اخر المواضيع في المدونة

الخميس، 8 يناير 2015

خصائص الشخصية العراقية التي ادت الى ما حصل في مجزرة قصر الرحاب ؟

1- رفض الحاكم:
يتصف العراقيون بقوة وبشكل يختلف عن جميع الشعوب الاخرى بانهم يحملون روح رافضة ومتمردة على اي حاكم ينصب عليهم سواء ان كان هذا الحاكم قد جاء باختيارهم او فرض عليهم . ان العراقي يعارض اي نظام حكم في بلده ويتمرد على أي حاكم يحكمه لا لشيء الا لأجل المعارضة فقط , والغريب ان هذا الامر ظهر بشكل صارخ وحاد في العراق بعد تأسيس الدولة الاسلامية في القرن الاول الميلادي بينما لم تكن هناك اي علامة له خلال العهود التي نشأت قديما في بلاد ما بين النهرين . فالعراقيين لا يرضون على اي حاكم يحكمهم مهما اختلفت صفاته وطبيعته ونظام الحكم الذي يتبعه . ومن الملفت للنظر ايضا ان هذه الصفة تظهر بشكل علني حين يكون الحاكم ضعيفا او غير صارم , بينما تدور رحاها بالسر دون ان تخمد او تفقد تأججها حين يكون الحاكم صارما وباطشا . وهناك مظاهر كثيرة تعبر عن هذه الروح المتمردة الموجودة في نفوس العراقيين من بينها التمرد على اوامر الحاكم واشاعة الفتن واثارة الفوضى التي يمكن ان تصل الى اعلان الثورة على الحاكم . وحتى حين تغيب مثل هذه المظاهر لسبب من الاسباب كان يكون قوة الحاكم وبطشه فان بذورها تبقى مزروعة داخل النفس العراقية منتظرة اول فرصة يجري فيها سقايتها فتأخذ بالنمو وتكبر ثم تنتشر وتخرج للعلن معلنة عن نفسها بشكل سافر . ولا يتردد العراقيون ابدا من البطش بالحاكم بمنتهى القوة اذا ما وقع تحت ايديهم فيما لو نجحت الثورات التي يشعلونها ضده .
من الناحية التاريخية فان هذه الصفة يمكن ان تلمس بشكل واضح وجلي لو عدنا الى الوراء , وبالذات الى السنين الاولى من عمر الدولة الاسلامية في عهد الخلافة الراشدية . ان اول فتنة حدثت في الدولة الاسلامية , او اول ثورة بمعنى ادق كانت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان وكان سببها ثورة العراقيين والمصريين على الولاة الذين نصبهم الخليفة على العراق ومصر والتي تحولت فيما بعد الى ثورة على الخليفة نفسه . فبالنسبة للعراقيين , فقد ذهبت وفود منهم من الكوفة والبصرة الى المدينة وعلى رأسهم مالك بن الحارث الأشتر النخعي محتجة على والي الكوفة سعيد بن العاص وطالبت الخليفة بعزله , ثم اخذوا يؤلبون الناس ضد الخليفة وتطورت الاحداث لتنتهي بقتله عام 35 للهجرة . الثورة الثانية كانت في مناصرتهم للامام الحسين (ع) ومساندة ثورته على حكم يزيد بن معاوية حيث طالبوا بمقدمه من المدينة الى العراق معاهدين بمبايعته بالخلافة بعد مجيئه . الا ان العراقيين تنكروا لهذا العهد وتركوا الامام الحسين وحيدا في مواجهة جيش الامويين والتي انتهت نهاية مفجعة باستشهاده واهل بيته في موقعة الطف بكربلاء . ثم قام العراقيون بثورة اخرى بعد موت يزيد بن معاوية بقيادة المختار بن ابي عبيد الثقفي عام 66 هـ الذي اقام المجازر الجماعية وانتقم من كل من شارك في واقعة كربلاء واخذ يحكم في الكوفة تحت شعار (الانتصار لأل البيت) . وفي اواخر عهد الدولة الاموية ساند العراقيين العباسيين في ثورتهم ضد الامويين والتي انتهت بانتصارهم وقيام الدولة العباسية . وبعد قيام الدولة العباسية في العراق واستتباب الامر لها تماما عاد العراقيون من جديد الى عاداتهم القديمة واخذوا يثورون عليهم كلما سنحت الفرصة بذلك . وخلال عصور الدولة العباسية حدثت الكثير من الثورات للعراقيين على الحم العباسي من بينها ثورات الخوارج الذين نظروا إلى العباسيين على أنهم مغتصبون للخلافة التي ينبغي أن يتقلدها أجدر المسلمين بها من خلال مبدا الشورى بغض النظر عن نسبه . وبعد سقوط الدولة العباسية وتأسيس دولة المغول في العراق ودخوله في الفترة المظلمة التي استمرت قرونا عدة لم يتسنى للعراقيين الثورة على حكامهم الجدد من المغول بسبب دموية هؤلاء الحكام وبطشهم بالعراقيين وكذلك توالي غزوات مغولية اخرى على العراق وفي كل مرة يغزونه فيها كانوا يقيمون المجازر والمذابح التي لا ينجوا منها الا ذو حظ عظيم . اما خلال حكم الدولة العثمانية للعراق والذي استمر اربعة قرون فان توالي الولاة وصراعهم مع بعضهم البعض بشكل دموي وكذلك حصول الاوبئة والمجاعات لم يتيح المجال امام العراقيين لكي يقبلوا او يتمردوا على اي حاكم يسلط عليهم . غير ان الامر تغير في العصر الحديث بعد تحرر العراق من الدولة العثمانية وتأسس الدولة العراقية اذ عاد العرقيين الى عاداتهم القديمة وعادت المؤامرات والمحاولات الانقلابية من اجل السيطرة على نظام الحكم . فخلال ثمانين سنة من عمر الدولة سجلت عشرات المحاولات الانقلابية نجحت منها اربعة فعلا اقامت اربعة جمهوريات متباينة ومختلفة في انظمتها وقادتها الا انها جميعا تشترك بصفة واحدة هي انها افرزت انظمة شمولية ومستبدة وحكاما دكتاتوريين . ان وجود صفة رفض الحاكم كائنا من يكون هي صفة مزروعة بالشخصية العراقية , ويمكن ان يعزى هذا الى عدة اسباب اهمها :
* الطبيعة البدوية للقبائل العراقية والتي اعتادت على الغزو للوصول الى اغراضها .
* الاختلاف الطائفي بين العراقيين , اذ ان اي كومة تأتي لابد ان تكون من طائفة معينة مما يدفع بقية الطوائف الة معاعارضتها والثورة عليها ان امكن .
* دموية الانظمة التي قامت بالعراق وقساوة الحكام الذين تسلطوا عليه مما كان يؤجج روح الثورة ضدهم في نفوس العراقيين .
* اختلاف الدول التي تعاقبت على حكم العراق وتباين انظمتها وسياساتها تجاه العراق
* حب الزعامة والرغبة بالقيادة الموجودة في داخل نفس كل عراقي . 


