عن السبب وراء هذا الامر لوجدنا حاجة الى
فهم سيكولوجية قادة تلك الحركات والظروف المحيطة بوصولها الى الحكم . أن من
النادر جدا ان نرى رجال انحدروا من عوائل غنية ويعيشون في بحبوحة يمتهنون
العمل السياسي ويناضلون من اجل اسقاط الانظمة لان مثل هؤلاء لا يحسون
بالمعاناة التي تدفعهم لتغيير الاوضاع . لذلك نجد ان معظم قادة الحركات
القومية العربية ينحدرون من شرائح فقيرة وعاشوا في طفولتهم وفي مراحل كثيرة
من حياتهم في ظل حياة صعبة وفقر وعوز شديد خلقت فيهم امراض نفسية كثيرة .
ان مثل هذه الظروف هي من الاسباب التي تجعل مثل هؤلاء ينضوون بالعمل
السياسي والنضال من اجل تغيير انظمة الحكم والوصول الى السلطة لانهم يحسون
بمعاناة الجموع الفقيرة المنبثق من معاناتهم انفسهم . وبعد الوصول الى
الحكم وتذوق طعم الرخاء الذي ينهمر عليهم فجأة فانه غالبا ما يفقدهم
توازنهم مما يجعلهم يرغبون بالاستئثار بالحكم دون بقية رفاقهم . ليس هذا
الامر غريبا على الطبيعة البشرية لان الانسان يحمل دائما الرغبة بالتفرد
بالملكية , لذلك يميل بعض القادة بالفطرة الى اقصاء رفاقهم والتفرد
بالمنافع والمكاسب التي توفرها لهم السلطة . هذا من جانب , ومن جانب اخر
فان مثل هذا الامر يمكن ان يحصل نتيجة لدفع يأتي من قوى خارجية . كثيرا ما
تقوم القوى الخارجية التي دعمت بشكل او بأخر عملية التغيير التي اوصلت
الحركة القومية للحكم بخلق الظروف التي تساعد في تفرد احد قادة تلك الحركة
بالسلطة . وقد يكون هذا نتيجة الى اتفاق مسبق مع هذا القائد , او بسبب فهم
عميق لشخصيته ونفسيته بما يجعل تلك القوى تدرك بانه افضل شخص يمكن ان تضمن
سياسته مصالحها في تلك الدولة . ان خلق مثل هذه الظروف تؤدي غالبا الى
التفرد الكامل لذلك القائد بالحكم واقصاء جميع القادة الاخرين , وقد يكون
مثل هذا الاقصاء سلميا , كما حدث في مصر , وقد يكون دمويا كما حدث في
العراق لاكثر من مرة .
3-
تفرد الحركة بالحكم : لو تفحصنا ظروف النضال السلبي لجميع الحركات القومية
العربية ودرسنا مبادئها خلال تلك الفترات لوجدنا بان جميعها تؤمن
بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وان الشعب هو مصدر السلطات . ولو
تتبعنا ممارسسات تلك الحركات بعد وصولها للسلطة مباشرة لرأينا بان جميعها
اصدرت دساتير مؤقتة وأعلنت بانها ستصدر بعد فترة انتقالية دساتير دائمية
وتجري انتخابات وخلق ظروف ديمقراطية يتم على ضوئها تداول السطة . وبالرغم
من هذه الاعلانات فان هذا لم يحدث قط الا في حالات ضيقة جدا , كما حصل
بالسودان بعد انقلاب عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985 الذي اجرى انتخابات
ديمقراطية بعد عام من قيامه بالانقلاب على الرئيس جعفر النميري وتنازل عن
السلطة لصالح من فاز بالانتخابات . اما في بقية الدول العربية فان الحركة
القومية كانت في معظم الاحيان تستأثر بالحكم ولا تتداوله قط مع حركات اخرى وقد ظلت تحكم بموجب الدساتير المؤقتة التي وضعتها لعشرات السنين الى
ان يأخذ منها الحكم بالقوة بحركة انقلابية مضادة . كما ان تلك الحركات
القومية كانت غالبا ما تقوم مباشرة بعد وصولها للحكم بتصفية اي حركة سياسية
منافسة , وكثيرا ما تكون مثل تلك التصفيات دموية وبشعة كما جرى لاكثر من
مرة في العراق وسوريا . وقد يحدث احيانا ان تصل الحركة القومية العربية الى
الحكم عن طريق ديمقراطي ومن خلال صناديق الاقتراع . غير ان مثل هذه
الحركات يمكن ان تستأثر ايضا بالحكم بالرغم من وصولها للسلطة بهذه الطريقة .
