بقلم – وسام الشالجي
تختلف الحركات السياسية الموجودة في الوطن العربي عن غيرها من الحركات السياسية في بقية انحاء العالم في موضوع تغلب المبدأ الرسالي على عقائدها وافكارها . والمبدأ الرسالي الذي تحمله الحركة هو مجموعة افكار وعقائد تنظيرية عادة ما تحمل صفة القدسية وتنتهي بمجموعة من الاهداف السامية التي تسعى الحركة الى الوصول اليها من خلال تطبيق برنامج مستوحى من جوهر العقيدة التي تحملها . وتختلف المباديء الرسالية للحركات السياسية العربية حسب اختلاف ظروف نشأة تلك الحركات وطبيعة المكان الذي نشأت فيه , وهي على الاغلب ذات طابع قومي او ديني او كليهما . وتسعى كل حركة تحمل مبدأ رسالي الى التبشير بمبادئها كعقيدة تريد لها ان تصبح سائدة في فكر وعقول الاخرين . ومن خلال جميع تجارب الحكم التي حصلت في عالمنا العربي اثبتت الوقائع بان تلك الحركات هي ابعد ما تكون عن روحية المباديء التي حملتها بحيث تصبح الاهداف التي كانت تعلنها قبل وصولها للسلطة مجرد مضامين مسطرة على الورق لا قيمة ولا اهمية لها . كما ان تجارب تلك الحركات في الحكم افرزت في اغلب الاحيان حكاما دكتاتوريين ومتسلطين لاسباب ربما تعود بشكل او باخر الى عقائد تلك الحركات او الى التكوين الذي تأسست عليه . كما ان وجود المباديء الرسالية في عقائد الحركات السياسية المختلفة كان يؤدي دائما الى تقاطعها بسبب اختلاف مبادئها في الفكر والعقلية والاهداف , وهذا بدوره جعل من الحركات السياسية في العالم العربي تتصارع فيما بينها حتى وهي بعيدة عن السلطة . وبعد استلام دفة الحكم فان هذا التصارع كثيرا ما كان يتطور الى درجة تصفية الاخر بشكل قلما يحصل نظيره في اي منطقة من مناطق العالم . وبينما نرى في الحركات السياسية في بقية بلدان العالم لا تختلف ابدا في درجة الاخلاص للوطن ولا في اهتمامها بالمواطن لكنها تختلف في برامجها السياسية وطرق تطبيقها وتتنافس فيما بينها فقط في القدرة على خدمة الوطن والمواطنين , نجد ان تنافس الحركات السياسية في بلادنا لا يتم الا من خلال اتهام بعضها البعض بالخيانة وعدم الاخلاص والتبعية للاجنبي , والسبب كله يعود الى وجود وتقاطع المبادي الرسالية التي تحملها . لقد ادت هذه الاحوال الى تعرض دول العالم العربي الى كوارث وانتكاسات كبيرة مما جعلها تسير في منحدر تراجعي خطير حتى بات حالها اليوم لا يسر ابدا . ولاجل فهم واستيعاب اسباب تغلب هذا المبدأ على معظم الاحزاب والحركات التي ظهرت في عالمنا العربي دون غيره من مناطق العالم يتعين العودة الى الوراء لفهم الخلفيات التي كانت وراءه . ولا يقصد بهذا المقال حركة سياسية بعينها , لاننا لو تفحصنا الواقع بدقة لوجدنا جميع الحركات في عالمنا العربي تسير بنفس الطرق وتتبع نفس الاساليب مهما اختلفت في نظرياتها وطروحاتها .
