يجب أن يكون معلوما لدينا بأن مدينة بغداد
قد بنيت بنوايا حضرية بالرغم من كون من بناها هو الخليفة العباسي أبو جعفر
المنصور الذي هو حسب الدين ظل الله على أرضه وحامي حمى الأسلام الذي هو
ولي أمره . لقد أراد المنصور بخروجه من الكوفة الى بغداد ان يغير من وجه
وهوية النظام الجديد الذي حل ببقاع الدولة الأسلامية ويحوله من نظام ديني
إلى نظام حضري شبه علماني , لكنه نسي بأنه وصل إلى الحكم بالأساس بناء على
معطيات دينية قبل أن تكون معطيات سياسية بحتة , وإن هذا الأمر سيلاحقه
ويلاحق مدينته الجديدة شاء أم أبى . وبالفعل صارت بغداد في قرنها الأول
مدينة حضرية من الطراز الأول سادها العمران وإنتشرت بها المدارس والجامعات
وشاع بها الفن والأدب علاوة على العلم حتى اصبحت بعالم ذلك الزمان كما هي
لندن وباريس بعالم اليوم . غير إن حركة دؤوبة مضادة كانت تجري في عالم هذه
المدينة الخفي بنفس الفترة جردتها بالنهاية من حضريتها وأعادتها إلى نفس
طبيعة المدن الدينية الأخرى بالدولة . كانت عاصمة الدولة الإسلامية قبل
بغداد هي الكوفة , وهي مدينة دينية منذ تأسيسها ومن ثم إتخاذها عاصمة من
قبل الإمام علي إبن أبي طالب لدولته , وهي لا تزال مدينة دينية إلى يومنا
هذا . ولكي نفهم دواعي هذا الإنتقال علينا أن نعود قليلا إلى الوراء ونعترف
بأن الإمام علي بن أبي طالب ظل يسعى للوصول إلى السلطة منذ وفاة النبي
محمد , وحين تولى الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان كانت خطوته الأولى بإتجاه
تعزيز السلطة التي نالها هي في الخروج من المدينة المنورة ومكة المكرمة
اللتان تعجان بالمعارضين لتوليه الخلافة والإنتقال إلى الكوفة حيث يكثر
مؤيديه ومن أرادوه خليفة , فصارت تلك المدينة بذلك قلعة لشيعة الأمام علي ,
وظلت كذلك على مر الزمان . ويجب أن ندرك أيضا بأن العباسيين ركبوا الموجة
الطائفية للوصول إلى الحكم حيث كانت شعاراتهم عند محاربتهم للدولة الأموية
السنية تحمل طابع نصرة أل البيت وإعادة دفة الحكم لأيديهم لذلك فقد حظوا
بتأييد ساحق من الطائفة الشيعية لمساعيهم بالبداية . وعليه فقد كان إتخاذهم
للكوفة عاصمة لدولتهم يتوافق مع ما إدعوه , لكنهم لم يلبثوا وأن أفصحوا عن
هويتهم الحقيقية بعد سنوات قليلة من وصولهم للحكم وظهر جليا بأنهم ليسوا
غير طلاب سلطة ولا علاقة لهم بالشيعة وحركتها مطلقا , بل لا علاقة لهم حتى
بالدين . لذلك فقد حاول المنصور الخروج من خيمة الدين ونفض عباءة أل البيت
والنأي بنفسه بعيدا عن التدين والطائفية فبنى بغداد وإتخذها عاصمة لدولته
بعيدا عن الكوفة ذات الصبغة الدينية والشيعية . غير أن أئمة الشيعة الساعين
للوصول إلى الحكم لم يتركوا الأمور تمضي وفق ما أراده الخليفة وظلوا دائما
يطرقون أبواب الحاكم لإثبات وجودهم فوجدناهم يتبعون الخليفة العباسي أينما
ذهب فجاءوا إلى بغداد حيث مقر الخلافة , وذهبوا بعدها إلى سامراء وصار لهم
اضرحة في كلا هاتين المدينتين . لم يكن أمام الخلفاء العباسيين اللاحقين
في التصدي للأئمة الشيعة الذين يلاحقونهم سعيا وراء الوصول إلى السلطة غير
ركوب الموجة السنية وشحنها كفعل مضاد للحركة الشيعية فتبلورت بذلك
الطائفية وظلت تنموا وتترعرع على مدى قرون حكم الدولة العباسية . ولأن كفاح
الحركة الشيعية ونضالها للوصول إلى السلطة كان يتخذ شكل الحرب الباردة ولم
يتخذ من العنف وسيلة , لذلك لم يحصل صدام طائفي مطلقا في مدينة بغداد ولا
في أي مكان أخر بالدولة الإسلامية بالرغم من أن بذروه كانت موجودة بالأرض .