2- الغوغائية والسادية :
تعرف الغوغائية على انها عدد من السلوكيات والتصرفات لمجموعة من الأشخاص تجمعهم نفس الظروف , كأن يكونوا من منطقة واحدة او تجمعهم في وقت معين حالة واحدة . وعادة ما تكون هذه التصرفات لا تحكمها قواعد أو أصول ولا ترجع لقيم أو مبادىء تحدد اتجاهات السلوك لدى الفرد وانما تسيرها دوافع سطحية مستقاة من تحليل غير علمي للاوضاع السائدة في المحيط بطريقة بعيدة كل البعد عما هو حقيقي . والسلوك الغوغائي هو سلوك مؤقت يقوم في الدرجة الأولى على أسس ومعايير ذاتية يظهر في تصرف جمعي منفلت عند وجود الجماعة مع بعضها , ويتبدد وتزول كل اركانه بتفرق هذه الجماعة . اما السادية فتعرف بانها سلوك شخصي يقوم على مبدأ حب ايقاع الاذى بالاخرين والتلذذ بتعذيبهم بأي وسيلة او طريقة ممكنة . ولا تتعلق هذه الصفة بالقوة او الشجاعة فقد يكون السادي من اضعف او أجبن الناس , لكن ما ان تسنح له الفرصة في أيلام غيره فانه لا يتأخر لحظة عن القيام بذلك تدفعه في هذا دوافع داخلية لا يدركها ولا يعرف اسبابها . وليس من الضروري ان ترتبط الغوغائية بالسادية , لكنهما اذا اجتمعا معا فان نتائجهما غالبا ما تكون كارثية وشديدة التأثير على المجتمع الذي تحصل به . ان من المؤسف ان هاتين الصفتين قد ظهرتا بالمجتمع العراقي مجتمعتين خلال الكثير من الحوادث التاريخية التي مرت بهذا المجتمع . وهناك من الاحداث التي مرت في التاريخ الحديث ما فيه شواهد قوية على وجودهما معا وبشكل صارخ . وسنحاول هنا استعراض بعض هذه الحوادث ننتقل بعدها الى محاولة فهم اسبابها ودوافعها .
ان اول حادثة تاريخية اجتمعت فيها صفتي الغوغائية والسادية معا حصلت في العصر الحديث هي فرهود عام 1941 . فبعد انكسار الجيش العراقي امام القوات البريطانية في موقعة الحبانية وتقهقرها بشكل مشتت عائدة الى بغداد وفرار الانقلابيين الذين تزعموا حركة رشيد عالي الكيلاني حصل فراغ في السلطة , حيث غابت عن بغداد لمدة يومين كل مظاهرها التي تتمثل بقوى الامن من شرطة وجيش ومؤسسات تعود للدولة . وقد فرح يهود بغداد بشدة بانكسار الجيش العراقي وفشل النظام الانقلابي الجديد الذي كان يؤيد المانيا النازية لما عرفوه من عداء الحركة النازية لليهودية . وقد اظهر اليهود مظاهر احتفالية في ذلك اليوم (1 حزيران) الذي صادف ايضا عيد الزيارة في ديانتهم ووضعوا سماعات تكبير الصوت على أسطح منازلهم والسينمات التي يملكونها لتذيع اغاني الفرح والبهجة , ومن بينها اغنية ام كلثوم (افرح يا قلبي لك نصيب تبلغ مناك ويا الحبيب) . كان لهذا الموقف اثره الكبير على سكان بغداد لما اعتبروه من تشفي بالقوات العراقية المنكسرة وتأييد للقوات البريطانية التي تقدمت نحو بغداد مطاردة فلول القوات العراقية المنسحبة . استغل الناس فقدان السلطة وعدم وجود جيش أو شرطة في البلاد فخرجوا إلى الشوارع والأسواق والساحات بجموع غفيرة مسلحين بالخناجر والعصي والسكاكين ليقوموا بعمليات فرهود من خلال سلب ونهب دور ومحلات اليهود وينفذوا ضدهم حملة قتل واغتصاب قلما شهد لها تاريخ العراق مثيلا . لقد كانت تلك الاحداث عبارة عن مجزرة وحشية رهيبة حيث كان المغيرون يخرجون الرجال من دورهم ويذبحوهم على الارصفة ويبقرون بطون النساء الحوامل ويقتلون الأطفال ويغتصبون النساء ثم يعمدون إلى أثاث الدار ومحتوياته أو إلى ما في المحل من بضائع فيسرقونها بأسلوب النهب البدوي المتوارث . كان الجار المسلم يقتحم دار جيرانه من اليهود الذين ترعرع معهم منذ الطفولة وعاش معهم طيلة العمر بسلام وصداقة ليسبي بناتهم ونساءهم وينتزع منهن مصاغاتهن الثمينة من الذهب والفضة ويغتصبهن بضراوة جنسية بشعة ويقتل من أهل البيت من يشاء بكل قسوة وبتلذذ غريب . لم تتوقف المذبحة الا في مساء اليوم التالي بعد ان عاد الوصي الى بغداد وامر قوات الشرطة والجيش باطلاق النار على تلك الجموع المغيرة . وبعد توقف تلك الاعمال شرعت الحكومة في إحصاء الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها يهود بغداد خلال ست وثلاثين ساعة من غياب السلطة فتبين بانها حوالي ثلاثة ألاف قتيل وألاف من حالات الاغتصاب منها الكثير مما وقع ببنات قاصرات وطفلات وبصبيان أيضا , بالاضافة الى سرقة ممتلكات قدرت بملايين الدنانير . والأمر المثير للدهشة هو أن جموع الشعب العراقي اظهرت تلذذ كبير بهذه الافعال معتبرة اياها ملحمة وطنية وقومية ودينية مجيدة وظلت تتغنى بها لعدة سنوات بعد ذلك العام . 
الحادثة الثانية هي المجزرة التي حصلت في يوم 14 تموز عام 1958 حين تم اعدام العائلة المالكة العراقية في الحديقة الامامية لقصر الرحاب من دون سبب شرعي . فبعد ان قام الضباط والمراتب المهاجمين باطلاق النار وابادة العائلة المالكة , اخذت جثتي الملك فيصل الثاني والامير عبد الاله بسيارة جيب عسكرية وانطلقت مسرعة وسط الزحام الشديد في الشارع المقابل للقصر . كان الضباط في السيارة يحاولون جهدهم بأن لا يعرف احد بان سيارتهم تقل جثث الملك والوصي الا انه سرعان ما فطنت لذلك الحشود الهائلة التي راحت تركض وراء السيارة وهي ترفع المسدسات والخناجر والهراوات بينما كانت اعداد من الجنود قد وقفت على جوانب الطريق المكتظ وهم يطلقون نيران بنادقهم ابتهاجا بما حدث . وحين وصلت السيارة الى النقطة المواجهة لمبنى المحطة العالمية التفت حولها اعداد اخرى من الناس فسحبت جثة عبد الاله وخلعت ملابسها وانهالت عليها الركلات بالاقدام . جلبت الحبال من البيوت المجاورة واللوريات الواقفة وربطت الجثة بحبلين وسحلت لمسافة تقارب الكيلومترين الى قلب مدينة الكرخ . وفي منطقة الكرخ رفعت الجثة وعلقت وربطت بشرفة فندق الكرخ وصعد اليها حملة السكاكين والسواطير فبتر الذكر وفصلت الرجلان من الركبتين , وقطع الكفان من الرسغين , والقيت الى مجموعات من الفتيان والشبان الذين سرعان ما تلاقفوها وانطلقوا مهرولين بالاجزاء المبتورة عبر الشوارع والازقة متجهين نحو الرصافة في صخب ولعب وضحك . وبعد برهة انزلت الجثة وسحلت مرة اخرى عبر شارع الرشيد بينما كان نشيد (الله اكبر) المصري يلعلع من راديوات المقاهي والمحلات الموجودة على الجانبين . كان منظرا رهيبا تتقزز له الانفس ويعجب من يراه كيف يمكن لجموع من البشر ان تستلذ بمثل هذه الاعمال . وفي منطقة بوابة وزارة الدفاع علقت الجثة مرة اخرى وقد تدلت امعائها وتهشم رأسها والجموع تصيح وتصرخ وترقص حولها . وفي اليوم التالي حصل ذات الامر بجثة نوري سعيد , ثم تكرر بجثة ابنه صباح حتى اصبح الامر عاديا قابل للوقوع في اي وقت ومع اي شخص .
الحادثة الثالثة حصلت ضمن احداث 1959 الدموية في العراق . فقد حدثت في تلك السنة اعمال عنف فظيعة في مدينتي الموصل وكركوك تمثلت في قتل المئات من المواطنين وسحل جثثهم في الشوارع وتعليقها على اعمدة الكهرباء والابنية والتمثيل بها بطرق تستنكف من فعلها حتى الحيوانات المفترسة . وخلال ذلك العام تكرر نفس الامر في مناطق مختلفة من العراق في اعمال قتل وسحل كثيرة قام بها جنود بحق امريهم ومواطنين بحق مسؤولين في الدولة حتى صار القتل والسحل ضاهرة يومية عادية تقوم بها الجماهير المنفلتة التي لا تجد من يتصدى لها او يمنعها من القيام بمثل هذه الاعمال . وعلى مدى العقود اللاحقة تكرر نفس الحدث في مناسبات اخرى وبطرق واشكال متعددة . 
يحاول بعض الباحثين ربط هذه الحوادث بعوامل وطنية كوصفها بانها نتيجة حصول ثورة جماهيرية او انتفاضة شعبية وهو امر غير صحيح البتة , لان ما حصل كان يمكن ان يحدث بشكل مشابه بالضبط ولكن مع فئات مختلفة لو كانت الظروف معاكسة . ان هذه هذه الظواهر هي في الواقع ليست غير حالة من الهستيريا السادية التي تسيطر على النفس البشرية في لحظة معينة فتقوم بافعال منفلتة خارجة عن السيطرة بشكل لا ارادي يقوم بعض الاشخاص باستغلالها وتوجيهها بالاتجاه الذي يريدونه . فقد اثبتت التحقيقات التي جرت في حوادث عام 1941 بان من كان ورائها فعليا هم مجموعة من المجرمين والعسكريين الغير منضبطين استطاعوا بذكاء قيادة الجماهير المنفلتة ودفعوها لكي تتصرف بالاتجاه الذي حصلت به . نحن لا نحاول بهذا ان نعفي الناس مما فعلت ايديهم , لكننا نحاول تفسير اسباب هذه الظاهرة بشكل علمي . ان النفس البشرية العراقية هي شخصية متظلمة نتيجة للقهر الذي اصابها على مدى تاريخها من الانظمة المتسلطة وظلم الحكام الذين حكموا هذا البلد . ان هذا القهر والتظلم قد ثبت وترسخ داخل النفس حتى أصبح كالجين المتوارث ينتقل من جيل لاخر . وحين يصيب الدولة ضعف معين او تفقد سلطاتها لسبب او لآخر تظهر فرصة مؤاتية لهذا الجين لكي يفعل فعله فيظهر بشكل سلوك جمعي غوغائي غير منضبط قابل لان يستغل من قبل البعض وتوظيفه بأتجاهات مقصودة , وهذا بالضبط ما يحصل في مثل هذه الحوادث .