ويجري مثل هذا الاستئثار من خلال اقصاء الخصوم وتصفيتهم بشكل يؤدي الى
بقائها وحدها على الساحة وبالتالي ضمان فوزها المستمر في اي انتخابات تحصل
مرة اخرى . وقد يجري احيانا خلق ظروف استثنائية او اعلان حالة طواريء تجمد
المسار الديمقراطي وتوقف عمليات الانتخاب مما يوفر الظروف التي تبقي الحركة
بالسلطة , وخير مثال على هذا النظام الذي اقامته حماس في غزة في اوائل هذا
القرن .
ادت
الاسباب التي جاءت اعلاه الى خلق انظمة حكم شمولية يستاثر السلطة فيها اما
حركة سياسية واحدة او حاكم دكتاتوري واحد او كليهما معا . ان مثل هذا
الحال كان يؤدي دائما الى غياب الرأي المقابل وفقدان اي معارضة سياسية
حقيقية يمكن ان تطرح اراء مخالفة لمن هو في السلطة . والاصعب من هذا ان
الدكتاتور الذي يتفرد بالسلطة غالبا ما يصاب بعد فترة بالغرور الذي يجعله
يعتقد بان هناك عناية ورعاية الهية ادت الى وصوله للسلطة وتفرده بالحكم .
وقد يؤدي هذا ايضا الى تولد شعور بداخل نفس الحاكم بانه لابد وان يكون
انسان مختلف عن بقية البشر وانه مدعوم بقوى غيبية فيأخذ بأطلاق أسماء وصفات
عديدة على نفسه لتعبر عن اختلافه وتميزه عن غيره . ان هذا الشعور يجعل
الدكتاتور يظن بان اي شيء يقرره هو بالتأكيد فيه كل الصواب , لذلك فانه لا
يتبع غير رأيه مهما وضع حوله من مستشارين قد يشيرون عليه برأي اخر في اي
أمر سياسي او حدث ما . وحتى حين تثبت الوقائع بان رأي الدكتاتور كان على
خطأ , نجده لا يعترف مطلقا بهذا الخطأ بل عادة ما يلقي اسبابه على مسببات
أخرى يخترعها ليلقي اللوم عليها , وقد يبطش في بعض الاحيان ببعض معاونيه
مدعيا بانهم هم من كانوا وراء هذا الخطأ . وفي حالات اخرى نجد ان الحاكم
يمعن بالسير في الطريق الخاطيء حتى وان ظل ذلك ينقل البلاد من سيء الى اسوأ
, كل ذلك من اجل ان لا يعترف بانه اخطأ بقراره واتبع رأيا غير صائبا .
وتؤدي مثل هذه الظروف الى تعقد الحال فتسير الدولة في طريق الخراب والدمار .
لذلك نجد ان اغلب الدول العربية التي وجدت فيها مثل هذه الانظمة حصلت فيها
كوارث كبيرة وخاضت حروب صعبة دمرت اقتصادياتها وبناها التحتية ولم تخدم
مصالحها ابدا . لهذا اخذت المباديء القومية العربية تسقط من اذهان الناس
تدريجيا وفقدت معناها وتأثيرها مع الوقت حتى باتت في وقتنا الراهن لا قيمة
لها مطلقا . وبعد ما يقارب الخمسين عاما من تجارب الحكم التي قادتها
الحركات القومية العربية نجدها قد فقدت السلطة في معظم الدول التي حكمتها
واصبحت اليوم بلا رصيد جماهيري , بل انها بالكاد اصبحت قادرة على الاحتفاظ
بمجرد تسمية او وجود معنوي .
