بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 وحرب تشرين (أكتوبر) 1973 أدرك الرئيس المصري أنور السادات بأن من العسير عليه أن يحقق أي شيء في حرب أخرى طالما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء إسرائيل وتسندها بكل شيء. لذلك لم يجد الرئيس المصري أمامه ما يضمن مصالح بلده ويحقق الأمن لشعبه ويعيد الأراضي التي فقدها بتلك الحروب الخاسرة غير أن يطرق سبيل السلام، وأن يكون شجاعا بما يكفي لكي يمضي بهذا المضمار رغم كل الصعوبات. وبعد مساعي حثيثة ومتواصلة لم تفضي عن شيء قام السادات بزيارته الشهيرة لإسرائيل يوم 19 تشرين ثاني (نوفمبر) 1977 آملا بأن يصل فيها لما يريده ويبتغيه. كان من التطورات المباشرة لتلك الرحلة هو فتح الباب على مصراعيه لتحقيق السلام لمصر وجميع البلدان العربية فتابع جهود السلام التي بدأها بتلك الخطوة بالدعوة لعقد مؤتمر تحضيري للسلام بالقاهرة. وقفت الأمم المتحدة بقوة مع مساعي الرئيس المصري فأعلن يوم 26 تشرين ثاني (نوفمبر) 1977 في مجلس الأمن الدولي عن دعمهم لعقد هذا المؤتمر في القاهرة تحت إشراف الأمم المتحدة، ووجهت الدعوة لحضوره لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وإسرائيل والأردن وسوريا ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، علي أن يعقد المؤتمر في القاهرة يوم الرابع عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1977. قاطع الاتحاد السوفيتي هذا المؤتمر وتبعته كل من سوريا والأردن ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، في حين حرصت مصر بشدة علي تهيئة كل الأجواء لانعقاده. وعلى الرغم من هذه المقاطعة فقد انعقد المؤتمر ولم تحضره سوى مصر وإسرائيل، تواصلت بعدها خطوات مصر لتحقيق السلام إلى أن توجتها بعقد معاهدة كامب ديفيد في يوم 26 آذار (مارس) عام 1979 والتي أنهت حالة الحرب بين البلدين وأعادت سيناء لمصر بالكامل. وبعد مرور قرابة ربع قرن اقتنع الفلسطينيون أخيرا بأن مسيرة السلام هي الوحيدة التي يمكن أن تضمن لهم الحصول على دولة خاصة بهم فعقدوا اتفاقية أوسلو التي ضمنت لهم حكما ذاتيا أولا يتطور تدريجيا لمنحهم حق إقامة دولتهم المستقلة. أعقب ذلك بعدة اعوام عقد قمة جديدة في كامب ديفيد بالفترة من 11 إلى 25 تموز (يوليو) عام 2000 بين رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات هذه المرة ورئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود باراك بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلنتون. كانت هذه القمة تهدف لإقامة دولة فلسطينية وإنهاء حالة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني إلى الأبد وعقد صلح كامل مع إسرائيل تعترف بموجبه إسرائيل بحق الفلسطينيين بالحصول على دولة مستقلة. وبعد أسبوعين من المباحثات والمناقشات انتهت هذه القمة دون تحقيق أي اتفاق بسبب تعنت ياسر عرفات وإصراره على أن تعيد إسرائيل له مدينة القدس بالكامل وتعترف بها عاصمة للدولة الفلسطينية القادمة، فأجهض بذلك كل الآمال بإيجاد دولة فلسطينية عن طريق السلام.
لو تمعنا بتلك الأحداث ونظرنا كمْ خسر العرب عامة والفلسطينيون خاصة من خسارات فادحة, سواء بالحروب التي خاضوها أو بمسيرة السلام التي تجاهلوها من دون أن يحققوا أي شيء بالمقابل. لا يرجع السبب بهذه الخسارات والفشل المستمر إلى غير أخطاء وحماقات وتصرفات غبية, ونظرات ضيقة لزعماء فاشلين لا يهمهم غير مصالحهم الشخصية دون أن يراعوا مصالح شعوبهم وبلدانهم, بل ساروا فقط وراء رغباتهم بأن يصبحوا أبطالا برأس شعوبهم المكبلة وهم فارغون تماما من كل ما يمت للبطولة من صلة. كان يمكن بسهولة أن تكون للفلسطينيين دولة ذات سيادة كاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة قبل نصف قرن لو حضرت منظمة التحرير الفلسطينية مؤتمر السلام الذي دعا له السادات بالقاهرة عام 1977 ولم تتعنت بموقف رافض بحينها. وكان يمكن مرة أخرى أن يحصل الفلسطينيون على دولة فلسطينية قبل ربع قرن حتى وإن كانت بدون القدس لو وافق ياسر عرفات على ما عرض عليه بكامب ديفيد عام 2000 ولم يعد نفس الخطأ مرة ثانية. كان يستطيع أن يقبل بالدولة الفلسطينية المعروضة عليه حتى وإن كانت من دون القدس ثم يستمر بالمساعي السياسية بعدها لإعادة هذه المدينة مثلما سعت مصر لإعادة (طابا) بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل ونجحت بذلك عن طريق محكمة العدل الدولية. بل كان يمكن أن تكون للفلسطينيين دولة بضمنها القدس قبل حوالي ستين عاما لو أحسن الزعماء العرب التصرف بحينها ولم يسعوا لحرب عام 1967 الكارثية التي ضيعت كل شيء. ألم تكن الضفة الغربية بيد الأردن قبل تلك الحرب؟ وألم تكن غزة بيد مصر قبلها أيضا؟ فلماذا لم تقام بحينها دولة فلسطينية استنادا إلى قرارات الأمم المتحدة التي كانت تجيز ذلك؟ ألم يكن كل هذا أفضل مليون مرة من النصر الذي يقال بأنه تحقق اليوم ولم يجن الفلسطينيون منه على أكثر من وقف هش لإطلاق النار مع مدينة مدمرة وخربة غير صالحة للعيش أو الحياة في غزة وشعب جائع مشرد ومريض من دون حتى سقف يحميه, علاوة على ضفة غربية ممزقة ومقطعة الأجزاء والأوصال لا تتمتع بمقومات دولة مهما خدعنا أنفسنا وتصورنا غير ذلك. هذا ليس حال الفلسطينيون فقط بل هو كان وسيظل حال كل العرب على الدوام، يملكون الشيء ولا يحسنون التصرف به ثم يضيعونه ليأتوا بعدها يطالبون به فلا يحصلون على أكثر من بعضه أو فتات منه بأحسن الأحوال ليعلن بعدها زعمائهم وقادتهم عن تحقيقهم للانتصار والفوز العظيم ببطولات وهمية غير موجودة إلا بمخيلتهم, والويل كل الويل لمن يقول خلاف ذلك. ليس هناك أبدا من من أمل بتغير هذا الحال طالما ظل من يصل للحكم هو من الذين لا يحسنون التصرف, ومن الذين لا تهمهم مصالح بلدانهم وشعوبهم بشيء بقدر ما تهمهم مصالحهم الشخصية ومجدهم, ولنا بالقادم من الأيام ما سيثبت ذلك أكثر وأكثر.
الدكتور وسام الشالجي