  
3- حب الزعامة والقيادة
من الصفات التي تتصف بها شخصية الانسان العراقي هي حبه للقيادة ورغبته بتبوأ الزعامة في كل مكان يكون فيه . ومع ان هذه الصفة موجودة بدون شك في كل المجتمعات لكننا نجدها في الواقع موجودة بشكل حاد وكبير في المجتمع العراقي بكل حلقاته من الدنيا الى أعلى حلقة موجودة فيه . ان اول مكان تظهر به هذه الصفة بشكل واضح وجلي هو البيت والاسرة . ان قائد الاسرة العراقية وزعيم البيت الذي تسكنه بصورة مطلقة هو الاب . ففي البيت يكون الاب هو ربان السفينة بدون منازع , فهو الذي يتخذ القرارات لوحده وهو الذي يتحكم بكل صغيرة وكبيرة وهو المسؤول عن كل ما يتعلق بالاسرة ومسار حياتها ومصير كل فرد من افرادها . كما ان الاب لا يتقبل ايضا اي نقاش يتعلق بقراراته او النظام الذي يضعه لبيته مهما كان حال هذا القرار او النظام الذي يضعه من النواحي السلبية والايجابية . لقد نشأت هذه الصفة وتبلورت نتيجة لكون الاب هو المحرك الاقتصادي الوحيد للاسرة والبيت الذي تقطنه , فهو الذي يعمل بشكل اساسي وهو الذي يكسب وهو الذي يتحكم في كافة شؤون البيت المالية . وقد ادت هذه الخصوصية الى تفرد الأب بالزعامة في محيطه من دون منازع , وقد ترسخت هذه الزعامة وامتدت جذورها بالارض على مدى الزمن . وحتى حين ظهرت مستجدات جعلت من الاب ليس المصدر الاقتصادي الوحيد الممول للاسرة الا اننا نجد بان الزعامة ظلت بيده في كل الاحوال . فحتى حين تعمل الام لمساعدة الاب , او ان تكون اغنى من الاب في بعض الاحيان بسبب ممتلكاتها التي ترثها من اسرتها , الا ان زعامة الاسرة تبقى مع ذلك بالكامل بيد الاب رغم كل شيء . كما ان الزعامة في البيت يمكن ان تكون متنفسا في بعض الاحيان لعدم نيل الزعامة في اماكن الحياة الاخرى , لذلك نجد الاب يمارسها بكل متعة واقدام لانها ترضي رغباته وتشعره بما يفتقده في الحياة . لهذا فقد اصبح الاب في الاسرة العراقية يحمل بجدارة صفة (رب الاسرة) بكل ما تعنيه كلمة الربوبية من معاني وصفات الهية .وكما هي موجودة في البيت فأن صفة الزعامة وحب القيادة ونزعة السيطرة موجودة ايضا في المدرسة بنفس القدر او ربما حتى اكثر . ان العرف السائد في المجتمع العراقي والاوساط التعليمية هو ان المعلم او المدرس هو السيد المطلق في صفه وهو الأمر الناهي والمتحكم بكل شيء يتعلق به . وتأتي هذا الخصوصية من صلاحيات المعلم وقدرته على التحكم في مستقبل اي طالب موجود بصفه . ان المعلم يستطيع بكل بساطة ان يتحكم بنجاح او رسوب الطالب في الصف بشكل او بأخر , وهذا يعطيه قدرة فائقة على الزعامة المطلقة ضمن صفه . فاذا ما سألت , على سبيل المثال اي طالب موجود في مدرسة عراقية عن سبب رسوبه في صفه فأنه سيجيبك على الفور وببساطة "المعلم شد وياية عداوة" كدليل على قدرة المعلم في التحكم بمستقبل طلبته . ومن البيت والمدرسة ينتقل حب الزعامة والظهور والسيطرة الى الابناء والبنات نتيجة لما يكتسبوه من الأب في البيت والمعلم في المدرسة لينعكس ذلك بوضوح من خلال تصرفهم باديء ذي بدأ مع اصدقائهم . ففي اي شلة من الاصدقاء تتكون , بنينا او بناتا وفي اي اعمار كانت , نجد بان هناك شخصية معينة تطغى وتهيمن على الباقين لسبب من الاسباب وتتزعمهم وتسيرهم في كل صغير وكبيرة . ان هذه الصفة هي صفة طبيعية موجودة عند كل الناس , لكنها تظهر بشكل اشد في المجتمع العراقي . ان هذه الحالة قد تظهر مبكرا منذ الصغر او قد تتأخر ولا تظهر الا في مراحل متقدمة , لكن من المعتاد ان يبدأ ظهورها مبكرا في الزقاق او المحلة حيث تبدأ المجموعات بالتشكل وتتكون الزعامات فيها بشكل تلقائي . وبخلاف السبب الذي ادى الى زعامة الاب في البيت او المعلم في المدرسة , نجد ان الحالة هنا تأتي من تغلب صفة معينة لدى هذا الزعيم , كأن تكون قوة الشخصية والمقدرة على الهيمنة والتأثير بالاخرين , أو بالجمال (بالنسبة للفتيات) او الذكاء والتفوق العلمي في حالات معينة . وكثيرا ما تقترن مثل هذه الزعامات بصفة الشقاوة , التي يمكن ان تكون بسيطة في المراحل المبكرة لكنها تتعاظم وتزداد نوازع الشر فيها مع تقدم العمر . وحتى مع انقياد بقية افراد الشلة لزعامة هذه الشخص نجد ان الاخرين في بواطنهم يسعون باستمرار الى تجريده من هذه الصفة واحتلال موقعه باي شكل من الاشكال . ان ظهور اي منافس ضمن نفس الشلة يمتلك صفة مماثلة (او حتى مختلفة) تؤهله الى الزعامة يؤدي ببعض الاحيان الى انقسام المجموعة على نفسها وتوزع افرادها بين الزعامتين المتنافستين .