- يتبع -
_________________________________________
(3)
الحركات السياسية الدينية في الوطن العربي
منذ ظهور الدين الاسلامي في القرن السادس الميلادي وحتى يومنا هذا اصبح هو العامل المهيمن في مفردات الحياة الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية . ويعود هذا الى طبيعة الانسان العربي من جهة وطبيعة الدين الاسلامي من جهة اخرى . فمن ناحية الانسان العربي فان الطبيعة القبلية وظروف المعيشة التي عاشها سواء ان كان يعيش في منطقة البادية او على حافاتها في المدن وضعت الاعراف والقيم المتوارثة بما فيها المسائل الروحية والدينية في أعلى نطاق تأثيرها على الفرد . كان الانسان لا يملك ما يمكن ان يسيره غير ما متوافر بين يديه من قيم ومباديء والتي كانت مستمدة من التقاليد القبلية والتشريعات الدينية . وبالرغم من أن الحياة تطورت كثيرا في هذه المنطقة مع الزمن الا ان هذه الخاصية لم تتغير ابدا . اما من ناحية طبيعة الدين الاسلامي فأن الدين الجديد اختص ببعض الصفات جعلته يختلف عن جميع الاديان السماوية الاخرى ان لم يكن مختلفا على الاطلاق عن اي دين أخر موجود على وجه الارض . الصفة الاولى التي اختص بها الدين الاسلامي هو دعوة اتباعه الى نشر الدين الجديد بكل الوسائل المتاحة امامهم سواء ان كان بالطرق السلمية او باستخدام القوة (الجهاد) . كما ان الدين الاسلامي لم يفرق في توجيه دعواه الى الاقوام الاخرى فيما اذا كانت تلك الاقوام وثنية ملحدة او تدين بدين سماوي . لذلك نجده قد حارب دولة الفرس الساسانية التي تدين بالديانة المجوسية ودول شرقية اخرى بنفس القوة التي حارب بها الروم البيزنطيين والاقباط المصريين واسبانيا وبعض دول اوربا وهي دول كانت تدين بالديانة المسيحية . ومن الجدير بالذكر بأن هذه الطبيعة في نشر الدعوة انتقلت لاحقا الى المذهب الشيعي ايضا , لهذا نجد بان اتباع هذا المذهب يدعون الى التشيع بكل الوسائل المكنة سواء ان كانت سلمية او بالقوة كما فعل اسماعيل شاه الصفوي حين شيع كافة دولة ايران بقوة السيف . من ناحية اخرى فان الدين الاسلامي كان ذو طبيعة تشريعية , أذ حاول سن مباديء وقوانين يجب اتباعها في كل شأن من شؤون الحياة مما جعل الانسان المسلم في حاجة دائمة الى من يرشده ويعطيه رأي الدين في كل أمر من امور دنياه . لقد ادى هذا العامل الى تنشيط دور رجال الدين مما جعل دورهم وتأثيرهم في الحياة العامة كبيرا للغاية . وحيث ان الدين الاسلامي لم يغطي جوانب الحياة كلها , ومع استمرار ظهور شؤون حياتية جديدة لم تكن موجودة في فترة نزول الدين بسبب تطور الحياة وتغيرها فقد ظهرت الحاجة الى الاجتهاد لتغطية هذه الشؤون فتعاظم بشكل غير مسبوق دور رجال الدين وظهرت شرائح عليا منهم اختصت بالافتاء فكان هؤلاء من اكثر الجهات تأثيرا في المجتمع . ولنفس هذه الاسباب فان ظاهرة الاجتهاد والافتاء تطورت بشكل اكبر فظهرت المرجعيات التي اصبحت ارائها مع الزمن تمثل رأي الدين في اي فقرة من فقرات الحياة . الصفة الثالثة التي يختص بها الدين الاسلامي هي الطبيعة السلفية لبعض اتباعه . ان جميع ما نزل في القرأن الكريم كان امرا ثابتا غير قابل للتغير او التعديل وهذا جعل القائمين على الدين الاسلامي يقاومون جميع التغيرات القابلة للحدوث . لا يعتبر هذا الامر قصورا في الدين الاسلامي نفسه بل يمكن ايعازه الى قصور رجال الدين الذين اصبحت لهم الكلمة العليا في الدين واموره كما ظهر لنا في الاسطر القليلة السابقة . ان هؤلاء وبسبب عدم قدرتهم على التعامل مع كل ما هو جديد كانوا يدفعون دائما نحو العودة للوراء او الانعزال او على الاقل التجمد لتلافي دخول اي مفردات جديدة على حياة الانسان يصعب مواكبتها مع الدين الاسلامي . لقد دفع هذا التصرف مع الوقت الى ظهور خاصية التعصب والسلفية في العيش والاداء مما جعل الكثير من الدول الاسلامية تعيش بظروف التأخر وحتى الجهل احيانا لكي تبقى الامور سهلة والارضية ملائمة لبقاء نفوذ رجال الدين فيها واستمراره لاطول فترة ممكنة .