كان لأنبثاق وانتصار الدعوة الاسلامية ونجاحها في انشاء دولة عظيمة وكبيرة سادت لعدة مئات من السنين الدور الاكبر في شيوع المبدأ الرسالي على كل حركة ظهرت في العالم العربي فيما بعد . كان لذلك الماضي اثره القوي على اغلب الحركات الجديدة التي ظهرت في عالمنا العربي لان جميعها وقع في وهم جعلها تظن بان التقليد والتشبه بالدعوة الاسلامية في صدر عصرها يمكن ان يجعلها تحقق اهداف وغايات ترتقي بحجمها , او بجزء من حجمها الى حجم ما حققته تلك الدعوة , حتى وان كانت تلك الاهداف والغايات مختلفة كليا او جزئيا . لذلك فان اول ما تفكر فيه اي حركة حين تكون في طور التأسيس هو وضع مجموعة من المباديء والاهداف السامية تحيطها بهالة من التقديس والتعظيم , ثم تبدأ بالتبشير بها وبثها بطرق مشابهة لطريقة نشر الدعوة الاسلامية في عصر ظهورها وبظروف عمل سري مماثلة تماما . وبعد ان تقوى الحركة ويشتد عودها لا تفكر بشيء غير الوصول الى السلطة بأي طريقة حتى وان كانت بالقوة مدعية بان هذا الطريق هو الاسلوب الوحيد الممكن لتجسيد نظريتها وتحقيق اهدافها . من جانب اخر فان حالة التشبه والتقليد امتدت واتسعت لتتضمن ايضا التشبه بالحالة التي كان عليها الحاكم في الدولة الاسلامية في كونه يمثل ظل الله على ارضه وان جميع ما يقوم به او يقوله ليس في الواقع الا ما يريده الله . لذا فاننا نجد معظم الحركات في الوطن العربي افرزت بعد وصولها الى السلطة (بل حتى قبل ذلك في بعض الاحيان) حكاما او اشخاص ترسخ عندهم الاعتقاد , او على الاقل تظاهروا بان الرعاية السماوية هي التي ترعاهم وهي التي تأخذ بايديهم وانهم يمثلون توجهات السماء بشكل او بأخر . لهذا فكثيرا ما نجد الحاكم في انظمتنا العربية يتحول بعد فترة قصيرة من حكمه الى الحاكم بامر الله او المنصور بالله او عبد الله المؤمن , ويصبح حكمه تسلطيا ومعارضته هي معارضة لأوامر الله . ومن نتائج هذا ايضا هو ان حتى بعض الحركات التي وصلت للحكم بطرق ديمقراطية نجدها سرعان ما تتخلى عن هذا الطريق او تنقلب عليه بشتى الوسائل والذرائع لانها تصبح غير مستعدة لخسران مكسب الاستحواذ على السلطة والعودة من جديد الى صفوف الجماهير لمواصلة نضالها لتحقيق أمال تلك الجماهير .
ان التصور بان اعادة امجاد الامة وبعث النهضة بها من جديد لا يأتي الا من خلال اجترار الماضي والتشبه بظروف عصر صدر الدعوة الاسلامية يعود الى قلة الفهم والادراك الموضوعي سواء لظروف تلك المرحلة او للواقع في عصرنا الراهن . ان الدين الاسلامي هو عقيدة سماوية جاءت لتنظيم العلاقة بين الخالق والمخلوق وان الظروف التي مرت بها الدعوة الاسلامية ارتبطت بشكل مباشر بطبيعة هذه العلاقة , في حين ان الحركة السياسية هي مفهوم دنيوي يتعلق مباشرة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم . كما ان للدعوة الاسلامية ظروفها الخاصة التي لايمكن فصلها عن طبيعة الاوضاع السائدة في حينها سواء في بداية الدعوة وتكون الدولة الجديدة او في الظروف المحيطة والتي ساهمت بمجموعها الى تحقيق الانتصارات الكبرى وتكوين امبراطورية كبيرة . لم تتأسس الدولة الجديدة فقط نتيجة لوجود رجال دين حملوا عبأ التبشير الروحي بالعقيدة الجديدة فحسب لكن كانت هناك ظروف اخرى ساعدت في تحقيق الانجازات الكبيرة تمثلت في وجود رجال عظام فهموا السياسة ودروبها وعرفوا كيف يتعاملون مع الواقع والاحداث بحكمة وبراعة بالاضافة لوجود قادة لامعين ذوي حنكة عسكرية بارعة . ساهمت جميع تلك العوامل في تحقيق الانتصارات الساحقة وانشاء امبراطورية عظيمة