اخر المواضيع في المدونة

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

خواطر بالأسود والأبيض - ماالذي أبقاه لي الزمن في الوطن لأحن له وأتوق إليه

تعتز كل دول العالم بماضيها وتراثها وتتفاخر بمعالمها الاثرية , خصوصا التاريخية منها وتحاول جهد الإمكان الحفاظ عليها وصيانتها والإبقاء عليها بنفس صورتها الاصلية مهما كانت قديمة ومتداعية . لا يختص الأمر فقط بما له علاقة بالتاريخ بل قد يمتد إلى كل شيء قديم بما في ذلك التسميات والمعالم العامة . وحين يقتضي الأمر تحديث بعض جوانب المدن في مثل هذه الدول يتم عادة الحفاظ على الأماكن العامة ذات الصفة التراثية من دون إجراء اي تغيير جوهري عليها أو على ما حواليها وتخطيط أجراءات التحديث بحيث لا تمسها باي شكل من الاشكال . وأود هنا أن اروي حكاية مرت بي تتعلق بهذا الأمر . في عام 1984 كنت أدرس في أنكلترة وقد زارني بوقتها المرحوم الوالد وقد خرجت معه في أحد الأيام بجولة في بعض مناطق لندن . وكان الوالد قد عاش في بعض مناطق لندن في بداية عقد الخمسينات حين كان ملتحقا بأحدى الدورات العسكرية التي عقدت هناك , وقد طلب مني أن أخذه إلى نفس تلك المناطق . وما إن وصلنا إلى هناك حتى لاحظت بأن الشجون قد ثارت في نفسه بشدة وتقاطرت الذكريات على خاطره , خصوصا حين وجد تلك المناطق لا زالت على حالها تقريبا من دون حصول أي تغير كبير فيها . توقف أمام نفس البناية التي كانت شقته فيها وتذكر ايامه التي عاشها هناك والتي كان قد مر عليها اكثر من ثلاثين عاما وهي لازالت على حالها كما تركها , وحتى الشارع الذي كانت تقع فيه لم يحصل به اي تبدل جوهري . استمرينا بجولتنا تلك حيث مررنا بجانب نفس البنك الذي كانت تأتي تحويلاته المالية إليه ومررنا بنفس المحلات التي كان يتبضع منها ونفس مكتب البريد الذي كان يرسل منه رسائله , وتوقفنا عند نفس منطقة الباص التي كان يستقل حافلة لندن الشهيرة منها , حتى أنه وجد أرقام الباصات التي كان يركبها لازالت هي هي من دون أي تغيير . كانت جولة جميلة تركت نشوة كبيرة في نفس المرحوم وأنعشت ذكرياته التي كان يحملها عن فترة جميلة عاشها في مدينة الضباب . تركت تلك الواقعة أثرا كبيرا في نفسي وأدركت كم أن الذكريات هي أمور عزيزة على المرء لأنها تشكل جزء من حياته وماضيه . كما عرفت من تلك الجولة أيضا كم إن الإنكليز شعب محافظ يتمسك بتراثه وتاريخه ويحاول دائما الإبقاء على ماضيه كما هو من دون تغيير , وحتى حين يستدعي الأمر إقامة بناء جديد وإجراء تطوير وتحديث ما فهم يعملونه من دون المساس بطابع المدينة العام . ومن الأدلة على ذلك هو أني حين كنت أمر على سبيل المثال في شارع أوكسفورد واقرأ تاريخ بناء الأبنية الموجودة فيه أجد بأن أكثرها يعود لأكثر من مئة سنة لكن ما أن أدخل إلى إحداها حتى أجد منتهى الحداثة والتطور بداخلها , وكانوا بهذا يحافظون على شكل الشارع من الخارج كما كان بالماضي وبنفس الوقت يجعلون أبنيته من الداخل مواكبة للعصر وتساير التطور الحاصل .