كان الدين الاسلامي هو الدين الأول الذي حمل توجهات سياسية منذ انطلاق الدعوة , فهو كان يهدف منذ بدايته الى انشاء دولة دينية يترأسها حاكم يمثل ارادة الله على الارض تطبق فيها جميع الشرائع التي نزلت في القرأن الكريم . وبالفعل فقد نجح الاسلام في اقامة هذه الدولة بعد فترة ليست بطويلة من ظهوره وقد بقيت سائدة لمئات السنين . كان القائد الاعلى لهذه الدولة والذي يجمع بين السلطتين الروحية والسياسية هو الخليفة , وكان نظام الحكم فيها كونفدرالي حيث كانت تتمتع الولايات باستقلالية شبه تامة . غير ان الدولة الاسلامية عانت من الانقسام منذ مراحلها الاولى , ففي حين كانت تذهب السلطة الى خليفة معين بناء على جملة من العوامل فرضتها الظروف من بينها الحراك السياسي والقوة والسطوة والنفوذ , نجد ان فئة من المسلمين كانت ترى بان الخلافة , وبناء على مركزها الديني كانت يجب ان تبقى محصورة بأل بيت النبي (ص) . وحيث ان أل البيت لم يتمكنوا من الوصول الى هذا المنصب باستثناء الامام علي (ع) والامام الحسن (ع) لفترة قصيرة جدا نجد ان موقع اخر قد حل في مكان موقع الخلافة في مفاهيمهم هو (الامامة) واصبح هو الذي يمثل السلطة السياسية والدينية على اتباع هذه الفئة التي حملت اسم شيعة أل البيت , او الشيعة . وبالمقابل حمل الخليفة ومن يتبعونه ويؤمنون بأحقيته في الخلافة اسم السنة . وبمرور الزمن وظهور التنظير الفكري تحولت هاتين الفئتين الى مذهبين مختلفين لكل منهما تعاليمه وعقائده وافكاره ومفاهيمه . ان الشيعة لم يقتنعوا ابدا بأهلية الخلفاء الذين أخذوا يتعاقبون على السلطة في الدولة الاسلامية , لذلك فانهم والامام الذي كان يتزعمهم كانوا دائما يمثلون بما يشبه حركة المعارضة السياسية والدينية في الدولة . وكانت هذه المعارضة الشيعية تسعى دائما لانتزاع السلطة من الخليفة واعادتها الى موقعها عندهم سواء ان كان ذلك بالطرق السلمية او حتى بالقوة . لهذا فاننا نجد بان الامام , الذي كان يمثل أعلى سلطة شيعية كان دائما يتحرك الى نفس موقع الخليفة (عاصمة الدولة) ليكون قريبا من الاحداث ولكي يكون فعله كمعارض سياسي وديني وساعي لانتزاع الخلافة مؤثرا . كان الخليفة يحس دائما بان الخطر الاعظم على سلطته كان يأتي من امام الشيعة , لذلك فانه كان كثيرا ما يحيك المؤامرات ضده مما يفسر بان معظم الائمة الشيعة ماتوا مقتولين بشكل او بأخر . الا ان حدث مهم وكبير حصل مما أنهى دور هذه المعارضة واراح رأس الخليفة , هو غياب الامام المهدي (ع) , أخر امام للشيعة . لقد قطع هذا الغياب خيط الامامة وتوقف تتباعها في اواخر القرن الثاني الهجري تقريبا , وبذلك توقف تأثير الشيعة على واقع الدولة الاسلامية السياسي والديني بعد ذلك الوقت ولفترة ليست بقصيرة .