بكل معنى الكلمة سادت على الارض لوقت طويل . ونظرا لكون التعاليم والشرائع الدينية الاسلامية هي امور ثابتة وراسخة لا يمكن تغييرها , لذا فقد كان الحاكم الذي هو رأس الدولة هو الراعي الاساسي لها والمحافظ عليها , اما المرونة التي كان يتطلبها التعامل مع تطورات الاوضاع السياسية والميدانية فقد تركت بيد رجال كانوا قادرين على التعامل مع تلك المعطيات . خلاصة ما تقدم هو ان للسياسة والحنكة العسكرية والبراعة في القيادة كان لها ادوار كبيرة في الوصول الى ما تحقق وبقدر لا يقل اهمية عن الواعز الديني المنبثق من العقيدة السماوية المقدسة والتي استطاعت تعبئة الناس وراء القيادات التي اضطلعت بالأدوار الرئيسية في وقتها . لذلك ومن اجل الحفاظ على هذا الواعز كانت هناك حاجة مستمرة للابقاء على صورة الحاكم او القائد الاعلى للدولة في كونه راعي العقيدة السماوية وممثل الله على الارض بنفس القدر الذي كانت فيه حاجة للسياسة والمرونة التي اضطلع بها رجال الدولة الادنى مرتبة . ان وجود هذين العاملين وبحالة من التوازن هي التي مكنت من تحقيق الانجازات العظام , ولم يحدث التراجع الا بعد ان تغلب دور العامل الأول على دور العامل الثاني .
يعيش العالم في عصرنا الراهن بحالة من التطور المذهل في كل شيء بينما نعيش نحن في عالمنا العربي في حالة من الجمود الفكري الذي ظل ساريا لفترات طويلة جدا . ان التطور لا يقاس كما يتصور البعض بتشييد الابنية والشوارع والابراج والجسور واستخدام احدث الاجهزة والمعدات , بل ان ذلك يقاس بالقدرة على خلق مثل هذه المظاهر من خلال امكانيات الأنجاز والابتكار والابداع المنبعثة من داخل النفس , لا من القشور التي تتلبس بها من الخارج . ان هذه القدرات غير موجودة للاسف في عالمنا العربي بسبب الجمود الذي تعيش به العقليات العربية , لذلك فلو نظرنا الى اي مشروع يقام في بلداننا لوجدنا بان جميع مفرداته من الالف الى الياء مبتكرة ومنجزة بقدرات غير عربية . علينا ان لا نخشى من القول باننا نعيش في عالم وهمي نابع من وجود عقليات جامدة في رؤوسنا , وان عقلياتنا الجامدة هذه لم تخلق فينا غير البراعة في الاستمتاع بما يبتكره وينجزه الاخرين لنا . وحين ارادت عقلياتنا الجامدة تأسيس حركات سياسية تقود التغيير في مجتمعاتنا لم تستطع ان تفرز سوى حركات ذات مباديء رسالية لو تفحصناها بدقة لما وجدنا فيها غير عقائد ثابتة ومتحجرة تفتقد لاي مرونة او قدرة على التغيير والتطور . ان وجود المبدأ الرسالي لدى الحركة السياسية يجعل من فكرها ومنطلقاتها اقرب ما تكون الى الكتاب المنزل مما يفقدها حرية المناورة والقدرة على التراجع وتغيير المواقف عند الضرورة . ان هذا كان من اصعب الامور على الحركات التي بنت نفسها بهذه الطريقة , لان اي تغيير في المبدأ الرسالي للحركة يعني ببساطة نسف وجودها من الاساس . وحتى حين كانت تضطر الحركة السياسية الى المناورة بالمواقف لاسباب قاهرة فانها كانت غالبا ما تبرر ذلك لجماهيرها باسباب بعيدة عن الواقع قد تصل في بعض الاحيان الى درجة الخديعة , او تضطر لاخفاء الحقيقة كملجأ اخير . لذلك نرى بان تجارب جميع الحركات السياسية ذات المبدأ الرسالي فشلت فشلا ذريعا في تجاربها بالحكم لانه جعلها تعيش في وهم كبير وفي عالم لا ينسجم مع عالم الواقع . كما ان فشل تجارب تلك الحركات ادى الى سقوطها بالكامل وانهيار جميع منطلقاتها وافكارها وتفتت اواصرها فضيعت على نفسها فرص البقاء كما هو الحال لحركات سياسية موجودة في مناطق اخرى من العالم منذ عشرات وحتى مئات السنين .