وكنتيجة لهذا صارت بغداد مدينة مشتركة يعيش فيها السنة والشيعة جنبا إلى
جنب يرعون مذاهبهم وينظرون لعقائدهم التي أخذت تنمو وتزدهر وتتشعب , لكن لم
يفكر أي منهما بالهيمنة على المدينة وفرض هويته عليها . ووفق نفس المبدأ
سكن اليهود والنصارى بغداد أيضا وظلوا يمارسون شعائرهم وعباداتهم في ظل
الدولة من دون أي تضيق أو محاربة , لذلك سميت بغداد بدار السلام كتعبيرعن
الوئام والتأخي الموجود بين أقوامها وأديانها وطوائفها .
غير إن الأمر إختلف في القرن العشرين , ويبدوا بأن ما فشلت بتحقيقه امبراطوريات دينية متتالية وأحتلالات متكررة على مدى قرون في تغيير طبيعة مدينة بغداد أو التأثير على هوية سكانها على وشك أن تفلح به أنظمة محلية حديثة يفترض بأنها أنظمة وطنية جاءت من خضم معاناة الناس . لقد تمثل هذا الإختلاف في عدد من الأفعال وقعت خلال المئة سنة الأخيرة أدت إلى تغيير الطبيعة الديموغرافية لسكان هذه المدينة . الفعل الاول بهذا المجال كان في تهجير اليهود من سكان بغداد اواخر الاربعينات واوائل الخمسينات . لقد فقدت بغداد بهذه الهجرة 20% من سكانها الذين عاشوا بربوعها لقرون طويلة وتركوا بصماتهم عليها . الفعل التالي كان في قيام الزعيم عبد الكريم قاسم بتهجير 120 الف من فلاحي مدينة العمارة وإسكانهم في ضواحي بغداد . لم يتوقف الأمر عند هذا الفعل بل تلته نزوحات أخرى كان السبب فيها إنعدام الخدمات بالريف والمدن الصغرى وقلة فرص العمل مما جعل المزيد من السكان الجنوبيين يتوجهون للعاصمة حيث تتوفر الخدمات وفرص متنوعة للعمل . لقد كان لهؤلاء النازحين وتكاثرهم المنفلت اثرا كبيرا في تغيير طبيعة مدينة بغداد حيث زاد عددهم حتى بلغ بعد نصف قرن حوالي أربعة ملايين نسمة شكلوا 60 إلى 70% من عدد سكان بغداد حاليا . والفعل الأخر الذي وقع لمدينة بغداد هو بالهجرة المنظمة لسكانها المسيحيين إلى دول الغرب منذ ستينات القرن الماضي بسبب شعورهم بإضمحلال هويتهم وإنزواء ممارساتهم الدينية نتيجة لتعاظم أعداد النازحين الطارئين على مدينة بغداد من الذين يحملون عقائد دينية مخالفة ذات طبيعة مهيمنة , الأمر الذي جعلهم يشعرون بأنهم ليسوا بالمكان المناسب وإن وجودهم ومستقبلهم بخطر . الفعل الأخير والأكثر خطورة وقع بعد عام 2003 وكان بممارسة التطهير الطائفي والديني والعرقي , وبالذات أثناء الحرب الأهلية بالسنوات 2006 – 2008 . كان من نتائج هذا الفعل هجرة مئات الألوف من العراقيين هربا من أعمال القتل والخطف التي شاعت بالبلاد . كان أكثر المهاجرين هم من العرب السنة والمسيحيين وبعض الشيعة الذين لم يرق لهم ما أل اليه حال البلاد , وقد وقعت معظم تلك الهجرة من مدينة بغداد مع نسب أقل من بعض المدن العراقية الأخرى . أخذ هذا التطهير شكلا معلنا في