ظلت السلطة السياسية لحاكم الدولة (الخليفة) على اوجها في القرنين الاول والثاني الهجريين , لكنها اخذت تضمحل وتتضائل تدريجيا مع الوقت ولم يبقى من دور للخليفة في العالم الاسلامي في مراحل متأخرة غير دوره الديني حيث ظل يمثل باستمرار أعلى سلطة دينية اسلامية على وجه الارض وينادى له في جميع المحافل الدينية . الا ان انتقال الخلافة الاسلامية الى السلطنة العثمانية بعد ان تنازل (المتوكل على الله) اخر خليفة عباسي في مصر عن الخلافة الى السلطان سليم الاول عام 922 هجري أعاد للخلافة الاسلامية جزء كبير من الهيبة والسلطة السياسية بسبب قوة ومكانة الدولة العثمانية ودورها كعنصر مؤثر بالاحداث العالمية لعدة قرون . وفي نفس الوقت الذي انتقلت فيه الخلافة الى السلطنة العثمانية ظهرت دولة شيعية متطرفة في ايران هي الدولة الصفوية التي تزعمها الشاه اسماعيل الصفوي . اصبحت الدولة العثمانية تمثل القطب السني في العالم الاسلامي بينما اصبحت الدول الصفوية تمثل القطب الشيعي , واخذت الدولتان تتحاربان في الكثير من مواقع سلطانهما , وعلى الاخص العراق في محاولة لبسط النفوذ وفرض السيطرة واعلاء المذهب وبث عقائده وافكاره . كان هذا الامر واحد من اهم اسباب ضعف الدولة الاسلامية , فعلى سبيل المثال حين كانت الجيوش العثمانية تحاصر فيينا وعلى وشك دخولها والتغلغل الى كافة ارجاء اوربا قام الشاه اسماعيل الصفوي باحتلال بغداد عام 1623 م , واقام المجازر بحق السنة وفعل بهم الافاعيل التي لا توصف مما دفع السلطان العثماني سليمان القانوني الى سحب جيوشه من النمسا والعودة بها الى العراق لتخليصه من الاحتلال الصفوي . لم يحدث هذا الامر لمرة واحدة فقط بل تكرر بعد فترة , وقد حدثت اعمال مماثلة في مواقع اخرى . غير ان سلطة الدولة العثمانية كانت اكبر بكثير من سلطة الدولة الصفوية بسبب كبر مساحتها والحجم الكبير لسكانها وعظمة مواردها مما ابقى الدور الصفوي كسكين مغمود في خاصرة الدولة الاسلامية ضعيف الأثر في مجمل فعله . ومع ذلك , فأن هذا التصارع بين الدولتين سيكون له وجود كبير في سياسة الدول المتنفذة في المنطقة كما سنرى لاحقا .