اما في نطاق العمل والوظيفة فاننا نجد حب الانسان العراقي للزعامة والتسلط بالعمل ليس له حدود في هذا المجال ايضا وهو يظهر في اول يوم ينخرط فيه الموظف بعمله لانه يسعى منذ ذلك اليوم الى الصعود والظهور على حساب زملائه الاخرين طمعا بالحصول على منصب قيادي بشكل مبكر . ان هذا الطموح هو امر طبيعي ومشروع حين يكون مبني على المنافسة الشريفة , لكنه كثيرا ما يكون غير شريف ويمضي بطرق التسلق على اكتاف الاخرين والحفر تحت أقدام المتميزين للتخلص منهم وازاحتهم من الطريق نحو الزعامة . وما ان ينجح الموظف في مسعاه ويتبوأ اول مسؤولية يتقلدها في العمل , سواء ان كان هذا التقلد باستحقاق او بغير ذلك , نجده يتحول فورا الى وحش يسعى الى تحطيم كل من يستشعر بانه منافس محتمل له او تدمير اي كفاءة قد تجعل من شخص ما اكثر استحقاقا للمنصب الذي هو فيه . ومن هذا المنطلق نجد ان الموظف العراقي الذي يتسلم قيادة تشكيل ما مهما كان صغيرا لا يفكر ابدا بالمصلحة العامة او خدمة الدولة والمواطن من وراء مسؤولياته بل يكرس كل جهوده لسحق كل غريم يمكن ان يهدده وينافسه في منصبه . وقد يكون الأمر هينا لو توقف عند هذا الحد لكنه يتفاقم عادة الى درجة اخطر حين ينتقل مثل هذا الصراع بالتسلسل الى المستويات الأعلى وصولا الى القمة , حيث يأخذ اساليب وصيغ مختلفة تهدف الى تصفية واكتساح الأشخاص بطرق شريرة ببعض الاحيان لا لشيء الا طمعا في الصعود الى مواقعهم . ان وجود هذه العوامل تحول ظروف العمل في بلدنا الى اجواء من الصراع المرير هدفها الوحيد هو تسلق سلم الدرجات الوظيفية باسرع وقت ممكن حبا بالزعامة ونيل السلطة والتحكم بالاخرين .اما اذا انتقلنا الى الصعيد السياسي فاننا نجد كل عراقي يرى في نفسه الصفات والامكانيات والقدرة على زعامة البلد وحكمه . ان اي مجلس بين عراقيين اثنين او اكثر عادة ما تغلب عليه الاحاديث السياسية والتي لا تخلو من نقد للحاكم او مسؤول معين . ان هذه الاحاديث دائما ما تعكس بشكل غير مباشر الرغبات الدفينة في النفس العراقية للزعامة . ان جميع طرق الانتقاد التي يتقول بها العراقي بأحاديثه لا تطرح البدائل وانما هي نقد لاجل النقد فحسب وكأن المتحدث يريد ان يقول لمن يسمعه "ضعوني بمكان الحاكم وانظروا ماذا سافعل" , لكنه لا يستطيع قط ان يقول ماذا سيفعل لو حصل هذا فعلا . ومن هذه القاعدة نجد بان العراق اكثر دولة في الشرق الاوسط شهدت انقلابات ومحاولات للسيطرة على الحكم . فبعد حصول العراق على الاستقلال بثلاث سنوات حصل فيه اول انقلاب في منطقة الشرق الاوسط ودول العالم الثالث برمتها حين حاول بكر صدقي العسكري - رئيس اركان الجيش عام 1936 السيطرة على نظام الحكم . وبعد ذلك باربع سنوات جرت محاولة انقلابية اخرى للسيطرة على الحكم تمثلت في محاولة رشيد عالي الكيلاني مدعوما بالعقداء الاربعة لتغيير نظام الحكم في العراق . وحتى بعد نجاح الحركات الانقلابية في تغيير انظمة الحكم نجدها جميعا قد افرزت انظمة حكم استبدادية وشمولية بعيدة كل البعد عن اي وطنية حقيقية , وكان الحاكم يتحول بعد فترة من وصوله للحكم الى دكتاتور مطلق وزعيم اوحد يأخذ في اطلاق الصفات الوطنية الكاذبة والنعوت المقدسة على نفسه الى درجة يتجاوز بها عدد اسمائه التي يطلقها على نفسه في بعض الاحيان حتى عدد اسماء الله الحسنى . وحتى بعد ان انتهى عهد الانقلابات فأن الامر لم يتغير ابدا , فلو اخذنا العهد الحالي بالعراق على سبيل المثال لوجدنا بان جميع زعماء البلد يتأمرون على بعضهم البعض بضراوة وكل واحد منهم ينعت ويتهم الاخرين بالعمالة والتبعية للاجنبي مما يدلل على ان الوصول الى الزعامة والسلطة المطلقة هو وراء كل المقاصد وفي سبيله تحاك جميع المؤامرات .يظهر مما جاء اعلاه بان حب الزعامة والسيطرة على الاخرين صفة متغلبة في نفسية المواطن العراقي وهي تتحكم في الكثير من اختياراته ومسارات حياته . لذلك , فان احد اهم الاسباب التي دفعت الى قيام حركة 14 تموز 1958 هو رغبة قادتها بالوصول الى السلطة وتبوأ الزعامة في البلاد . خير دليل على هذا هو الصراع على مفاصل السلطة الذي اندلع بعد وقت قصير من قيام الحركة مما يدلل على ان هؤلاء لا يمتلكون وطنية حقيقية ولا يهمهم مستقبل البلد ولا يرغبون في الواقع غير الامساك بالسلطة والتمتع بالزعامة والقيادة التي توفرها لهم .