مرت السنون وكبرت بالعمر ووصلت إلى مراحل أصبحت فيها احن إلى الماضي بنفس اللهفة التي لمستها عند الوالد اثناء جولتي معه , وصرت أتمنى زيارة الاماكن التي شهدت طفولتي ومراهقتي وشبابي . وقعت تجربتي الأولى بهذا المضمار في أواسط التسعينات حين قررت زيارة مدينة البصرة التي هي مرتع طفولتي وفيها عشت جانب من مراهقتي , وكان قد مر على مفارقتي لها أكثر من ثلاثين عاما . قررت أن اسافر إلى البصرة بوقتها بالقطار , تماما كما كنت أفعل حين كنت بطفولتي أتردد بين البصرة وبغداد محاولا تذكر تلك الرحلات الجميلة حيث غرف النوم المكيفة الفاخرة ذات الافرشة الوثيرة والتيتي الذي يقوم بخدمة الركاب ويجلب الطعام لهم حسب الطلب إلى الغرفة وصوت القطار الذي تثير ضربات دواليبه المتعة بالنفس . كان أول مكان إفتقدته بالسفرة الجديدة هو محطة غربي بغداد التي كانت قد ازيلت من زمان مع زوال الخط المتري أواخر الستينات , فقد سافرت هذه المرة من محطة قطار الكاظمية مستقلا القطار النازل من الموصل والمتوجه إلى البصرة والذي كان يسمى بحينها بـ "قطار التحدي". قضيت ليلة السفر بالقطار الذي لم يكن ابدا كقطارات الماضي فقد كان مظلما وبائسا لا تيتي فيه ولا خدمة ولا طعام وتطوف فيه ذهابا وإيابا فرق الحرس المدججة بالسلاح لتزيل من نفوس الركاب اي شعور بمتعة الرحلة . نزلت بالبصرة وبقيت فيها لحوالي إسبوع ووضعت لنفسي برنامج نويت فيه زيارة كل الاماكن التي اعرفها ولي ذكريات فيها . ما إن بدأت يومي الأول أتجول في تلك المدينة حتى صعقني ما رايته فيها حيث وجدت كل شيء بها قد تغير , فلا الشوارع هي نفس الشوارع ولا الابنية هي نفس الابنية ولا الأزقة هي نفس الأزقة . وجدت نفسي غريبا أطوف في مدينة لا اعرفها وأمر في مناطق لم اعش بها , وكم كنت أبحث جاهدا في بعض الاحيان عن معلم معين أتذكره لكي أراه مرة اخرى , أو بيت عشت فيه لكي أكحل عيني بمنظره ثانية فلا أجد هذا ولا أعثر على ذاك . ومع ذلك فقد حظيت بوقتها برؤية مواقع كانت لا زالت ولله الحمد على حالها كالمدارس التي درست بها وبعض المواقع العامة كسوق المغايز (الهنود) وسوق حنا الشيخ , اما ما عداها فقد ذهب أغلبها مع ذهاب الماضي إلى لا رجعة . أقنعت نفسي بوقتها بأن هذا طبيعي وهو ضريبة التطور والتوسع الذي حصل بالمدينة , وانني يجب أن أتقبل الأمر فالبصرة هي ليست لندن وإن تأخرها بالسابق يستدعي هدم الكثير من أماكنها وإحداث ثورة معمارية فيها أتت حتما على معظم الأماكن التي أحمل ذكريات فيها . عدت بعد إنقضاء الإسبوع البائس الذي قصيته هناك إلى بغداد وأنا لا أحمل أي رغبة في زيارة البصرة مرة أخرى بعد أن زال منها معظم ما أعرفه وأحمل ذكريات جميلة عنه .      