استمرت الخلافة الاسلامية ممثلة بالسلطان العثماني لعدة قرون اخرى الى ان خلع اخر خليفة وهو السلطان عبد المجيد الثاني من قبل مصطفى كمال اتاتورك عام 1924 والذي الغى الخلافة الاسلامية واعلن الجمهورية التركية . وبالرغم من محاولة الشريف حسين ملك الحجاز باستعادة الخلافة الاسلامية حين اعلن نفسه خليفة للمسلمين في نفس ذلك العام , الا ان وقوف بريطانيا ضد هذا الامر وخلع الشريف حسين من عرش الحجاز ونفيه منها انهى , على الاقل لغاية وقتنا الراهن مثل هذا المنصب ومثل هذه السلطة . ان سبب استهداف موقع (الخليفة) في حالتين متباينتين وفي نفس الوقت تقريبا يعود الى ادراك القوى الخارجية المتنفذة بان امتزاج سلطتين روحية وسياسية في كيان واحد كان دائما يجعل من هذا الكيان قوة لا يستهان بها ابدا , خصوصا في منطقتنا العربية والشرقية . لذلك فان اي محاولة لمزج السلطان السياسي مع السلطان الديني بيد جهة واحدة كانت تواجه بتصدي شديد كما بينت وقائع الاحداث في منطقة الشرق الاوسط خلال الثلاثين سنة الماضية . وقد كان لتطويق محاولات احياء الخلافة الاسلامية في الحجاز بعد الحرب العالمية الاولى وتقسيم الممتلكات العثمانية بين الدول الاستعمارية الدور الاكبر في اضمحلال الدور السياسي للدين الاسلامي وحلول دور التيار القومي محله . ومع ذلك فقد ظهرت حركات دينية سياسية في منطقة الشرق العربي في العصر الحديث تمثلت بظهور حركة الاخوان المسلمين في مصر في عام 1928 على يد حسن البنا . وبعد تأسيس هذا التنظيم بفترة تطور وتحول الى ما يعرف بالتنظيم العالمي (الدولي) للإخوان المسلمين أو كما يطلق عليه البعض تنظيم (الجماعة) , واصبح حسن البنا المرشد الاول له . وبعد ثورة يوليو 1952 في مصر ووصول جمال عبد الناصر للسلطة توقف نشاط هذا التنظيم تقريبا بسبب ملاحقة السلطة له واعدام بعض قياداته ابرزهم سيد قطب واعتقال الألاف من اعضائه وزجهم بالسجن . وعلى نفس المنوال اسست جماعة الاخوان المسلمين فرع لها في سوريا في ثلاثينات القرن الماضي من قبل مجموعة من الطلاب وانتشر على الاخص في حمص وحماة ودمشق . وكما حصل للجماعة في مصر فان التنظيم في سوريا تعرض ايضا الى حملة تصفية شديدة من قبل النظام الحاكم في سوريا وصلت الى ذروتها فيما عرف بمجزرة حماة في اوائل الثمانينات والتي ادت الى قتل الالاف من اعضاء هذا التنظيم . اما في العراق فقد تأسس تنظيم مشابه من قبل محمد الصواف الذي اتصل بالجماعة في مصر ثم شرع بنقل فكرة التنظيم الى العراق فتأسس بذلك الحزب الاسلامي العراقي رسميا عام 1960 . وفي عام 1962 تم حظر هذا التنظيم مما قلص من فعاليته وعدد افراده لكنه عاد للظهور مرة اخرى عام 2003 .
ان اقوى فعل سياسي اسلامي حصل في منطقة الشرق الاوسط في العصر الحديث تمثل في نجاح الثورة الاسلامية في ايران . لم يكن متوقعا ابدا حدوث ونجاح مثل هذه الثورة في دولة استمرت بتبني نظام الحكم الشاهنشاهي لألاف السنين , لكن توفر جملة عوامل داخلية ودولية ساعدت على ظهور الحركة الاسلامية في ايران ونجاحها في الوصول للسلطة بفترة قصيرة . وكما بينا سابقا في طبيعة المذهب الشيعي كمذهب تبشيري فان الثورة الجديدة تبنت ومنذ ايامها الاول مبدأ تصدير الثورة الى الخارج فتحولت بذلك تلقائيا الى دولة عدائية . وجهت ايران جهودها في تصدير الثورة الى الدول العربية عامة والعراق خاصة مما اشعل بعد فترة قصيرة الحرب العراقية الايرانية عام 1980 والتي استمرت لثمان سنوات . كانت هذه الحرب فرصة لدول الغرب المتنفذة لاشغال دولتين مارقتين بالنسبة لها وتحطيم اقتصادياتهما , كما انها جعلت من هذه الحرب مختبرا لتجريب كل ما سيمكن تطبيقه في المستقبل كما سنستنتج لاحقا .