4- الغيرة والحسد وحب الظهور 
الغيرة وحب الظهور والرغبة بالتفوق على الاخرين هي صفات انسانية طبيعية يدلل وجودها في الانسان على حالة صحية تدفع المرء الى المثابرة والعمل والبحث والتقصي من اجل الوصول الى مراتب عليا في اختصاصه وحياته . غير ان هذه الصفات اذا زادت عن حدودها الطبيعية وشذت عن اهدافها وتحولت الى حسد وحقد وهاجس يرغب المرء من خلاله فقط الى الرغبة بالظهور بمظهر اعلى واحسن من اقرانه , حتى وان لم تتوفر فيه مقومات حقيقية لمثل هذا التفوق ستصبح عندها حالة مرضية حالها من حال اي من الامراض النفسية الاخرى . ولو درسنا طبيعة المجتمع العراقي وخصائص الشخصية العراقية لوجدنا بان هذه الشخصية مصابة بهذا الهاجس المرضي بشكل يكاد يتجاوز كثيرا اي حالة مماثلة في اي شخصية تعود الى شعوب انسانية اخرى . يظهر هذا الامر بوضوح لو تمعنا في احوال اي مجموعة اجتماعية يعيش فيها العراقي , كان تكون عائلة او عشيرة او شلة اصدقاء او كلية او موقع عمل .. الخ , فاننا سنجدها تتحول بالضرورة الى ساحة منافسة سيكون فيها جميع افراد تلك المجموعة عبارة عن خصوم ومنافسين يرغب الفرد بالتغلب عليهم من خلال اي ميزة او ممارسة , او على الاقل الظهور بمظهر المتفوق عليهم بشكل من الاشكال . واذا لم يتمكن من الظهور والتفوق عليهم فانه سيحاول بكل جهده وامكانياته على الاقل في منع الاخرين من التفوق عليه باي وسيلة ممكنة . لهذا نجد ان العراقي في حياته العامة يحاول ان يعرف كل صغيرة وكبيرة عن حياة المعية التي يعيش معها ويراقب ممارساتهم ويدرس خططهم لكي يختار النقاط والمفردات التي يتمكن من الظهور عليهم فيها . كما انه في نفس الوقت يحاول الحد من اي قدرة لدى الاخرين لمعرفة خصوصياته خشية ان تستغل اي نقطة فيها لمساعدة الخصم بالتفوق عليه , او على الاقل تمكنه من معرفة نقاط ضعفه . كل هذا يمكن ان يكون طبيعيا الى حد ما طالما ظل الامر بمستوى حب الظهور فقط , لكن الامر يمكن ان يصبح خطيرا اذا ما رافق هذه الحالة المرضية ايذاء الخصم والاضرار به بشكل او بأخر تنفيسا لغيرة او حسد او رغبة بالظهور , او لغرض الوصول الى نفس مكتسباته التي يتمتع بها . ان هذه الحالة يمكن ان تلمس بشكل حقيقي في مواقع العمل بالذات , اذ كثيرا ما يقوم البعض بالحفر وحياكة المؤامرات على رؤسائهم او زملائهم لاجل تسلق المناصب والصعود على حساب الغير , والتي تصل في بعض الاحيان الى حد ايقاع الاذى الفعلي بالمقابل . ولو سئلنا اي عراقي فيما اذا كان قد صادفه مثل هذه المواقف فاننا سنجد بجعبة الناس الكثير والكثير ليدلوا به . 
ولو عدنا الى موضوعنا الاصلي والذي هو الدوافع الشخصية التي ادت الى ما حصل في يوم 14 تموز 1958 لوجدنا بان دافع الغيرة والحسد وحب الظهور كانت موجودة في نفوس الضباط الذين كانوا يتأمرون على العهد الملكي الى درجة فاقت حتى الحدود المرضية . لقد ادعى هؤلاء بالكثير من التهم الباطلة على ذلك العهد وقادته كالعمالة للغرب والخضوع للاستعمار وهدر الثروات الوطنية والوقوف ضد مصالح الشعب وتدمير البلاد ووضع العراقيل امام تطورها وتقدمها وغير ذلك من الادعاءات . ولو اتينا الى فترة ما بعد التغيير الذي حدث في 14 تموز ولاحظنا ماقام به هؤلاء لما عثرنا على ممارسات حقيقية جاءت منهم لاثبات وطنية حقيقة , ولما وجدنا بالمقابل غير ممارسة مظاهر التمتع بالسلطة وكسب مزاياها والظهور والتفوق على الجميع . ان هذا يدلل على ان نفوس هؤلاء كانت ممتلئة بمشاعر الغيرة والحسد من الفئة الحاكمة بالعهد الملكي ورجاله والرغبة الجامحة بالوصول الى مواقعهم فحسب . وحتى بالنسبة الى ممارسات الناس وما قاموا به من اعمال فظيعة صبيحة ذلك اليوم المشؤوم والمجازر التي اندلعت فيه فانها هي الاخرى لم تعبر غير عن مشاعر الغيرة والحسد الذي تحول الى حقد في نفوس العامة تجاه هؤلاء الرجال الاشاوس الذين كانوا يتمتعون بمميزات تفوق حقيقية بالوطنية والاخلاص والعقل السديد والحكمة التي اوصلت البلد باقل من ثلاثة عقود الى مصاف الدول الاوربية .




