بالماضي كانت هناك مراسيم وأعراف غاية بالروعة دأبت الدولة على ممارستها
تدلل فيها على عراقة الاصول الرسمية بالدولة العراقية وإرتفاع قيمة الإنسان
بنظرها من بينها مراسيم التشييع العسكرية . كانت القوانين العسكرية
السارية تقضي بان تقام جنازة عسكرية رسمية لكل ضابط عراقي من فئة القادة
(مقدم فما فوق) يتوفاه الله سواء ان كان بالخدمة او خارجها . كان هذا
الأجراء يمثل نوع من التكريم يدل على إرتفاع قيمة ضباط الجيش العراقي بنظر
الدولة وعلو مكانتهم في المجتمع وسمو نظرة
شعبهم اليهم . وحين سكنت في بيت جدي المطل على ساحة عنتر في بداية
السبعينات إعتدت بين فترة واخرى على ان اشهد مثل هذه المراسيم الني تقام من
أمام بيتنا حين يكون مكان دفن الضابط المتوفي في مقبرة الاعظمية . كانت
المراسيم تبدأ من ساحة عنتر وتنتهي بالمقبرة التي تقع بجانب جامع الامام
الاعظم . كان سير السيارات يقطع ويصطف رتلان من الجنود على جانبي الشارع
المتوجه للمقبرة بمستوى فصيل من كل جانب . وعادة ما يتقدم موكب التشييع
فرقة موسيقى عسكرية تتبعها سيارة عسكرية مكشوفة يوضع عليها الجثمان بعد أن
يلف بالعلم العراقي ، يتبعها اهل وذوي الفقيد . وعادة ما تسبق الموكب فرقة
عسكرية تذهب للمقبرة لحفر القبر وتهيئة مراسيم دفن الجثمان عند وصوله .
يبدأ موكب التشييع حين يصدر الضابط المكلف بقيادته الأمر للجنود بالاستعداد
وحمل السلاح بشكل منكوس حدادا على الضابط الراحل ثم ينطلق الموكب بمسير
الجنازة على انغام فرقة الموسيقى العسكرية التي تعزف الحان خاصة بالتشييع .
في اول مرة شهدت مثل هذا المواكب اصبت بالرهبة وسيطرت عليَ مشاعر الاعجاب الشديد بها مما دفعني لمرافقة الجنازة الى اخر مراحلها . كنت ارى الناس الذين يشهدون الموكب السائر من على جانبي الطريق يؤدون التحية للجنازة التي يجري تشييعها بينما يقرأ أخرون سورة الفاتحة لها . وحين بصل الموكب الى باب المقبرة يتوقف الموكب عن المسير وتقوم فرقة من الجنود بحمل الجثمان الى الداخل حيث القبر المحفور الذي ستدفن فيه . يرفع العلم العراقي عن التابوت ثم تجري مراسيم الدفن التي كانت تنجز بالكامل من قبل الجنود . وحين تصل عملية الدفن لمرحلة معينة يصدر الضابط الذي يقود الموكب لحملة الابواق أمرا بعزف لحن الرقود تطلق خلاله مجموعة من الجنود عدة اطلاقات نارية بينما يؤدي بقية الجنود سلام الأمراء كأخر تحية عسكرية تؤدى للضابط الراحل . وحين ينتهي كل شيء يغادر افراد الموكب العسكري المكان بينما يبقى ذوي الفقيد لتلقي التعازي من المعزيين .
ان عبرت هذه المراسيم العريقة عن شيء فانما كانت تعبر عن عظمة الدولة العراقية بوقتها وكم كانت دولة رفيعة لا تدخر جهدا في التعبير عن اعتزازها واحترامها وعلو نظرتها لرجالها ومواطنيها وخصوصا ضباط جيشها . واليوم فقدت للأسف هذه الدولة تلك العراقة وزالت من قاموسها تلك الرفعة واصبحت تافهة بكل شيء وانحطت قيمة كل مؤسساتها بما في ذلك مكانة جيشها . ليس هذا فقط ، بل ان رؤية الضابط نفسه بالشارع او المحلات العامة اصبح معدوما لأن الضابط صار يخاف ان يرتدي ملابسه العسكرية ويمشي بالشارع بالعلن ، والمؤسف أكثر أننا أصبحنا نرى من خلال الصور والفيديوات ضباط لا تليق بمنظرهم حتى الرتب العسكرية التي يرفعونها على اكتافهم مهما كانت عالية ورفيعة . رحم الله أيام زمان ورحم رجال ذلك العصر .
وسام الشالجي
25 تشرين أول (أكتوبر) 2018
25 تشرين أول (أكتوبر) 2018