الحدث المهم الاخر الذي حصل في المنطقة في نفس الفترة تقريبا هو الغزو السوفيتي لافغانستان الذي حصل في اواخر السبعينات . لم يكن امام دول الغرب من وسيلة لمقاومة هذا الغزو غير مساندة المقاومة الافغانية ذات الطابع الديني التي تشكلت بعد الغزو بالمال والسلاح وتسهيل وسائل دعمها بالمقاتلين الذين اخذوا يتقاطرون على افغانستان لمساندة اخوانهم المسلمين في التصدي للغزو السوفيتي . كان هذا الامر يحصل بالذات بدعم مالي ولوجستي من قبل المملكة العربية السعودية فتبلورت حركة سياسية دينية اخذت قوتها تتعاظم مع الوقت حتى افلحت في نهاية الامر في انهاء الوجود السوفيتي في افغانستان والوصول الى السلطة . غير ان طبيعة ما حصل في افغانستان اثناء فترة المقاومة وانتشار السلاح والمقاتلين الاجانب وتدفق الاموال من مختلف الدول ادى الى تشكل حركات سياسية دينة متطرفة معارضة لنظام الحكم في افغانستان ومن بينها حركة طالبان التي تأسست في اواسط التسعينات والتي دعمتها حركة القاعدة التي تكونت في نفس الفترة تقريبا . وبعد سلسلة من العمليات استطاعت حركة طالبان من الوصول الى السلطة المطلقة في افغانستان في اواخر التسعينات فتشكل بذلك فيها نظام حكم راديكالي ديني متطرف . عززر هذا الامر كثيرا من قوة تنظيم القاعدة , التنظيم المساند لحركة طالبان والذي اصبح بعد فترة قصيرة تنظيم ذو طبيعة عالمية بسبب انضمام الكثير من الحركات الدينية الموجودة في العالم اليه واعلان ولائها لقادته . الا ان قيام الحرب العالمية ضد الارهاب بعد احداث ايلول عام 2001 ومطاردة قادة هذا التنظيم وقتل الكثيرين منهم اضعف من مدى تأثيره وقدرته على تحديد مسار الاحداث مع الوقت .
- يتبع -
_________________________________________
(4)
الاخيرة
المستقبل
1- تشجيع خطط قيام دولة اسرائيل في قلب الأمتين العربية والاسلامية ودعم هذه الخطط بكل الوسائل المتاحة . كان الغرب يظن بان مثل هذه الدولة يمكن ان تعيد بسهولة مجدها التاريخي القديم باقامة دولة اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات وانها يمكن بذلك ان تحطم الوجود الاسلامي في الشرق العربي , او على الاقل تطوق خطره نهائيا . وبالرغم من قدم هذا المخطط الذي تجاوز عمره الان القرن ونصف وبالرغم من وجود دولة اسرئيل كدولة منذ ما يقارب السبعين عاما الان ان الوقائع اثبتت فشل هذه المخطط فشلا ذريعا وان اسرائيل لحد الان كدولة لا تتجاوز كونها شريطا ضيقا على ساحل البحر وجوده مهدد بالزوال في اي لحظة .
2- الغاء الخلافة الاسلامية واحتلال معظم الدول العربية التي كانت ضمن ممتلكات الدولة العثمانية وتطويق اي مساع لاقامة خلافة اسلامية جديدة .
3- تنصيب حكومات عميلة في بعض الدول العربية ظاهرها العام ديني لكن باطنها وممارساتها علمانية بحتة في محاولة لابعاد تفكير شعوب المنطقة بالمسائل الدينية .
4- تشجيع ودعم الحركات القومية العربية ذات الطبيعة العلمانية وتسهيل وسائل وصولها للحكم في الدول العربية ومساندتها في تحقيق اهدافها التي تبغي الى تطويق جميع النزعات الدينية في المنطقة من خلال محاربة الحركات الدينية ذات التوجه الاسلامي .
5- مساندة عمليات اقامة انظمة حكم اسلامية دينية متطرفة ذات طبيعة مذهبية عنصرية وبث بذور الفرقة بينها وتشجيع عوامل الأحتراب بينها .