 
5- النفاق والوصولية
النفاق والوصولية هي صفات بذيئة تعتبر من اسوأ الخصال الموجودة في النفس البشرية . ان هاتين العادتين موجودتين في كل الشعوب والقوميات , لكنهما موجودتان في نفسية الانسان العراقي بشكل ملحوظ وملفت للنظر , بل ان وجودهما بين العراقيين طاغي وظاهر في معظم تصرفاتهم . ويعرف النفاق بانه قيام الانسان بالاظهار بالعلن لما يخالف ما موجود داخل النفس . اما الوصولية فهي "حب الرفعة" التي تدفع صاحبها الى تكريس كل نشاطاته من اجل الوصول الى غاية او هدف مرسوم في ذهنه . والوصولية هي شكل من اشكال الأنانية في الميدان الذي تحصل فيه لانها عادة ما تكون على حساب الأخرين او تتقاطع مع المصلحة العامة . وغالبا ما تظهر الوصولية بشكل جلي بموضوع الرغبة بالترقي في المنصب أو الوظيفة او الموقع مما يجعل من يحملها على استعداد تام لسلوك جميع السبل من اجل وصوله لهدفه . وتختلف صفة النفاق عن صفة ازدواجية الشخصية في امر هام جدا حسب ما بينه العلامة الدكتور علي الوردي . فاذا كان الفرد يؤمن بأفكار اخلاقية عالية القيمة كالعدالة والصدق وحب الخير ويضطر لاسباب معينة الى مخالفة هذه الافكار سلوكياً وحياتياً ومعيشياً,  فعندها يوصف هذا الفرد بانه انسان ذو شخصية مزدوجة . اما حين يؤمن الفرد بالشر والظلم والشيطنة وكره الخير والحقد على الاخرين وحسدهم على ما هم فيه الا انه يتظاهر في سلوكه وتصرفاته بحب الخير وعمل الصالح والتظاهر بالتقوى , عندها يكون هذا الانسان منافق . ان النفاق والوصولية هما صفتان ذميمتان لا يبتلى بهما مجتمع الا وسار بطريق الهلاك المحتم ويمضي في طريق الخراب . ان نوعية البشر التي تحمل هاتين الصفتين لا يهمها سوى مصالحها الشخصيه لذلك فهم لا يترددون من القيام باي شيء في سبيلها حتى لو ادى ذلك الى تحطيم المجتمع برمته والقضاء على كل قيمه . ان ما وصل اليه المجتمع العراقي في وقتنا الراهن من خراب ودمار ما هو الا نتيجة لافعال المنافقين والوصوليين . فعلى مدى التاريخ ما كان هناك من حاكم حكم العراق , سواء ان كان واليا او خليفة او ملك او رئيس الا وكان محاطا بحاشية من المتزلفين والمتملقين . وقد ادى صعود مثل هؤلاء المتزلفين والمتملقين الذين غالبا ما يكونوا من الفاشلين والاغبياء والمرضى النفسيين الى مواقع المسؤولية وتسلطهم على اقدار البلد والناس الى جلب الكوارث والمصائب حتى وصل مجتمعنا الى الحالة التي هو فيها الان . فنتيجة لاعمال هؤلاء المتجردين من معاني الصدق والامانة والوطنية والذين لا يعيشون الا على اسلوب الظلال وتزييف الحقائق وتشويهها , لم يتبقى لدينا في يومنا هذا اي معلم حضاري متميز ولا منجز علمي كبير ولا تراث محفوظ ولا ارث ثقافي .وبقدر تعلق الامر بحركة 14 تموز والمجزرة التي جرت صبيحتها نستطيع ان نقول بان النفاق والوصولية كانتا بشكل ملموس وراء الكثير مما حدث . فالضباط الذين كانوا يتأمرون على العهد الملكي كانوا منافقين من الدرجة الاولى اذ كانوا يظهرون الولاء التام لذلك الحكم وقادته . ويحكى ان نوري السعيد طلب مقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم في احد الأيام قبل قيام حركة تموز وسأله (عبد الكريم , هل صحيح ما بلغني بانك تتأمر بالخفاء على الحكم وتخطط للقيام بانقلاب عسكري؟) فاجابه عبد الكريم (اقسم بالشرف العسكري بان لاصحة لما وصلك عني , فانا لايمكن ان اخونك يا باشا ابدا) . ان هذا يبين بوضوح مدى النفاق الذين اظهره هؤلاء والظهور بوجهين مختلفين . كما ان هؤلاء الضباط كانوا جميعا وصوليين من الطراز الاول وخير دليل على ذلك الصراعات التي اندلعت بينهم بعد اسابيع قليلة من قيام الحركة من اجل التفرد بالحكم والاستئثار بالسلطة . من ناحية اخرى فان قيام المجرم عبد الستار العبوسي باعدام العائلة المالكة بقرار فردي وشخصي منه يعبر بوضوح عن الوصولية التي كان يحملها بنفسه . ان ما دفع هذا الرجل ذو الرتبة الصغيرة الى القيام بما قام به في لحظتها جاء من امله بان يحصل على منصب رفيع ويحظى بمكافأة كبيرة من قادة الحركة في حين هو لم يكن حتى من الضباط الاحرار . اما الغوغاء من العامة الذين فعلوا ما فعلوا بجثث بعض رجال العهد الملكي صبيحة ذلك اليوم فهو مثال حي اخر على النفاق العام الذي يحمله العراقيين . لقد رأينا باعيننا كيف ان حشود الجماهير العراقية تخرج في كل مرة بتظاهرات مليونية لتحي قائد البلاد وتهتف بحياته , ثم ما تلبث نفسها بان تخرج بنفس الاعداد والحماس لتلعنه وتلعن عهده بعد سقوطه .  فلو صادف ان فشلت حركة 14 تموز لاي سبب من الاسباب وقتل قادتها اثناء تنفيذها فان من غير المستبعد ان تقوم نفس تلك الحشود الغوغائية بنفس الاعمال بجثثهم وتخرج عن بكرة ابيها مؤيدة للعهد الملكي وقادته . 