ان معظم الحركات التي تأسست اوائل القرن العشرين في بلداننا العربية كانت تتميز في كونها حركات سياسية وان مبادئها الرسالية مستمدة من منطلقات سياسية في الغالب . اما حركات عصرنا الراهن فهي حركات سياسية دينية تستمد مبادئها الرسالية من اسس دينية بحتة . لذلك فأن الحال ازداد تعقيدا , ففي الوقت الذي كانت فيه حركات الامس تجد صعوبة بالغة في اجراء اي تغيير على مبادئها الرسالية السياسية حين تتطلب الظروف المحيطة ذلك وانها كانت لا تفعل ذلك الا بالخفاء , فان حركات اليوم لا تستطيع ابدا ان تغير من مبادئها الرسالية لا بالعلن ولا بالخفاء لانها اساسا مستمدة من الدين الذي لا يمكن تغيير مبادئه مطلقا . واذا كان الجمود وعدم القدرة على المناورة ومسايرة الاوضاع السياسية الذي واجهته حركات الامس قد جلب الدمار والكوارث للامة فلنا ان نتصور الى ماذا سيؤدي الحال بحركات سياسية دينية تعيش في عقلية الماضي ولا تتحرك الا بالفتاوي او بنصوص مر عليها مئات السنين . ولكي نعرف الى اين سيؤدي هذا الحال ليس علينا الا ان ننتظر خمسون عاما اخرى لكي تخوض هذه الحركات تجاربها في الحكم وتفرز الوقائع نتائج مناهجها كما حصل في تجارب حركات القرن العشرين , وفي كل الاحوال فان المتوقع ليس مبشرا ابدا لان علاماته بادية من الان .
ان وجود المبدأ الرسالي كعمود فقري لاي حركة سياسية هو خطأ فادح وفخ تحفره الحركة لنفسها , وان عمر وعمل مثل هذه الحركات ومستقبلها لن يكون فيه ديمومة ابدا ما لم تتجاوز هذا الوهم الكبير وترفعه من برامجها وطروحاتها . نحن اليوم احوج ما نكون الى حركات سياسية ذات عقلية مرنة تبتعد عن المفاهيم والمباديء المقدسة الثابتة التي لا يمكن تغييرها ولا تضع في برامجها غير مصلحة الوطن وتطويره , وبناء حياة الانسان وضمان امنه ومستقبله وتحقيق الرفاهية له . ان التراجع عن فكرة ما او مبدأ معين والانقلاب عليه حتى وان كان بزاوية 180 درجة ليس عيبا ولا قصورا , بل بالعكس فان مثل هذا يمكن أن يزيد من شعبية الحركة ويعزز من جماهيريتها لان هذه الجماهير ستدرك بان هذه الحركة تسعى فعلا لضمان حقوقها وتحقيق اهدافها باي طريقة تتطلبها الظروف وبأي شكل يقتضيه الواقع . كما ان ترك المفاهيم المتحجرة وازالة الهالات القدسية حول مباديء الحركة السياسية سيجعلها بالضرورة تتقبل الرأي الأخر وتنظر باهتمام الى الرأي المعارض وهذا اول اسس الديمقراطية التي نحلم بها .
- انتهى -