وتمر سنون أخرى وقعت الكثير من الأحداث خلالها وتبدلت معظم الأحوال في البلاد وإمتدت رياح التغيير لتشمل أماكن عشت فيها بمدينة بغداد نفسها التي أسكنها , وكم كان الحزن الشديد يأخذني والألم يعتصرني حين أرى أماكن لي ذكريات جميلة فيها تزول من الوجود أو تتغير إلى أشكال أخرى . كان أكثر مكان حزنت عليه بعد زواله هو ابنية كلية العلوم بالأعظمية التي شهدت دراستي الجامعية وتعرفت فيها على معظم اصحاب العمر ولم يتبقى منها سوى أطلال تغيرت معالمها ومسحت منها كل ذكرى يحملها من عاش بها في الماضي . السينمات التي كنت ارتادها بكثرة اقفلت ابوابها وجرى هدم بعضها كما حصل لسينما الأعظمية العريقة التي رأيت فيها عشرات الأفلام التي لا تزال عالقة بذاكرتي . محلات شهيرة كنت أرتادها بالماضي غابت عن الوجود كأورزدي باك شارع الرشيد وكافتيريته الجميلة المطلة على النهر والقهوة البرازيلية وكافيه بغداد ومطعم ابو يونان الشهير ولم يتبقى منها حتى أثر بسيط . نوادي وأماكن سهرة كثيرة كنت أرتادها مع أصدقائي أيام الشباب مثل نادي المنصور وماركيز ورومانس وعشرات الأماكن الأخرى إندثرت وإختفت من خريطة بغداد . ساحة التحرير الجميلة التي كانت موضعا لأخذ الصور التذكارية تحولت إلى سوق جديد للهرج وبيع اللنكات ومكان للتقفيص والنصب والإحتيال . سوق الصفافير العريق البديع أخذ شيئا فشيئا يفقد طابعه وراح الصفارون يغلقون ابواب محلاتهم فيه ويهجرونه خلال سنوات الحصار وتوقف مجيء السواح وغياب معظم رواده القدامى وتحول تدريجيا الى سوق للقماش ليس فيه اي تراث أو جمالية . سوق الهرج بالميدان حيث كانت تباع العنتيكات والأجهزة الصوتية والأسطونات القديمة تحول مع الوقت إلى سوق خرب وبائس ليس فيه سوى بسطيات تباع بها مواد تافهة . المكان الوحيد الذي كنت ارى فيه شيء من الماضي وأشعر بالمتعة عند زيارتي له كل أسبوع وأجده محافظا على هيئته ووضعه كما كان سابقا هو شارع المتنبي وسوق السراي . ومما حزنت عليه بشدة بالغة هو الحريق الذي اصاب مكتبة المثنى العريقة عام 1999 والتي كانت تمثل جزء حي من ذكريات طفولتي حين كنت ارتادها بصغري لشراء كتب وقصص الأطفال , وبالذات مجلدات مجلتي الحبيبة "سندباد" . ومع ذلك بقيت مواظبا على زيارة شارع المتنبي كل جمعة , وكم كنت أحزن في تلك الزيارات حين كنت ارى شارع الرشيد الذي هو قلب بغداد النابض والذي عشنا فيه أجمل ايامنا يتهدم ويتداعى بعد أن جرى عن عمد إهماله وتخريبه بعد عام 2003 وتحويله إلى شارع لايمت لماضيه بصلة . لم يرضى القدر بما تبقى لي من أماكن أحمل بعض الذكريات فيها فأتى أخيرا على واحد من أهمها حين طالت يد الأرهاب بتفجيرها الإجرامي عام 2007 شارع المتنبي فاحرقت كل المكتبات الشهيرة فيه , ومن يومها توقفت زياراتي له ألى الأبد .  



في أواسط عام 2007 غادرت العراق كما فعل مئات الألاف من الناس بعد الخراب الذي حل به والخطر الجسيم الذي صار يتهددنا فيه وإستقريت في ديار الغربة وصار عندي وطن جديد ومحيط جديد وبيت جديد وأماكن عمل جديدة , وحتى اصحاب ومعارف جدد . نعم , تكون لي في الغربة عالم ثاني جديد بكل شيء فيه لا يمت باي صلة لعالمي السابق , لكنه ظل للأسف عالم فاقد الطعم والحلاوة رغم كل الميزات الجيدة التي يحملها . كان السبب بهذا هو العمر المتقدم الذي وقعت الهجرة فيه فقد ظل القلب يهفوا إلى الايام الخوالي التي شهدت ايام العمر الاولى . ومع مضي السنوات بديار المهجر كنت أراقب كل ما يجري بالوطن وارى عن كثب معاول الهدم تستمر بعملها لتطال كل ما ظل محافظا على هيئته وصورته السابقة وتقضي على كل ما يصاحبها من ذكريات . فقد زال البيت الذي قصيت فيه عمر المراهقة والشباب من الوجود وحلت محله عمارة جديدة . وإختفى بيت الزواج والاسرة والمكان الذي ولد به أولادي وشهدوا طفولتهم فيه ومسح من الصورة , وتبدل حتى شكل الشارع الذي كان فيه . وإختفى شارع المتنبي القديم وحل محله شارع جديد حديث أكاد لا أعرفه لاني لم أره من قبل . وحتى الأماكن التي لا زلت اعرفها كنادي العلوية ونادي الصيد فقد تغيرت معالمها كثيرا وتبدل روادها كما كنت ألاحظ من الصور . ليس هذا فقط , بل حتى الأماكن التي عملت بها طول عمري كمعهد النفط ووزارة النفط وفندق القناة حيث مقر الأمم المتحدة فقد تغيرت معالمها هي الأخرى وتبدل بشرها واصبحت لا أعرف أحدا فيها , وغير هذا الكثير والكثير .



وهكذا أتى الزمن على كل حياتي السابقة التي عشتها بعراقي الحبيب , وأزال من الوجود كل مواطن الذكريات الجميلة وعبث بكل الصور المطبوعة بالمخيلة وسحق كل الجماليات التي ظللت دائما أتمنى الرجعة إليها . تذكرت وانا أكتب هذه الخاطرة الكلمات التي ترنم بها كاظم الساهر حين قال

نفيت وإستوطن الاغراب في بلدي .... ودمروا كل اشيائي الحبيبات

ووجدت نفسي بذات الحال أتسائل وأقول :

مالذي أبقاه لي الزمن في الوطن لأحن له وأتوق إليه



وسام الشالجي

18 كانون الثاني 2019