6- صناعة الرمز وعبادة الشخصية
العراقيون مولعون الى حد الهوس في صناعة الرموز القيادية ومن ثم عبادة الرمز الذي يصنعونه . وقد اثبتت الوقائع بأن العراقيين لا يمكن ان يعيشوا من دون رمز , بل انهم يتفننون في خلق الوسائل التي من شأنها ان تصنع الرموز . والرمز المعني هنا هو اختيار شخصية معينة تنسب اليها صفات او اعتبارات معينة بما يجعلها مؤهلة للقيادة او الزعامة . وتختلف الصفات او الاعتبارات المختارة حسب طبيعة الظرف المحيط وطبيعة الفئة التي تخلق الرمز . فقد تكون هذه صفات شخصية كالشجاعة والذكاء والحكمة والحنكة , او قد تكون قدسية كالتدين والمكانة الدينية , او معنوية كالأصل والزهد ... الخ . اما عبادة الشخصية فهي تأتي من المبالغة في اطلاق الصفات على شخصية الرمز والتمادي في مديحه والتملق المفرط له . وعادة ما يكون الرمز هو رأس الدولة , لكن في حالات معينة يمكن ان يكون غير ذلك , كأن يكون رئيس لحزب او زعيم لحركة او قائد لفئة من الناس . تبدأ عملية خلق الرمز اول ما تبدأ من خلال وصول شخص ما لموقع قيادي في الدولة , وبعد فترة قصيرة يبدأ هذا الشخص بتهيأة الظروف لكي يتفرد وحده بالسلطة المطلقة ليصبح بعدها الحاكم الاوحد للدولة.  ويجري خلق الرمزية لهذا الشخص من خلال قيام مجموعة من المتملقين والمنتفعين والانتهازيين الذي يجدون في هذه الشخصية القوية علائم تظهر أمكانية صعودها وتفردها بالسلطة فيبدأون بانساب صفات ألمعية عليها مما يساعد هذه الشخصية على المضي في اسلوبها التصفوي حتى تتمكن من الامر كله وتصل الى غاياتها . طبعا علينا ان لا نغفل بان هذا الرمز يجب ان يكون هو الاخر مؤهلا من الناحية النفسية لقبول التزلف والمديح , اي ان الشخصية الرمز نفسها يجب ان تكون مستعدة وراغبة لان تكون رمزا وقائدا أوحدا وتقبل بقناعة ما سيطلق عليها من صفات . اما عبادة الشخصية فهي تنطلق وتأخذ حيز التنفيذ بعد تفرد الشخصية المؤهلة لان تصبح رمزا بالحكم والقيادة ونيلها السلطة المطلقة حيث يبدأ نفس هؤلاء المتملقين والمنتفعين الذي احاطوا بها في البداية بتمجيدها وتعظيم الطريق الذي سلكته في نضالها واطلاق الصفات المبالغ فيها عليها حتى يصبح وجودها وكأنه حالة استثنائية وفلتة من فلتات الزمان . ومن مضار هذه الحالة ان كثرة اطلاق الصفات والتمادي فيها يؤدي عادة الى اصابة شخصية الحاكم الرمز بالغرور والاعجاب الكبير بنفسه وبقدراته بحيث يترسخ في داخله نوع من الأعتقاد بانه فعلا يتمتع بصفات غير طبيعية والا لما نجح في تحقيق غاياته وما وصل الى المكانة التي اصبح فيها . وطبعا بعد ترسخ هذه القناعة في داخل شخصية الرمز فانه سيتحول تدريجيا الى شخصية دكتاتورية بحيث يمسك بجميع خيوط السلطة بيده . ولا تكتمل الدكتاتورية من غير تسلط وبطش يقضي على جميع الخصوم والطامحين للوصول الى السلطة والبطش بعامة الناس بسبب او بدون سبب مما يؤدي الى خلق مهابة كبيرة للحاكم وخوف الجميع منه الى درجة الرعب مما يدفعهم الى التسبيح بحمده وتأليهه والخضوع والولاء له . 
وعلى مدى التاريخ المنصرم نلاحظ ان العراقيين لا يصلح معهم الا الحكم الذي يجري فيه خلق رمز مقدس وتجري فيه ممارسة طقوس عبادة الشخصية . بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 , نجد انه لم تحصل اي عملية خلق لرمز او ممارسة لعبادة الشخصية في العهد الملكي بالرغم ان ذلك الحكم كان يتمتع بأرضية صالحة في الاساس لخلق الرمز عن طريق تقديس الملك وعبادة شخصيته . فمع ثلاثة ملوك وأمير تتابعوا على حكم العراق خلال العهد الملكي لم يحدث قط ان يتحول اي منهم الى رمز قيادي , لكننا وجدناها تتكرر مرتان في العهود الجمهورية , وهي قابلة للتكرار باستمرار . ان ابتعاد ملوك العراق عن ممارسة الزعامة الروحية والمعنوية وصناعة رموز من انفسهم كان خطأ كبير , ليس لانه غير صحيح بل لانه لم يكن منسجما مع طبيعة الشعب العراقي الذي يحكمونه مما يدلل على انهم لم يكونوا يفهمون هذا الشعب ولا يعرفون كيف يتعاملون معه . كان هذا سببا لاستخفاف الناس بذلك الحكم وتكرر محاولات الانقلاب عليه , ومعارضته باستمرار بشتى الاشكال من بينها القيام بمظاهرات مناهضة للحكومة بين أونة واخرى لمعارضة سياساتها وقرارتها , بينما لم نجد مثل هذه الممارسات تجري بالعهود الجمهورية لان مثل تلك الحريات لم تكن متاحة للناس . فلو كان ملوك العراق قد فرضوا لانفسهم مكانة دينية كان يمكن أن يتقمصوها بحكم نسبهم العائلي , وفرضوا معها نوعا من التقديس على مواقعهم الملكية لكانت مكانتهم قد تغيرت بنظر العامة واصبح وجودهم مهابا يفرض عليهم الولاء والتبعية . ان عزوف هؤلاء عن هذا واتباعهم طريق الانظمة الليبرالية واتاحتهم لحريات كبيرة للناس جعلت من مكانتهم غير مهابة ومستخفة مما دفع الكثيرين للتأمر عليهم والاجهاز على ذلك الحكم , وهذا ما حصل في 14 تموز 1958 .