سنوات الحرب الأهلية , لكنه ظل يمارس بالخفاء حتى بعد إنتهائها ولا زال مستمرا حتى اليوم , ولم تبقى دولة بالعالم لا يوجد فيها اليوم عدد من اللاجئين العراقيين . فقدت مدينة بغداد نسبة كبيرة من سكانها الأصليين بعد هذه الهجرة التي كان الكثير منهم يتوقع عودتهم إليها بعد أشهر أو حتى سنين قليلة , لكن ها قد أخذت تمضي عقود ولم تحصل هذه العودة مما يؤشر نهاية مثل هذه الأحلام , خصوصا بعد أن عاش أولادهم وولد بعض أخر منهم في بلدان ومجتمعات مختلفة .
بناء على ما تقدم فأنا أرى شخصيا بان ما حافظت عليه مدينة بغداد طوال 1200 سنة من عمرها قد فقدته خلال المئة سنة الأخيرة , وإنها لن تعود إلى طبيعتها السابقة مطلقا . أن مستقبل مدينة بغداد بنظري هو أن تستمر بوتيرة التغير التي أصابتها وستصبح بالنهاية كأي مدينة جنوبية أخرى بالعراق , لكنها ستكون مدينة مكتظة تعوزها الخدمات الحضارية الصحيحة وتسودها العشوائيات , وليس من المستبعد بأن تتحول بسبب هذا الإكتظاظ وضعف الحكومات والقوانين إلى مدينة تسودها المافيات وتعشعش في ربوعها الجريمة مما سيجعلها من أخطر مدن العالم معيشة . هناك عاملا قويا ساعد بالوصول إلى هذه النتيجة يكمن بأنه لم يحكم بغداد واحدا من سكانها طوال الألف سنة الماضية بإستثناء حيدر العبادي مما يحعل الحاكم لا يهتم أبدا بما يصيب هذه المدينة . أعتذر عن هذه النظرة التي فيها بعض السوداوية لكن هذا ما تشير إليه تكهناتي , وأدعوا الله بأن أكون مخطئا وأن تعود بغداد إلى ما عرفناها وعهدناها بصغرنا وشبابنا , والله على كل شيء قدير .
د. وسام الشالجي
14 تشرين الثاني 2019
غير إن الأمر إختلف في القرن العشرين , ويبدوا بأن ما فشلت بتحقيقه امبراطوريات دينية متتالية وأحتلالات متكررة على مدى قرون في تغيير طبيعة مدينة بغداد أو التأثير على هوية سكانها على وشك أن تفلح به أنظمة محلية حديثة يفترض بأنها أنظمة وطنية جاءت من خضم معاناة الناس . لقد تمثل هذا الإختلاف في عدد من الأفعال وقعت خلال المئة سنة الأخيرة أدت إلى تغيير الطبيعة الديموغرافية لسكان هذه المدينة . الفعل الاول بهذا المجال كان في تهجير اليهود من سكان بغداد اواخر الاربعينات واوائل الخمسينات . لقد فقدت بغداد بهذه الهجرة 20% من سكانها الذين عاشوا بربوعها لقرون طويلة وتركوا بصماتهم عليها . الفعل التالي كان في قيام الزعيم عبد الكريم قاسم بتهجير 120 الف من فلاحي مدينة العمارة وإسكانهم في ضواحي بغداد . لم يتوقف الأمر عند هذا الفعل بل تلته نزوحات أخرى كان السبب فيها إنعدام الخدمات بالريف والمدن الصغرى وقلة فرص العمل مما جعل المزيد من السكان الجنوبيين يتوجهون للعاصمة حيث تتوفر الخدمات وفرص متنوعة للعمل . لقد كان لهؤلاء النازحين وتكاثرهم المنفلت اثرا