لو لاحظنا الخطط اعلاه وتنفيذها بالتتابع بعد فشل كل واحدة منها , او على الاقل عدم تحقيقها لاغراضها لاصبحنا على بينه مما يعد الان للمنطقة وما يتوقع حدوثه خلال الخمسين سنة القادمة . ان التفكير الموضوع للمنطقة في الوقت الحاضر يستند على محاربة الدين الاسلامي بطريقة غير مباشرة , اي من خلال خلق اقطاب دينية اسلامية متضادة وجعلها تتحارب فيما بينها الى ما شاء الله . ان ما يجري في منطقة الشرق الاوسط وتطور النفوذ الشيعي وامتداده من ايران الى العراق ثم الى سوريا فلبنان واحتمال توسعه نحو بعض دول الخليج العربي يعطي الانطباع بان هناك قطبا شيعيا اخذا بالتكون في المنطقة . كما ان ما افرزته ثورات الربيع العربي من وصول حركات دينية اسلامية للحكم في بعض الدول العربية محورها العام سني يرتكز على تنظيم الاخوان المسلمين يعطي انطباع اخر بان هناك قطبا سنيا هو في طور التكون في المنطقة حاليا . ان هذين القطبين ربما سيكتمل تكونهما خلال مدة قصيرة لا تتجاوز نهاية النصف الاول من العقد الحالي . وبعد اكتمال التكوين سيكون مركز ثقل القطب الشيعي الرئيسي ايران , بينما سيكون مركز ثقل القطب السني الرئيسي تركيا . ولكي تشتعل اتون الحرب بين هذين القطبين فلابد من وجود فتيل ملتهب قابل للامتداد , ومن المعتقد بان ما يجري بسوريا الان سيجعلها هي هذا الفتيل المرتقب . ان الحرب لن تتوقف في سوريا والنظام لن يسقط فيها ابدا وان الدعم الروسي الايراني للنظام من جهة والدعم الغربي العربي السني للمعارضة من جهة اخرى سيبقي حالة من التوازن في تلك الدولة لحين الانتهاء من تكون القطبين الدينين المتضادين . وبعد اكتمال هذا التكوين سيجري الاخلال بهذا التوازن مما يدفع كل الاطراف الى التدخل بشكل مباشر وبالتالي اشتعال حرب ضروس في المنطقة برمتها .
اذا كان هذا السيناريو الموضوع للمنطقة صحيحا فانه ينم عن سذاجة وغباء لا مثيل لهما وعدم استيعاب لطبيعة الدين الاسلامي وعدم فهم ومعرفة بطبيعة اتباعه . ان التصور بان مثل هذا السيناريو يمكن ان ينجي الغرب او اسرئيل من خطر الدين الاسلامي هو فهم خاطيء لان أليات هذا الصراع يمكن بسهولة ان تتطور وتتوسع وتنتشر الى كل انحاء العالم ولا ينجوا احد من شره ابدا . نحن نعيش الان في عالم يتطور بسرعة مذهلة وخير وسيلة للخلاص من الاخطار الدينية هي في جعل هذه الاديان تتقارب فيما بينها واجراء مصالحة شاملة تستند على مبدأ التسامح وتجاوز المسببات التاريخية التي زرعت اواصر العداء فيما بينها . فمثلا , ان اسرائيل لا يمكن ان تبقى موجودة على الارض الى الابد مهما امتلكت من عوامل القوة مالم تتجاوز النزعة الدينية العنصرية الموجودة لحكامها وبعض فئات شعبها وتصبح كدولة جنوب افريقيا , اي دولة موحده يتعايش فيها الشعبين اليهودي والعربي جنبا الى جنب ويجري حكم الدولة وفق اسس ديمقراطية يجري فيها تداول السلطة حسب ما تقره قوانين الاغلبية دون ان يحصل اي تمييز او تعصب بناء على الدين او العرق . كما ان الغرب المسيحي يمكن ان يتجاوز الارهاب واثاره المدمرة اذا دعم مثل هذا المشروع وفي نفس الوقت يتجاوز الاطماع الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي الحاصل حاليا ويمد يد التعاون للدول الاسلامية ويساعدها في التغلب على مشاكلها وتجاوز نواحي التأخر فيها . وبخلاف هذا فان الخلافات الدينية ستبقى تكبر وتتوسع وتتطور , وقد لا يستعبد بان تكون في النهاية السبب الرئيسي في نهاية وجود الانسان على الكرة الاضية برمتها .