وسام الشالجي
8 كانون الثاني (يناير) 2015

هناك 4 تعليقات :

Unknown يقول...

الله يعطيك العافيه على هذا اابحث التاريخي الدقيق
ولكن يا اخي لدي بعض التصحيح

قلت ان الشعل العراقي بدا تمرده على الحكام بعد دخوله في الدولة الإسلامية
والصحيح وحسب ما ذكره المؤرخين فان التمرد في شخصية الشعب العرافي متاصل منذ امد التاريخ والدليل ان اغلب شعوب الارض حكمها ملوك لقرون طويله دون ثورات اوتغيرات كما هو لدى الفراعنه في مصر والساسانيه في فارس والروم والاغريق والهنود والصينيين والانكا وغيرهم اما في العراق فكلما ظهرت حظارة لم تكد لتستفر إلا وثارت عليها مجموعة من شعوب العراق فظهرت السومريه والاكاديه والبابليه والاشوريه وغيرها وهذا دليل على حب التورات والتعيير لدى العراقيين

غير معرف يقول...

العراق منطقة احتكاك اعراق وديانات ومناطق جغرافيةة، عرب وفرس وكرد وترك، اسلام ومجوسية ومسيحية ويهودية والتقاء الصحراء بالخضرة والجبال والنهر، هي منطقة احتكاك لذلك هي منطقة ملتهبة لايجوز مقارنتها بالمناطق الاخرى المستقرة نسبياً.

غير معرف يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكراً للتفاصيل حول حادثة مهمة في تاريخ العراق.
أنا من متابعي هذا الموضوع وما يكتب بخصوص التفاصيل، وهنا من الأشياء التي تكررت أن العراقيين من سكنة المنطقة وجيران اليهود عندما تم الهجوم على اليهود قد هبوا لنصرة إخوانهم وأصدقائهم وجيرانهم اليهود ووقفوا في وجه الغوغاء آنذاك وحفظوا اليهود في منطقتهم.

وهناك النقطة أخرى هي وصف ما حدث لليهود من أعمال إجرامية وأخلاقية حسب وصفكم، لم أقرأ مثل وصفكم وقد يكون هناك مبالغ فيه.

أما أعداد اليهود الذين قتلوا فإن الحكومة العراقية أو الشرطة العراقية أعطت أرقام أقل بكثير مما ذكر في مقالكم ولا أعرف صراحة أي الأرقام صحيحة.

غير معرف يقول...

بصراحة ..القي اللوم شخصيا على الشخصية السنية التي حكمت و كان المتفاعل مع الحدث سنيا لانه هو الحاكم ،اما الشيعي فكان مهمشا و مسالما ، و الدليل ان الذين قتلوا الوصي و نكلوا بجثته و بنوري السعيد و اليهود بهذه الوحشية هم سنة بغداد ،كما ان عنف و تطؤف اهل الموصل الطائفي معروف و متأصل ، و مجزرة اليهود في بغداد تشبه الى ححد ما مجزرة مسيحيي دمشق و الفاعل واكد و السبب واحد ،هم السنة و الاتهام بالخيانة ..لل ننسى مجزرة الامام الحسين و اهله ،نفس الشناعة ،برأيي ان المنهج السني سبب الانحراف و العنف فيه بسبب تأسيسه على يد بني امية الجاهليين العتاة الذين استتروا بالاسلام و نافقوا فيه ،و حتى اغلب الفتوحات التي تعزى لهم انما كان غايتها الاولى نهب و اغتصاب الامنين و ليس لنشر الاسلام ،ولاتهم ارغموا على تقبل دخول الذميين الفقراء في الاسلام لان ليس معم جزية ،هذه هي الحقيقة !