كبيرا في تغيير طبيعة مدينة بغداد حيث زاد عددهم حتى بلغ بعد نصف قرن حوالي أربعة ملايين نسمة شكلوا 60 إلى 70% من عدد سكان بغداد حاليا . والفعل الأخر الذي وقع لمدينة بغداد هو بالهجرة المنظمة لسكانها المسيحيين إلى دول الغرب منذ ستينات القرن الماضي بسبب شعورهم بإضمحلال هويتهم وإنزواء ممارساتهم الدينية نتيجة لتعاظم أعداد النازحين الطارئين على مدينة بغداد من الذين يحملون عقائد دينية مخالفة ذات طبيعة مهيمنة , الأمر الذي جعلهم يشعرون بأنهم ليسوا بالمكان المناسب وإن وجودهم ومستقبلهم بخطر . الفعل الأخير والأكثر خطورة وقع بعد عام 2003 وكان بممارسة التطهير الطائفي والديني والعرقي , وبالذات أثناء الحرب الأهلية بالسنوات 2006 – 2008 . كان من نتائج هذا الفعل هجرة مئات الألوف من العراقيين هربا من أعمال القتل والخطف التي شاعت بالبلاد . كان أكثر المهاجرين هم من العرب السنة والمسيحيين وبعض الشيعة الذين لم يرق لهم ما أل اليه حال البلاد , وقد وقعت معظم تلك الهجرة من مدينة بغداد مع نسب أقل من بعض المدن العراقية الأخرى . أخذ هذا التطهير شكلا معلنا في سنوات الحرب الأهلية , لكنه ظل يمارس بالخفاء حتى بعد إنتهائها ولا زال مستمرا حتى اليوم , ولم تبقى دولة بالعالم لا يوجد فيها اليوم عدد من اللاجئين العراقيين . فقدت مدينة بغداد نسبة كبيرة من سكانها الأصليين بعد هذه الهجرة التي كان الكثير منهم يتوقع عودتهم إليها بعد أشهر أو حتى سنين قليلة , لكن ها قد أخذت تمضي عقود ولم تحصل هذه العودة مما يؤشر نهاية مثل هذه الأحلام , خصوصا بعد أن عاش أولادهم وولد بعض أخر منهم في بلدان ومجتمعات مختلفة .
بناء على ما تقدم فأنا أرى شخصيا بان ما حافظت عليه مدينة بغداد طوال 1200 سنة من عمرها قد فقدته خلال المئة سنة الأخيرة , وإنها لن تعود إلى طبيعتها السابقة مطلقا . أن مستقبل مدينة بغداد بنظري هو أن تستمر بوتيرة التغير التي أصابتها وستصبح بالنهاية كأي مدينة جنوبية أخرى بالعراق , لكنها ستكون مدينة مكتظة تعوزها الخدمات الحضارية الصحيحة وتسودها العشوائيات , وليس من المستبعد بأن تتحول بسبب هذا الإكتظاظ وضعف الحكومات والقوانين إلى مدينة تسودها المافيات وتعشعش في ربوعها الجريمة مما سيجعلها من أخطر مدن العالم معيشة . هناك عاملا قويا ساعد بالوصول إلى هذه النتيجة يكمن بأنه لم يحكم بغداد واحدا من سكانها طوال الألف سنة الماضية بإستثناء حيدر العبادي مما يحعل الحاكم لا يهتم أبدا بما يصيب هذه المدينة . أعتذر عن هذه النظرة التي فيها بعض السوداوية لكن هذا ما تشير إليه تكهناتي , وأدعوا الله بأن أكون مخطئا وأن تعود بغداد إلى ما عرفناها وعهدناها بصغرنا وشبابنا , والله على كل شيء قدير .
د. وسام الشالجي
14 تشرين الثاني 2019